السير حتى عبر البحر إلى بلاد الحبشة. ومنا من أبعد السفر حتى انتهى إلى أعماق فارس. ولكني أرى أن تمعن في غير إسراف، وأن تبعد دون أن تنقطع عن جماعة من قومك. والأيام خليقة أن تغريك بالأسفار البعيدة والرحلة المتصلة. فقم يا بني فأصلح من شأنك، وهيئ أهلك لهذا الفراق، فما أظن أن آمنة سترضاه أو تستريح إليه.
قال ذلك في لهجة ملؤها الحنان المقنع، والجد الذي لا يحتمل الجدال ولا يبيح رجع الجواب. وكان الفتى يسمع له راضيا، تظهر على وجهه آثار الطاعة والثقة. حتى إذا فرغ من حديثه أطرق الفتى غير طويل، ثم رفع رأسه وهم أن يتكلم فلم يجد ما يقول، فنهض مسرعا حتى خرج من المسجد ومضى أمامه لا يلوي على شيء. وكانت شمس الضحى قد ارتفعت حتى قاربت أن تستوي في كبد السماء، وكانت أشعتها الحارة المحرقة قد أخذت تلح على الأرض والناس، حتى قهرتها وقهرتهم أو كادت. والفتى ماض في طريقه كأنه السهم لا يلتفت يمنة ولا يسرة، ولا يكاد ينظر إلى أبعد من مواقع قدميه. وإنه لفي ذلك وإذا صوت عذب يأتيه من قريب بهذا البيت:
يا مسرعا والناس من حوله
يسعون لم يأن لغاد رواح
فيهم أن يقف، ولا يكاد يفعل حتى يأخذه صوت آخر ليس أقل عذوبة ولا حسن وقع في النفس من ذلك الصوت الأول:
يا مطرقا والأرض من حوله
يزينها حسن الوجوه الصباح
هنالك يقف الفتى ويلتفت صوب الصوت، ولكنه لا يكاد يفعل حتى يمسه صوت آخر فيه نعومة الحرير، وعذوبة الماء النمير:
عرج علينا فأقم ساعة
فعندنا إن شئت روح وراح
Página desconocida