وكانت قلوب قريش قد تفطرت حزنا، وتصدعت أسى لقول هذه الفتاة وهي تبكي، وقد التزمت أخاها تعانقه وتقبله وتغسل وجهه الناصع بدمعها الغزير وهي تصيح: لأموتن قبل أن تموت! فما زالت قريش بالشيخ تلاينه حينا وتخاشنه حينا، حتى اضطرته أن يقبل تحكيم الآلهة.
قالت سمراء وقد بلغ بها الهلع أقصاه: ثم ماذا؟ قالت الفتاة: ثم لا أدري! تركتهم يتأهبون لإجالة القداح بين الفتى والإبل، وأقبلت أقص عليك النبأ فرأيتك فيما كنت فيه من حزن عميق.
قالت سمراء: يا بؤسا لهذه الحياة! لا يسعد فيها الناس بخير - مهما يكثر - كل السعادة، ولا يشقى فيها الناس بشر - مهما يعظم - كل الشقاء. أسعيدة أنا بموت الحارث أم شقية؟ لو قد عاش لذقت الآن ما تذوقه فاطمة من هذا الحزن اللاذع والخوف المهلك. ولكني كنت أوثر مع ذلك أن يعيش؛ فقد كان يمكن أن تخطئه القداح، وقد كان يمكن إن لم تخطئه في المرة الأولى أن تخرج على الإبل من دونه، وقد كنت أستمتع به أعواما. ولكن هلم لا مقام لنا الآن، لنسرع إلى حيث هم لنشاركهم فيما يجدون. وا حسرتاه! إني لصادقة الحزن! إني لصادقة الخوف! إني لشديدة الإشفاق! إني لشديدة الرجاء! ولكن فاطمة ستظن بي سوءا، وستقدر أني أقبلت غير بريئة النفس من الشماتة. قالت ذلك ونهضت يدفعها حزنها الخالص ويردها خوفها من سوء الظن. ولكنها أسرعت مع ذلك، وأسرع معها إماؤها. ولم تكد تتقدم في الطريق نحو المسجد حتى سمعت أصواتا ورأت اضطرابا، ثم تبينت في الأصوات فرحا، ورأت على الوجوه بشرا، وعرفت أن القدح قد خرج بعد لأي على مائة من الإبل، وأن عبد المطلب يؤذن في الناس أنه سينحر هذه الإبل بين الصفا والمروة، وأنها حرام عليه وعلى بني هاشم، مباحة لغيرهم من الناس والحيوان والطير.
فأسرعت سمراء حتى اختلطت بفاطمة وبناتها، وهن سائرات يحطن بالفتى، ويحلن بينه وبين غيره من الناس، حتى إذا بلغن البيت ألفين فيه امرأتين تبكيان، إحداهما هالة بنت وهيب أم حمزة وزوج عبد المطلب، والأخرى بنت عمها اليتيمة آمنة بنت وهب.
هنالك أقبلت سمراء هادئة باسمة إلى الفتاة، فكفكفت من دموعها، ضمتها إليها وقبلت جبينها الطلق. ثم التفتت إلى عبد الله وهي تقول: «هلم يا فتى فقبل أهلك، فمهما تغل لها في المهر فلن تبلغ هذه الدموع التي ذرفتها حزنا عليك.» ثم نظرت إلى فاطمة وهي تقول: «ألا ترين أنها أحق فتيات قريش أن تكون له زوجة!»
الفصل الرابع
الإغراء
أقبل أبناء عبد المطلب فهيئوا لأبيهم مجلسه في المسجد غير بعيد من بئره التي كشفت له. وأقبل الشيخ بعد قليل مشرق الوجه باسم الثغر، فأسرع إليه أبناؤه يلقونه بالتحية ويقرءون عليه السلام. وأقبل عليهم يحييهم ويدعو لهم، حتى إذا أخذ مكانه أشار إليهم فجلسوا من حوله، قال قائل منهم وعلى ثغره ابتسامة فيها حب وفيها دعابة، وفيها غيرة لا تكاد تبين: لم يأت بعد، وما علمناه منذ حين إلا نئوم الضحى. قال الشيخ وابتسم كالمغضب: حسبك! فكلكم قد أدركه الضحى ولما يرفع رأسه عن الوساد. ثم أخذوا في حديث القافلة التي كانت تتهيأ للرحلة إلى الشام، وأخذ أبناء الشيخ يتحدثون إلى أبيهم بما أعد أغنياء قريش من عروض التجارة لتحمل إلى بصرى وما يليها من بلاد الروم.
وهم في الحديث وإذا الفتى يقبل وسيما قسيما مستقيم القد معتدل القامة، قريب الخطى شاخصا بصره إلى السماء، حتى إذا دنا من أبيه أقبل عليه فحياه، وتلقاه الشيخ رفيقا به عطوفا عليه، ثم أذن له بالجلوس وأدنى مكانه منه، وأعرض عنه حينا كأنه يسمع لحديث أبنائه عن القافلة كيف تهيأ، وممن تكون، ومتى تفصل. ثم التفت إلى ابنه الشاب وقال له وهو يبتسم: ما أرى يا بني إلا أنك قد أحببت النعمة وآثرت لين العيش! وكلنا قد أحب النعمة كما تحبها، وكلنا آثر اللين كما تؤثره، وكلنا قد لزم أهله حتى كاد ينسى كل شيء، ولكن الأيام تنبه الغافل، وتوقظ النائم، وتذكر الناسي. وإني لأحب أن أنبهك قبل أن تنبهك الأيام، وأن أوقظك قبل أن توقظك الأحداث، وأن أذود عنك النسيان قبل أن تذوده عنك الخطوب. وخير لك يا بني أن تترك النعمة الآن لتعود إليها بعد حين من أن تظل فيها مغرقا وعليها حريصا ولها لازما، حتى تضيق بك وتنفر منك، وتنصرف عنك إلى غير رجعة. وفي الرحلة يا بني مع عمك الأدنيين رياضة لك يسيرة على احتمال الصعاب واقتحام العقاب، وتسلية لك هينة عن هذه اللذة المتصلة والنعيم المقيم. وما أشك في أنك ستترك أهلك كارها لذلك ضيقا به، ولكنك ستستعذب الفراق وتستلذ النوى، وتجد من ذكر أهلك على نزوح الدار وبعد المزار، مثل ما تجد من حب أهلك والدار قريبة والمزار يسير. فهيئ نفسك للرحيل مع العير، واحرص على ألا تعود أقل ثراء من أمثالك الذين سيرحلون إلى الشام من شباب قريش. وقد أجمعت وأجمع إخوتك أن نكل إليك ما عندنا من هذه العروض التي تجمعت لنا منذ أشهر لتحملها لنا إلى بلاد الروم، فتتاجر لنا فيها، وتقاسمنا ما تغل علينا من ربح. والرأي أن تسعى في أصهارك بني زهرة بمثل ذلك، فتحمل عنهم عروضهم وتقضي لهم حاجاتهم. وما أظن أنك صفر اليد؛ فقد تستطيع أن تتخذ لك حظا من تجارة تقصرها على نفسك، حتى إذا رجعت إلينا كنت موفور الحظ من المال بما يجتمع لك من ربح هذه التجارة كلها. كلنا يا بني قد رحل إلى الشام حينا وإلى اليمن حينا وإلى العراق حينا آخر، ومنا من أمعن في الرحلة حتى بلغ مصر. ومنا من أغذ
1
Página desconocida