قال إبليس: «ولم يخزكم ما رأيتم من صبرهن واحتمالهن؟!» ثم سكت قليلا، ثم قال: «بم يدعوك هذا الحي من قريش؟»
قال الشخص الماثل: «يدعونني هبل.»
قال إبليس: «ويزعمون أنك أكبر آلهتهم، فعد إلى مكانك مدحورا مخذولا، لأؤمرن عليكم النساء منذ الليلة، ولأعقدن لواءكم للعزى.»
ثم عاد إبليس إلى صمته، وإن الظلمة لتضطرب من حوله اضطرابا شديدا، كأنما جرى الخوف في طبقاتها، فبعث فيها رعدة غريبة تقشعر لها الأرض اقشعرارا. ثم قال إبليس بعد هنيهة: «فأين الذين كلفتهم أن يحملوا إلي من تراب الأرض؟»
قالت أصوات مختلطة: «ها نحن هؤلاء.»
ثم جعل كل واحد منهم يدنو فيرفع إلى وجه إبليس قبضة من تراب فيشمها، ثم يشير إلى صاحبها أن ألقها فيفعل. حتى إذا دنا منه أحد هؤلاء الرسل وقرب إلى أنفه قبضة التراب التي كانت في يده، لم يكد يشم ريحها حتى أخذه ذعر شديد، فنهض قائما وهو يقول في صوت المرتجف المغيظ: «هو ذاك! هو هذا الوجه من بلاد العرب، قد ألم به الحدث العظيم. هو هذا الحي من قريش، قد فسد الأمر فيه علينا أشد الفساد.»
قالت الأصوات واجفة خائفة: «تكبرت! فماذا تأمرنا أن نفعل؟»
قال: «سنرى.» ولكنه لم يكد ينطق بهذه الكلمة حتى صعق، وصعقت الشياطين من حوله، وانجابت الظلمة في أيسر من لحظة، وأشرقت الأرض بنور عظيم وصل بينها وبين السماء، ولصق الشياطين بأديم الأرض كأنهم ذرات من تراب، وامتلأت أقطار الجو بصوت مهيب، ولكنه عذب يقول: «ألا إن الكتاب قد بلغ أجله. ألا إن أحمد قد نبئ منذ الليلة.»
ثم ينقبض الضوء مرتفعا إلى السماء، ويتجرد الليل القاتم من ثوبه المشرق، ويعود الفضاء العريض كهيئته حين كانت تطبق عليه الظلمة الكثيفة. وتمضي لحظات قد هدأ فيها كل شيء، وإذا صوت خفيف لطيف كهفيف النسيم يضطرب في الجو قائلا: «ويلكم! هبوا! فقد آن للجن أن ينصرف عنكم، وآن لقلوبكم أن تبرأ من الفرق.»
وهذه الأصوات تنبعث من أديم الأريض كأن كل ذرة من ذرات التراب قد استحالت إلى شخص يسمع ويبصر ويتحرك ويريد. وهذا إبليس قد اتخذ مكانه من أعوانه ورسله، وهو يلقي إليهم الأمر، ويبعث فيهم النشاط، ويوكلهم بأقطار الأرض، ويأخذهم بأن يكونوا أشد حذرا، وأكثر احتياطا، وأعظم إغواء للناس. ثم يتجه إلى جماعة منهم قائلا: «أما أنتم فاكفوني شر هؤلاء الأحبار من يهود، وهؤلاء الرهبان من النصارى؛ فقد أخذوا منذ حين يفقهون التوراة والإنجيل، ويتحدثون إلى عامة الناس بما لم يكونوا يتحدثون به من قبل. فكفوهم عن ذلك ما وجدتم إلى كفهم سبيلا، واحملوهم على أن ينكروا ما عرفوا، ويجحدوا ما قالوا، واملئوا قلوبهم زيغا، وعقولهم ضلالا.»
Página desconocida