قال ميسرة وقد دعاه صوت مولاته من بعد، فهو حائر مرتبك: «كلا يا مولاتي! لقد قصصت عليك من أمر التجارة كل شيء، وما أرى أني حدثتك منه بجديد! فقد سبقني إليك محمد وجه النهار، فأنبأك بما أتاح الله لتجارتك على يده من الربح والنماء.»
قالت خديجة: «هو ذاك! فما قيامك إذا في مكانك؟ وما اضطراب عينيك وما شرود خواطرك؟ وما منظرك هذا الحائر الذي لم أشهده منك قط، وما أكثر ما رحلت بتجارتي، وما أكثر ما عدت إلي رابحا حينا، خاسرا حينا!»
قال ميسرة: «فإن لهذه الرحلة أنباء أخرى ما أدري أيهم مولاتي أن تعرفها! وما أدري أينبغي لي أن أخفيها عليها أو أكتمها إياها! وما أدري أأستطيع إخفاءها أو أقدر على كتمانها، وما أرى إلا أني إن خرجت دون أن أقص على مولاتي جليتها فلن أستريح! ولن أطمئن ولن أطعم النوم حتى أتحدث بها إلى أحد غيري من الناس.»
قالت خديجة وهي تشعر بشيء من الغبطة، ولكنها تخفيه وتكتمه، وتظهر لمولاها السذاجة والاستهانة بما سيقص عليها من الأنباء: «وما ذاك؟»
قال ميسرة: «هو أمر ابن عمك هذا الذي وكلت إليه تجارتك، وأنبته عنك في مالك، وأمرتني أن أكون له خادما، وعليه حفيظا.»
قالت خديجة: «فما باله؟»
قال ميسرة: «إنك لتسألين عن ذلك في هدوء لا أستطيع أن أجيبك بمثله يا مولاتي. وإني لأخشى أن تسمعي جوابي فتظني بي الظنون، وتتهميني بالجنون، كما ظن بي غيرك الظنون، وكما اتهمني غيرك بالجنون. ولولا أن الأمر لم يبق بيني وبين نفسي، وإنما شاركني فيه من آمنه وأطمئن إليه، لظننت بنفسي الظنون التي ظنوها بي، ولاتهمت نفسي بالجنون الذي اتهموني به، ولكني رأيت ولم يروا، وشهدت ولم يشهدوا، فلا بأس عليهم أن يسوء ظنهم بي ويقبح رأيهم في، ولا بأس علي إن أكدت لك أني لست مجنونا ولا مأفونا ولا ذاهب العقل، ولا مضيع الصواب.»
قالت خديجة: «قد أطلت! فأفض إلي بحديثك، ولا تسرف في هذا الكلام الذي لا يغني.»
قال ميسرة: «فإني لا أدري كيف أبدأ معك هذا الحديث؛ لأني لا أعرف له بدءا ولا أعرف له آخرا؛ فقد اختلط أمره علي اختلاطا. وأقسم لولا أني قصصت أمره على من لا أتهم، لما شككت في أني مضيع العقل، مفرق اللب.»
قالت خديجة: «حسبك! فابدأ حديثك من حيث شئت أن تبدأه، ولكن امض في غير هذا اللغو؛ فقد عرفت أنك عاقل غير مجنون، وأنت مستكمل عقلك وصوابك كله؛ فلا تضع على نفسك وعلي من الوقت والجهد ما نحن في حاجة إليه.»
Página desconocida