فابتسمت وواصلت عملي، فرجع يسأل: لم تبتسم كأنك لن تموت؟
فقلت له متهربا من مطاردته: سل معلمك آي.
فقال باستهانة: إنه لا يعرف أكثر مما تعرف.
وكان نضج حديثه مع هزاله وحداثته مما يهز النفس من أعماقها. وقد تابعت مغامراته الروحية بنظر ثاقب مسربل بالإعجاب الذي لا حد له، وقلت لنفسي إن هذا الغلام ذو موهبة غامضة خارقة تستعصي على الإدراك، مثير للقلاقل، متحدية للقوى المتربصة به، فماذا يخبئ له الغيب إذا جلس يوما على عرش أجداده؟ وكان نشاطه - مع ضعفه - مما يبعث على الذهول. كان ينام قليلا، يتعبد كثيرا كأنه كاهن، ويقرأ كثيرا كأنه حكيم، ولا يمل من طرح الأسئلة والنقاش. وضاق به الملك أبوه، فقال بمرارة: أثبت أنه جدير بأي كرسي إلا كرسي العرش!
ويوما لاحظت أنه يسترق من أبيه نظرة لم أرتح لها، فقلت له: إنك تدرك كثيرا من الأشياء، ولكنك لم تدرك عظمة أبيك بعد.
فقال بعصبية: ساءني منظره وهو يلتهم الطعام.
كان ينفر من أصحاب الشهوات المسيطرة. وكنت أتصور أن سلامة الجسم هي أساس لسلامة الروح، فأثبت لي أن العكس صحيح أيضا، وأن قوة الروح قد تمد الجسم الضعيف بقوة تفوق إمكاناته. ولا أنسى قوله لي مداعبا: إنك تهتم بالجسم كأنه كل شيء بينا القوة الحقيقية تكمن في الروح، هي الخالدة أما الجسم فهو بناء مهلهل قذر سيئ الأخلاق، سرعان ما يتقوض عقب قرصة حشرة!
وهتف وكأنه نسي وجودي تماما: لا أدري ماذا أريد، ولكني مليء بالرغبة، ألا ما أحزن الليل الطويل!
وكان يقبع في الظلمة منتظرا الشروق، ثم يتلقى النور فيتألق بالفرح، حتى تلقى يوما مع دفقة النور صوت الإله الواحد، وعصف الرعب بقلب طيبة المطمئن. وقلت لنفسي: إنه ليس نسمة من نسائم الربيع، ولكنه عاصفة من عواصف الشتاء!
واستدعاني الملك والملكة، وسألتني تيى: ما معنى هذا الصوت يا بنتو؟
Página desconocida