أصل الحكاية
كاهن آمون
آي
حور محب
بك
تادوخيبا
توتو
تي
موت نجمت
مري رع
Página desconocida
ماي
محو
ناخت
بنتو
نفرتيتي
أصل الحكاية
كاهن آمون
آي
حور محب
بك
Página desconocida
تادوخيبا
توتو
تي
موت نجمت
مري رع
ماي
محو
ناخت
بنتو
نفرتيتي
Página desconocida
العائش في الحقيقة
العائش في الحقيقة
تأليف
نجيب محفوظ
أصل الحكاية
ولدت الرغبة في أعقاب نظرة مفعمة بالإثارة، والسفينة تشق طريقها ضد التيار الهادئ القوي في أواخر فصل الفيضان. بدأت الرحلة من مدينتنا سايس ماضية جنوبا إلى بانوبوليس لزيارة أختي التي استقر بها الزواج هناك. وذات أصيل مررنا بمدينة غريبة، مدينة تطل من أركانها عظمة غابرة، ويزحف الفناء بنهم على جنباتها وأشيائها، مترامية بين النيل غربا ومحراب الجبل شرقا، متعرية الأشجار، خالية الطرقات، مغلقة الأبواب والنوافذ كالجفون المسدلة، لا تنبض بها حياة ولا تند عنها حركة، يجثم فوقها الصمت، وتخيم عليها الكآبة، وتلوح في قسماتها أمارات الموت. أجلت فيها البصر فانقبض صدري، وهرعت إلى أبي حيث يسترخي على أريكة فوق المنصة مجللا بشيخوخته، وسألته: ما شأن هذه المدينة يا أبي؟
فأجاب دون تأثر: مدينة المارق، المدينة الكافرة الملعونة، يا مري مون ...
فرجع البصر إليها بانفعال مضاعف وذكريات منثالة، ثم سألت: ألا يوجد بها حي؟
فأجاب أبي باقتضاب: ما زالت المرأة المارقة تتنفس في قصرها، أو سجنها، وهو الأصح، كما يوجد بعض الحراس بلا ريب ...
فغمغمت متذكرا: نفرتيتي!
Página desconocida
ترى كيف تعاني وحدتها وذكرياتها؟! وسرعان ما استعدت ذكريات صباي في قصر أبي بسايس، وحوار الكبار المحموم حول الإعصار الذي أطاح بأرض مصر، والإمبراطورية، وما سموه بحرب الآلهة، وفرعون الشاب الذي مزق التراث والتقاليد، وتحدى الكهنة والقدر. أجل، تذكرت تلك الأيام المنسية، وما قيل عن دين جديد، وتمزق الناس بين الإيمان والولاء، والجدل حول الحقائق الغامضة، والهزائم المريرة، والنصر المقترن بالحزن. ها هي مدينة العجائب مستسلمة للموت، ها هي سيدتها سجينة تتجرع الألم في وحدة، ها هو قلبي الشاب يدق بعنف طامحا لمعرفة كل شيء. وقلت لأبي: لن ترميني بحب الدعة بعد اليوم يا أبي، إن رغبة مقدسة تغزوني مثل ريح الشمال كي أعرف الحقيقة وأسجلها كما كنت تفعل في صدر شبابك يا أبي ...
فرمقني أبي بعينيه الكليلتين وتساءل: ماذا تريد يا مري مون؟ - أريد أن أعرف كل شيء عن هذه المدينة وصاحبها، عن المأساة التي مزقت الوطن وضيعت الإمبراطورية ...
فقال بجدية: ولكنك سمعت كل شيء في المعبد.
فقلت بحماس: قال الحكيم قاقمنا: «لا تحكم على قضية حتى تسمع الطرفين!» - الحقيقة هنا واضحة، فضلا عن أن الطرف الآخر، المارق، قد مات ... فقلت بحماس متصاعد: أكثر الذين عاصروه ما زالوا أحياء يا أبي، وجميعهم أقران لك وأصدقاء؛ فأي توصية منك لهم خليقة بأن تفتح لي مغاليق الأبواب ومكنون الأسرار؛ بذلك أحيط بجوانب الحقيقة قبل أن يأتي عليها الزمن كما أتى على المدينة ...
وواصلت إلحاحي عليه حتى استجاب لرغبتي، بل لعله تحمس لها في باطنه لسابق ولعه بتسجيل الحقائق، ولرسوخه في العلم الذي جعل من قصرنا منتدى لرجال الدين والدنيا؛ حتى عرف بين صحبه ب «صاحب الأرض الطيبة والحكمة النادرة»، كما عرف قصره بالندوات تروى بها الحكايات، وتردد الأشعار، وتمتد بها موائد البط والنبيذ.
وحرر لي رسائل توصية للكبار الذين عاصروا الأحداث، من شارك فيها من قريب أو بعيد، من ذاق حلوها ثم مرها، ومن ذاق مرها ثم حلوها. وقال لي: اخترت سبيلك بنفسك يا مري مون، فاذهب في رعاية الآلهة، أجدادك ذهبوا للحرب أو السياسة أو التجارة، أما أنت فتريد الحقيقة، وكل على قدر همته، ولكن احذر أن تستفز صاحب سلطان أو تشمت بساقط في النسيان، كن كالتاريخ يفتح أذنيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد، ثم يسلم الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين ...
وسعدت جدا بالخلاص من الخمول، والتوجه إلى تيار التاريخ الذي لا تعرف له بداية، ولن يتوقف عند نهاية، ويضيف كل ذي شأن إلى مجراه موجة مستمدة من حب الحقيقة الأبدية ...
كاهن آمون
رجعت طيبة إلى عهدها الزاهر بعد أن ذاقت مرارة الهجران والانطواء على عهد «المارق». أصحبت العاصمة من جديد، يزين عرشها فرعون الشاب توت عنخ آمون، وعاد إليها رجال السلم والحرب، واستقر الكهنة في معابدهم، وعمرت القصور، وغنت الحدائق، وشمخ معبد آمون بأعمدته العملاقة وحديقته الزهراء، وماجت الأسواق بالباعة والناس والسلع. كل شيء يتألق بالعزة والاستقرار، وتيار السابلة لا ينقطع. وكنت أزورها لأول مرة في حياتي، فبهرني جلالها وأبنيتها وناسها الذين لا يحيط بهم حصر، واقتحمتني أصواتها ونداءاتها وعجلاتها ومحفاتها، فتبدت لي بلدتي سايس بالمقارنة قرية خاملة خرساء. وقصدت في الموعد المضروب معبد آمون، فاخترقت بهو الأعمدة في إثر خادم، ثم ملت إلى دهليز جانبي أوصلني إلى الحجرة التي انتظرني بها الكائن الأكبر. رأيته يجلس في الصدر على كرسي من الآبنوس ذي مقبضين من الذهب، شيخا هرما حليق الرأس، داخل نقبة طويلة واسعة، يلف أعلاه بوشاح أبيض. وضح لي أنه رغم شيخوخته يتمتع بحيوية فائقة وقلب مطمئن. حيا أبي ونوه بإخلاصه قائلا: عرفتنا المحنة بالمخلصين من الرجال.
وأثنى على مشروعي متمتما: لقد حطمنا الجدران بما سجلت من أكاذيب، ولكن الحقيقة يجب أن تسجل.
Página desconocida
وحنى رأسه كالممتن وهو يقول: اليوم يتربع آمون على عرشه، ويقف في سفينته المقدسة بقدس الأقداس سيدا للآلهة، حاميا لمصر، رادعا لأعدائها، ويسترد كهنته سيادتهم الشاملة، هو الإله الذي حرر وادينا بيد أحمس، ومد حدودنا شمالا وجنوبا وشرقا وغربا بيد تحتمس الثالث، هو الإله الذي ينصر، ويذل من يخونه.
فركعت إجلالا حتى أذن لي، فجلست على مقعد منخفض بين يديه، واستجمعت حواسي للإصغاء، على حين راح الكاهن الأكبر يقول: إنها قصة حزينة يا مري مون بدأت فيما يشبه الهمس البريء، وجاءت البداية على يد الملكة العظمى أم المارق وزوجة فرعون العظيم أمنحتب الثالث. امرأة من الشعب لا يجري في عروقها دم ملكي، من أسرة نوبية، وكانت قوية وداهية كأن في رأسها أربع أعين ترى الجهات جميعا في وقت واحد، وكانت في الظاهر تحرص على إرضائنا ومودتنا، ولن أنسى قولها لي يوم احتفال بعيد النيل: أنتم الخير والبركة يا كهنة آمون!
وكان من عادتها أن تحدق في الرجال الأقوياء بعينيها النجلاوين حتى يحنوا الرءوس متعثرين في ارتباكهم. ولم نتوجس منها خيفة، ولا ننسى حب فراعين الأسرة المجيدة لكهنة آمون، حتى وجدنا الملكة تهتم بتوسيع مجال الدراسات الدينية لتشمل ديانات الآلهة الأخرى، وخاصة الإله آتون. ولم يعد الأمر في ظاهره أن يكون زيادة في المعرفة بديانات نحترمها جميعا ونقدسها؛ فلم نجد ثمة وجها للاعتراض، ولكن ساءنا أن تحظى الآلهة بذلك الامتياز في طيبة موطن آمون. ولم يلطف من مشاعرنا ما رددته تيى من أن آمون سيظل سيد الآلهة إلى الأبد، كما أن كهنته سيظلون على رأس كهنة مصر بلا استثناء. وقال لي توتو الكاهن المرتل: إني أستشف وراء القرار سياسة جديدة لا شأن لها بالدين في ذاته!
فطالبته بمزيد من الإيضاح، فقال: الملكة العظمى تخطب ود كهنة الأقاليم لتقيم توازنا بيننا وبينهم، فتحد من سلطان الكهنة وتقوي سلطة العرش.
فقلت له ولم أكن أخلو من الهواجس: نحن خدام الإله والشعب، نحن المعلمون والأطباء، والمرشدون في الدنيا والعالم الآخر، والملكة العظمى سيدة حكيمة، وهي لا شك تقر لنا بالفضل.
فقال توتو بامتعاض: النزاع على السلطة، والملكة قوية طموح، وهي في رأيي أقوى من الملك نفسه!
فقلت وكأنما أناقش مخاوفي: نحن أبناء الإله الأعظم، ووراءنا تراث أقوى من الدهر.
ولعله من المفيد الآن أن أحدثك عن الملك أمنحتب الثالث. لقد شيد له جده تحتمس الثالث إمبراطورية لم تسبق بمثيل في اتساعها وتعدد أجناسها. وكان ملكا قويا، يثب للدفاع عن أملاكه عند أول نذير يخطر، وحقق انتصارات حاسمة حتى دانت له الإمبراطورية بالطاعة الكاملة، غير أن عهده الطويل غلب عليه السلام والرخاء. جنى هو ثمار ما تعب أسلافه في زرعه، فانهمرت عليه المحاصيل والثياب والمعادن والنساء، وبنى القصور والمعابد والتماثيل، وغرق حتى أذنيه في الطعام والشراب والنساء. وعرفت المرأة الداهية نقاط القوة والضعف في زوجها فاستثمرتها على خير ما يكون الاستثمار. شجعته على الحرب حين الحرب، وتسامحت معه في شهواته مضحية بقلبها كامرأة لتشاركه سلطانه بكل جدارة، ولتمارس طموحها غير المحدود. ولا أنكر أنها كانت ملمة بكل صغيرة وكبيرة من شئون مصر أو الإمبراطورية، ولا أنكر إخلاصها وبعد نظرها وحرصها على المجد والعظمة، ولكني آخذ عليها نهمها للسلطة؛ ذلك النهم الذي سول لها أن تستغل الدين بنعومة ودهاء لتستأثر بالقوة للعرش دون الكهنة أجمعين. ثم تبين لي أن ثمة أفكارا أخرى تدور برأسها؛ فقد زارت المعبد يوما لتقديم القرابين، وتقدمتني بعد ذلك إلى مثوى الراحة بقامتها القوية المتوسطة، فلما استقر بنا المجلس سألتني: ماذا يحزنك؟
وجعلت أفكر في اختيار رد مناسب، ولكنها عاجلتني قائلة: إني أقرأ أسرار القلوب مثل الكهنة، إنك تظن أني أرفع من شأن الكهنة الآخرين على حساب كهنة آمون؟
فقلت مسلما: كهنة آمون هم أمناء أسرتكم المجيدة ...
Página desconocida
فقالت وعيناها تبرقان: إليك ما أفكر فيه أيها الكائن الأكبر، آمون سيد آلهة مصر، وهو يقوم أمام رعايانا في الإمبراطورية رمزا للسلطة وربما للهزيمة، أما آتون إله الشمس فإنه يشرق في كل مكان، وبوسع أي مخلوق أن ينتمي إليه دون غضاضة!
ترى أهذا حقا ما تفكر فيه أم إنه حجة جديدة تداري بها رغبتها الحقيقية في تقليم أظافرنا؟ على أن الفكرة نفسها لم تفز بإقناعي، وقلت: مولاتي، أولئك المتوحشون يحكمون بالقوة لا بالمودة!
فقالت باسمة: وبالمودة أيضا، ما يصلح لمعاملة الوحوش لا يصلح لمعاملة الحيوان المستأنس ...
وآمنت بأنها رؤية أنثوية عقيمة، وقد تثمر عواقب وخيمة، وهذا ما أثبتته الأحداث الأليمة فيما بعد.
وسكت الكاهن الأكبر كأنما ليتأمل أو ليتذكر، ثم واصل حديثه: ومما يذكر أنه صادفتها في مطلع حياتها الزوجية متاعب، فلبثت مدة غير قصيرة لا تنجب، تعاني المخاوف من شبح العقم، ويضاعف من مخاوفها أصلها الشعبي. وبفضل آمون وكهنته، وبفضل الدعوات الصالحات والسحر القوي، حملت الملكة، ولكنها أنجبت بنتا! وكلما التقينا في القصر أو المعبد رمقتني بنظرة حذرة مترعة بسوء الظن كأنني المسئول عن سوء حظها. وما كنا نفكر في تعكير صفو العرش أبدا، ولكنها كانت قليلة الثقة في الناس لفساد طويتها.
وسكت مرة أخرى كالمتردد ثم قال: وبطريقة غامضة أنجبت ذكرين!
وتريث الرجل حتى اشتعلت تساؤلاتي الخفية، ثم قال: مات أكبرهما وأصلحهما، وبقي الآخر ليمارس شذوذه في تخريب مصر.
وقرأ الكاهن تساؤلاتي المحرقة، فقال: نحن نعرف كيف نصيد الحقيقة وإن امتنعت عن الكثيرين، لنا من السحر قوة، ولنا من العيون قوة ... فالمارق مجهول الأب، فاقد الرجولة، مؤنث الصورة، متنافر القسمات ... وعلى مثال أبيه تزوج من فتاة من الشعب، جمعت في شخصها مثل أمه بين الأصل الشعبي والطموح الجنوني والفسق، جميلة عنيدة متحدية؛ فاندفعت معه في سياسته المدمرة، وأنجبت له ست بنات من رجال آخرين. ورغم حبه الظاهر لها فلعله لم يحب في الواقع إلا أمه، أعطته الحياة والأفكار. ولشدة التصاقه بها شعر بوحدتها وآلامها، فحنق على أبيه حنقا دعاه إلى الانتقام منه بعد موته، فمحا اسمه من الآثار بحجة اقترانه باسم آمون، أما الحقيقة فهي أنه أعدمه بعد موته بعد أن عجز عن قتله في حياته. وقد لقنته أمه دين آتون الذي آمنت به لأهداف سياسية، ولكنه آمن به إيمانا حقيقيا نابذا السياسة التي لم توافق طبيعته الأنثوية، ومنه مرق إلى الكفر، وهو ما لم تتوقعه أمه نفسها. ما زلت للأسف أتذكر صورته الكريهة ... ما كان رجلا وما كان امرأة، وكان ضعيفا لحد الحقد على الأقوياء جميعا من رجال وكهنة وآلهة. وقد اخترع إلها على مثاله في الضعف والأنوثة، تصوره أبا وأما في وقت واحد، وتصور له وظيفة وحيدة هي الحب! فكانت عبادته رقصا وغناء وشرابا، وغرق في مستنقع الحماقة معرضا عن واجباته الملكية، على حين كان رجالنا المخلصون في الإمبراطورية وأحلافنا الأوفياء يتساقطون تحت ضربات العدو، يستغيثون ولا يغاثون، حتى ضاعت الإمبراطورية، وخربت مصر، وخوت المعابد، وجاع الناس. هذا هو المارق الذي سمى نفسه إخناتون!
وصمت الكاهن الأكبر تحت وطأة الانفعال وحدة الذكريات، ثم شبك أصابع يديه في قبضة واحدة، وراح يقول: ومنذ نشأته الأولى جاءتني الأخبار عنه بلسان رجال لي في القصر ممن نذروا أنفسهم لآمون والوطن، وعنهم عرفت أن ولي العهد ينجذب نحو آتون ويهمل آمون، وأنه رغم حداثة سنه يلوذ بخلوة على شاطئ النيل يستقبل فيها الشروق بالأغاني. أدركت لتوي أنه صبي غريب ينذر بالمتاعب. وسعيت إلى مقابلة العرش، وأفضيت هناك للملك والملكة بمخاوفي. وابتسم أمنحتب الثالث وقال: ما زال ابني طفلا.
فقلت: ولكن الطفل يكبر ويحتفظ في أعماقه بأفكار طفولته.
Página desconocida
فقالت تيى: إنه ينشد الحكمة في كافة مظانها بقلب بريء.
قال فرعون: عما قريب يبدأ تدريباته العسكرية، ويعرف أهدافه الحقيقية.
فقالت تيى: لا حاجة بنا إلى المزيد من البلدان، ولكننا في حاجة إلى الحكمة للمحافظة عليها ...
فقلت بوضوح: لا سبيل إلى المحافظة عليها إلا بالاعتماد على آمون وممارسة القوة.
فقالت المرأة الداهية: ما رأيت حكيما يستهين بالحكمة مثلك يا كاهن آمون!
فقلت بإصرار: إني لا أستهين بالحكمة، ولكني أراها لغوا بغير سند من القوة.
فقال أمنحتب: لا خلاف في هذا القصر على أن آمون هو سيد الآلهة.
فقلت بقلق: إنه انقطع عن زيارة المعبد.
فقال الملك: صبرا، عما قليل سيؤدي كافة واجباته كولي للعهد ...
لم أرجع من اللقاء بما يسكن الخواطر، بل لعل مخاوفنا - نحن الكهنة - وجدت ما يسوغها ويقويها. وجاءتنا أنباء جديدة عن حوار دار بينه وبين والديه، أدركنا منه أن ذلك الجسد المهزول ينطوي على سراديب قوة وعناد شريرة تنذر بأوخم العواقب. وذات يوم قابلني أحد أتباعي وقال لي: الشمس نفسها لم تعد إلها!
Página desconocida
فسألته عما يعني، فقال: إنهم يتهامسون هناك عن إله جديد لم يعرف من قبل تجلى لروح ولي العهد، وطالبه بأن يعبده باعتباره الإله الوحيد الحقيقي في الوجود، هو وحده لا شريك له، وكل معبود سواه باطل.
صعقني الخبر صعقا، وأيقنت أن الموت الذي خطف الأخ الأكبر أهون وأرحم من الجنون الذي حل بالأصغر، وتجسدت أمام عيني الكارثة في أبشع صورة. - أأنت واثق مما تقول؟ - إنما أنقل إليكم ما يتهامس به الجميع. - وكيف تجسد له ذلك الإله المزعوم؟ - سمع صوته فقط ... - لا شمس ولا نجم ولا تمثال؟ - لا شيء البتة. - وكيف يعبد ما لا يرى؟ - إنه يؤمن بأنه القوة الوحيدة الخالقة. - لقد أذاب المجنون ذاته في اللاشيء!
وقال الكاهن المرتل توتو: لقد جن وفقد الأهلية لتولي العرش.
فقلت برجاء: اهدأ يا توتو؛ فمهما كفر فستظل الآلهة باقية معبودة للملايين ...
فتساءل بحدة: ولكن كيف يتولى العرش كافر مارق؟
فقلت بكآبة: فلننتظر حتى تعلن الحقيقة، ثم نقدم على طرح الموضوع للمناقشة مع الملك، وسوف تكون المناقشة الأولى من نوعها في تاريخنا الطويل ...
وحدث أن تزوج ولي العهد من نفرتيتي الابنة الكبرى للحكيم الصديق آي. كانت أيضا مثل الملكة العظمى تيى من أصل شعبي، ولكني تعلقت بأمل واحد رآه، وهو أن يرده الزواج إلى شيء من التوازن. ودعوت آي إلى مقابلتي فوجدته حذرا في حديثه، فقدرت حرج مركزه، ولم أشر من جانبي إلى أنباء الكفر، ولكني اتفقت معه على أن يرتب لتدبير زيارة سرية تتم بيني وبين ابنته. وتأملتها بعين فراستي المستمدة من روح آمون، فتكشف لي جمالها عن قوة ذكرتني بالملكة العظمى تيى، فرجوت أن تكون هذه القوة لنا لا علينا. وقلت لها: تقبلي بركاتي يا ابنتي وابنة صديقي آي.
فشكرتني بعذوبة، فقلت: أرى من واجبي أن أذكرك، ولست في حاجة إلى تذكير، بأن العرش يقوم على ثلاثة؛ آمون سيد الآلهة، وفرعون، والملكة.
فقالت: سعيد من يصغي إلى حكمتك.
فقلت: والملكة الحكيمة تشارك الملك في المحافظة على الوطن والإمبراطورية.
Página desconocida
فقالت بثبات: أيها الكاهن المقدس، قلبي مليء بالحب والإخلاص.
فقلت بوضوح: مصر مثوى التقاليد الخالدة، والمرأة هي الوعاء المقدس للتقاليد.
فقالت بالثبات نفسه: وقلبي مليء بالواجب أيضا.
يا لها من حذرة متحفظة كتمثال بلا نقوش تفسره. لقد تكلمت ولم تقل شيئا، ولم يكن بوسعي أن أكاشفها بأكثر من ذلك. غير أنها في الحقيقة قد قالت أكثر من المتوقع. إن تحفظها يعني أنها تعرف كل شيء، وأنها لن تكون معنا. إنها مرشحة للعرش بضربة حظ خليقة أن تدير أكبر رأس، وسيكون همها الأول في الحياة المحافظة على العرش، لا آمون ولا الآلهة. وأقمت مع الكهنة صلاة للحزن في قدس الأقداس، ثم وافيتهم بفحوى الحوار بيني وبين نفرتيتي، فقال توتو معلقا: سينكشف الغد عن ليل طويل.
ثم خلا إلي متسائلا: ألا تستطيع أن تناقش المستقبل مع القائد ماي؟
فلمحت ما يرمي إليه وقلت بصراحة: لا نستطيع أن نتحدى أمنحتب الثالث والملكة العظمة تيى.
بدا أن الأمور لا تسير يسيرة في القصر بين المجنون ووالديه؛ من أجل ذلك صدر أمر ملكي لولي العهد ليقوم برحلة تعارف في أرجاء الإمبراطورية. ولم أشك في أن الملك أراد أن يعرف ابنه رعاياه، وأن يعيش الواقع لعله يفيق من ضلاله. وحمدت له ذلك في نفسي، غير أن كآبتي ظلت راسخة. وفي أثناء الرحلة حدثت أمور على جانب كبير من الأهمية؛ فقد أنجبت تيى توءمين هما سمنخ رع وتوت عنخ آمون. بعد فترة تدهورت صحة الملك العجوز ومات، ورحل مبعوثون إلى ولي العهد بالأخبار ليرجع فيتولى سلطته. وتشاورنا نحن الكهنة حول مستقبل البلاد فاتفقنا على رأي. وسعيت إلى مقابلة الملكة تيى رغم الحداد وانشغالها بتحنيط زوجها. وجدتها في حزنها قوية ثابتة واعية بأهدافها، وكان علي أن أصارحها بما جئت من أجله مهما كلفني ذلك. قلت: جئت يا مولاتي لأفضي برأيي إلى الأم الشرعية للإمبراطورية.
وأصغت إلي ومنظرها يوحي بأنها تحدس بفطنة ما سيقال. - مولاتي، أصبح معروفا أن ولي العهد قد كفر بجميع الآلهة.
فتجهم وجهها وقالت: لا تصدق كل ما تسمع.
فقلت بلهفة: إني على استعداد لتصديق ما تقولين يا مولاتي.
Página desconocida
فقالت باقتضاب: إنه شاعر أيها الكائن الأكبر.
ولذت بالصمت بغير اقتناع، فقالت بثقة: سوف يعرف واجبه تماما.
فقلت مستجمعا شجاعتي: مولاتي تعرف عواقب الكفر بالآلهة على العرش!
فقالت بضيق: لا خوف على عبادة الآلهة!
فقلت مستزيدا من شجاعتي: أمامنا حل إذا مست الضرورة إليه، وهو أن نولي أحد ابنيك الصغيرين وتكوني الوصية على العرش!
فقالت بحزم: سيحكم أمنحتب الرابع؛ لأنه ولي العهد.
هكذا غلبت الأم العاشقة الملكة الحكيمة، وضيعت فرصة النجاة، وأتاحت للقدر أن يضرب ضربته القاتلة.
ورجع ولي العهد المؤنث المجنون. ودفن الملك الأب في موعده. وسرعان ما طلبت لمقابلته بصفته الرسمية. لأول مرة أراه عن قرب وأمعن فيه النظر. كان ذا سمرة غامقة، وجسم طويل نحيل، وعينين حالمتين، وتكوين أنثوي لا يخفى على أحد، أما ملامحه فمتنافرة مثيرة للقلق. إنه كائن هزيل حقير لا يليق بعرش، ولا يتصور أن يتحدى بعوضة لا آمون سيد الآلهة. وداريت تقززي وعزيته مقتبسا من حكم الحكماء وشعر الشعراء، وهو يرمقني بنظرات محيرة، لا كراهية فيها ولا تحد ولا ود. وشتت منظره فكري لدرجة أن غلبني الصمت، فبادرني هو قائلا: طالما تسببت لي في مناقشات مرهقة مع والدي!
فاسترددت قدرتي على الكلام فقلت: لا هم لي في الحياة إلا آمون والعرش ومصر والإمبراطورية ...
فقال بهدوء: لديك ما تقوله ولا شك.
Página desconocida
فقلت وأنا أتأهب لخوض المعركة: سمعت أنباء مقلقة، ولكني لم أصدقها.
فقال بلا مبالاة: إنها حقيقية!
فذهلت وانعقد لساني، فواصل حديثه: إني المؤمن الوحيد في بلد من الضالين. - لا أصدق أذني. - بل صدقهما، لا إله إلا الإله الواحد.
واقتحمني الغضب لعقيدتي؛ فلم أعد أبالي بالعواقب دفاعا عن آمون وسائر الآلهة.
وقلت بصراحة مخيفة: هذا تجديف لن يغفره آمون لبشر ...
فقال بهدوء باسم: لا يملك منح المغفرة إلا الإله الواحد.
فقلت وأنا أنتفض من شدة الانفعال: إنه لا شيء.
فبسط ذراعيه بحنان وقال: هو كل شيء؛ الخالق ... القوة ... الحب ... السلام ... السرور.
ثم ثقبني بنظرة نافذة تتناقض تماما مع هيكله الواهن: إني أدعوك للإيمان به.
فقلت محذرا محتدا: احذر غضب آمون، إنه قادر على المنع قدرته على العطاء، قادر على العون قدرته على الخذلان، قادر على التأمين قدرته على التدمير، خف على رزقك وذريتك وعرشك وإمبراطوريتك.
Página desconocida
فقال متماديا في الهدوء: إني طفل يحبو في رحاب الواحد، وبرعمة تتفتح في حديقته. إني راض بقدره، خادم لأمره. وقد تعطف فتجلى لروحي حتى أترعت بالأنوار، وسالت بالأنغام. ولن أبالي بعد ذلك بشيء!
فقلت بغضب: إن ولي العهد لا يصير فرعون حتى يتوج بين يدي آمون!
فقال باستهانة: بل يتوج تحت نور الشمس في رعاية الخالق الوحيد ...
وافترقنا على أسوأ حال . معي آمون والمؤمنون، ومعه تراث أسرته المجيدة، ومنزلته المقدسة عند رعاياه، وجنونه الذي لا يبالي بشيء. وتوثبت للحرب المقدسة موطنا نفسي على التضحية فداء لإلهي ووطني، ولم أتوان عن العمل لحظة. وقلت لأبنائي الكهنة: فرعون الجديد كافر، عليكم أن تعلموا بذلك، وأن تعلموا الناس به ...
ورغم حماسي وجدتني مسوقا إلى كبح جماح توتو الكاهن المرتل، فاقترحت عليه الانضمام في الظاهر إلى المارق ليكون عينا لنا عليه، ومن ناحية أخرى فلم يتوان الملك أيضا عن العمل، فتم التتويج في رحاب الإله المزعوم، وأصر بتشييد معبد له في طيبة؛ مدينة آمون المقدسة، وراح يعرض دينه على الرجال ليختار معاونيه؛ فأعلن صفوة مصر إيمانهم بدوافع شتى ولهدف واحد، وهو تحقيق طموحهم على حساب عقيدتهم. ولو جاهر الرجال بالعصيان لتغير المصير، ولكنهم سقطوا كالنساء الداعرات. هذا الحكيم آي اعتبر نفسه ضمن الأسرة، فأسكره الجاه وأعماه، وحور محب الجندي الشجاع لم يكن صاحب عقيدة صادقة؛ فكان الأمر بالنسبة إليه مجرد تغيير اسم لا معنى له، أما الآخرون فلم يكونوا سوى منافقين لا هم لهم إلا الجاه والمال. ولولا ارتدادهم عن غيهم في اللحظة الحرجة لاستحقوا القتل. وقد فازوا بالحياة، ولكنني لا أكن احتراما لأي منهم. واشتد التوتر في طيبة، وانقسم الناس بين الولاء لآمون والولاء للمجنون سليل أعظم أسرة في تاريخنا المجيد. وجزعت الملكة الوالدة تيى وهي ترى غرس يديها وهو يتحول إلى نبات سام، وهو ينحدر نحو الهاوية جارا معه أسرته إلى الفناء. وواظبت على زيارة معبد آمون وتقديم القرابين، محاولة تلطيف موجة التمرد العارمة التي تهدد باقتلاع العرش. وجعلت تقول لي: بالولاء تكسبون، وبالتمرد تخسرون ...
وكنت أقول لها: كيف تطالبيننا بالولاء لكافر؟! ليتكم آمنتم بنصائحي!
فتقول لي: علينا أن نطرد اليأس من أفقنا!
لقد ثبت عجزها أمام ابنها المؤنث المدلل، وانهارت قوتها التقليدية حيال قوة جنونه الخفية، ولم يكن مفر من أن نواصل القتال حتى النهاية. من أجل ذلك ضاق المجنون بطيبة، وترامت إلى مسمعه هتافات عدائية في عيد آمون، فادعى أن إلهه أمره بالهجرة إلى مدينة جديدة تشيد من أجله. هكذا أجبرناه على الهجرة مصحوبا بثمانين ألفا من المارقين ليقيموا لأنفسهم سجنا تحل به اللعنة. وخلا لنا الجو لإدارة معركتنا المقدسة، وخلا له الجو للإمعان في الكفر والضلال حتى انقلبت العاصمة الجديدة مدينة للملاهي والسكر والعربدة والفسق التي يبشر بها إله مجهول الهوية، شعاره الحب والسرور! وكلما ألح على المجنون ضعفه الطبيعي غالى في إظهار قوته؛ فأمر بإغلاق المعابد، ومصادرة الآلهة وأوقافها، وتشريد الكهنة. وقلت لأبنائي الكهنة: لا قيمة للحياة بعد إغلاق المعابد؛ فأحبوا الموت.
وقد وجدنا في بيوت المؤمنين مأوى، وفي قلوبهم جيوشا، فواصلنا الجهاد بهمة متصاعدة، وأمل يقترب من الشروق يوما بعد يوم. وتمادى المارق، فقام بزيارات إلى الأقاليم داعيا شعبه إلى الكفر. وشد ما عانى الشعب في تلك الأيام السود من تمزق بين ولائه لآلهته وولائه لملكه الذي أذهلهم بجسمه المتهافت، وطابعه الأنثوي، ووجهه المنفر، وزوجته الجميلة الفاسقة.
تلك كانت أيام الأحزان والعذاب والنفاق والندم والدموع المنهمرة والرعب من غضب الآلهة. وأحدثت رسالة الحب المؤنث آثارها، فاستهتر الموظفون بواجباتهم، واستغلوا الناس أبشع استغلال، وسرى التمرد في أنحاء الإمبراطورية، واستهان بحدودها الأعداء، واستغاث بنا الأمراء المخلصون، فأرسلت إليهم الأشعار بدلا من الجيوش، فقتلوا دفاعا عن إمبراطوريتنا وهم يلعنون الخائن المارق المجنون. وتوقف الخير المتدفق على أرض مصر من جميع البلدان حتى خلت الأسواق، وأفلس التجار، وجاع العباد. وصحت بأعلى صوتي: ها هي لعنة آمون الغاضب تحل بنا؛ فإما القضاء على المارق، وإما الحرب الأهلية.
Página desconocida
ولم أدع فرصة للخير لم أجربها لتجنيب البلاد ويلات الحرب، فقابلت الملكة الأم تيى، وقالت لي بحرارة: إني حزينة أيها الكاهن الأكبر.
فقلت بمرارة: لم أعد كاهنا أكبر، لست إلا شريدا مطاردا ...
فقالت ملعثمة: إني أسأل الآلهة أن تمدنا برحمتها.
فقلت لها: لا بد من العمل، إنه ابنك، وهو يحبك، وإنك تتحملين تبعة لا يستهان بها فيما انتهت إليه الأمور، فبادريه بنصحك قبل أن تنشب حرب أهلية لن تبقي على شيء ...
فقالت بامتعاض لتذكيري لها بمسئولياتها فيما حدث: لقد قررت السفر إلى العاصمة الجديدة أخت آتون ...
ولا أنكر أنها بذلت جهدا، ولكنها لم تستطع أن تصلح ما أفسدت. ولم أستسلم لليأس، فسافرت بنفسي مجازفا إلى أخت آتون، واجتمعت بالرجال وقلت لهم: إني الآن أتكلم من موقع القوة، وورائي رجال ينتظرون إشارة للانقضاض عليكم، ولكني آثرت أن أحاول محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه دون سفك دماء أو خراب، وسأترك لكم مهلة لتؤدوا واجبكم وترجعوا إلى ضمائركم ...
وقرأت في وجوههم الاقتناع بما قلت، وبصرف النظر عن دوافعهم الحقيقية فقد أدوا ما طالبتهم به، وجنبوا البلاد شر ويلات كثيرة. قابلوا المارق المجنون، وطالبوه بأمرين عاجلين؛ إعلان الحرية الدينية، وإرسال جيش للدفاع عن الإمبراطورية. ولكنه رفض معلنا بذلك جنونه على الملأ. وعند ذاك طالبوه بالتنازل عن العرش، وله أن يحتفظ بعقيدته، بل وأن يدعو إليها كيفما شاء، ولكنه رفض أيضا. غير أنه عين أخاه سمنخ رع شريكا له في العرش، فتجاهلنا أمره، واخترنا توت عنخ آمون ليجلس على العرش مختارا منا. وبإزاء عناد المجنون قرر الرجال هجره وهجر مدينته، وإعلان ولائهم لفرعون الجديد؛ بذلك تغيرت الدولة بلا حرب ولا خراب، وفي نظير ذلك عدلنا عن الانتقام من المجنون وزوجته، ومن أبقى على الوفاء له من رجاله.
وفتحت المعابد أبوابها، وهرع إليها المؤمنون بعد حرمان طويل، وانقشع الكابوس، ومضى كل شيء يعود إلى أصله على قدر الإمكان. أما المارق فبعد أن شبع جنونا أدركه المرض، وما لبث أن مات خائب المسعى في الدنيا، وفاقد الأمل في العالم الآخر، مخلفا وراءه زوجته الشريرة تعاني الوحدة والهجر والندم.
وصمت الرجل طويلا وهو يرنو إلي، ثم قال: نحن نضمد جراحنا، يلزمنا عمل كبير وشاق، خسارتنا في الداخل والخارج أكبر من أن يحيط بها حصر. كيف حدث هذا؟! ... كيف أتيح لمجنون مشوه أن يفعل بنا ذلك كله تحت سمع العقلاء وبصرهم؟!
وتريث قليلا ثم خاطبني قائلا: لقد كشفت لك عن الحقيقة خالصة بلا تزويق ولا تشويه، فسجلها في دفترك بأمانة، وأبلغ تحياتي والدك.
Página desconocida
آي
هو الحكيم، أبو نفرتيتي وموت نجمت، ومستشار المارق. حفر الكبر أخاديد في وجهه وسكن فيها. استقبلني في قصره المطل على النيل في جنوب طيبة. جرى حديثه في هدوء وبصوت منخفض، ودون أن ينبض وجهه بأي انفعال. وقد أثر في وقاره وعمره المديد وما يطوي في صدره من تاريخ حافل. بدأ حديثه بقوله: ما أعجب الحياة، إنها سماء تمطر تجارب متناقضة.
وتفكر مستغرقا بفيض من الذكريات ثم قال: التحمت بالأحداث في يوم من أيام الصيف، دعيت إلى مقابلة الملك أمنحتب الثالث والملكة العظمى تيى، ولما مثلت بين يديهما قالت لي الملكة: يا آي، أنت رجل حكيم، تعرف أجمل ما في الدنيا والدين، قررنا أن نعهد إليك بتربية ابنينا تحتمس وأمنحتب ...
فحنيت رأسي الحليق وقلت: سعيد من يحظى بخدمة مولاه ومولاته.
وكان تحتمس في السابعة، وأمنحتب في السادسة. وكانا جد مختلفين لحد التضاد؛ فتحتمس قوي وسيم قصير القامة، وأمنحتب ضعيف البنية، غامق السمرة، طويل القامة، أنثوي القسمات، وذو نظرة رقيقة وغازية معا، تلتصق بالنفس بعمق. وما لبث أن مات الصبي الجميل، وبقي الضعيف الغريب. وهز الموت الصبي الحي هزة عنيفة جدا. بكى طويلا، وكلما خطرت ذكرى بكى من جديد. وقال لي: كان يزور معبد آمون، ويتلقى الرقى والتعاويذ، ولكنه مات ...
وقال لي أيضا: وأنت الحكيم المعلم، فلم لا ترد إليه الحياة؟
وقلت له: إن الروح تقول للميت: «ألق عنك هذا الحزن أيها الأخ، إنني باقية.»
وجرنا ذلك إلى حديث عن الحياة والموت، وشد ما أدهشني بإدراكه ووجدانه! كان يفوق سنه بأجيال. وساءلت نفسي: أي صبي هذا؟! أجاء معه من المجهول بأقباس من حكمة الغيب؟ وقد أتقن مبادئ القراءة والكتابة والحساب بسرعة مذهلة، حتى قلت مرة للملكة تيى: إن تفوقه ليخيف معلمه.
وكنت أهرع إلى درسه بشغف وشوق وسرور، وأتخيل ما يصدر عن عقله من عجائب إذا ما اعتلى يوما عرش أجداده. سوف يتفوق على والديه رغم عظمتهما.
أجل، كان أمنحتب الثالث ملكا عظيما، بدارا لتأديب العصاة، مقبلا وقت السلم على الطعام والشراب والنساء في عصر عرف بالرخاء، وقد أنهكه ذلك قبل الأوان فوقع في أسر العلل، وفسدت أسنانه، فكدرت صفو أيامه الأخيرة. أما تيى فكانت من أسرة نوبية كريمة، وشهدت لها الأيام بالقوة والحكمة حتى بزت حتشبسوت نفسها. وبسبب من غرام زوجها بالنساء، ولموت بكرها تحتمس ولعت بالصبي الضعيف المعجزة ولعا خرق المألوف؛ فكانت له الأم والحبيبة والأستاذ. وكانت تحب الحكم أكثر من الحب؛ فضحت بقلبها في سبيل السلطة. وقد اتهمها الكهنة ظلما بأنها المسئول الأول عن انحراف ابنها الديني، ولكن الحق أنها أرادت أن يلم ابنها بديانات آلهة بلاده جميعا، وكانت تحلم بأن يحل آتون محل آلهة الإمبراطورية باعتباره الشمس التي تنفث الحياة في كل مكان، فتؤلف بين رعاياها برابطة الدين القوية، لا بدافع القوة وحدها. كانت ترمي إلى وضع الدين في خدمة السياسة من أجل مصر، ولكن ابنها آمن بالدين دون السياسة بخلاف ما قصدت، وأبت طبيعته أن يجعل الدين في خدمة أي شيء، وأن يجعل كل شيء في خدمة الدين. الأم طرحت سياستها عن وعي وتدبير، ولكن الابن صدق وآمن وكرس حياته لرسالته حتى ضحى بوطنه وإمبراطوريته وعرشه.
Página desconocida
وسكت آي قليلا، فحبك وشاحه الأزرق حول صدره وقد بدا وجهه صغيرا مضغوطا تحت شعره المستعار، ثم واصل حديثه: كان فذا منذ صباه كأنما ولد بعقل كاهن ناضج، كان معجزة حتى وجدتني في كثير من الأحايين أناقشه مناقشة الند للند وهو في العاشرة. وكان الحماس يتدفق من منطقه كأنه ينابيع ساخنة، وبرزت في الهيكل الضعيف إرادة قوية لا تتوافق بحال مع ضعفه، فأقنعني ذلك بأن روح الإنسان أقوى من عضلاته المشدودة المدربة آلاف المرات. وهام بالدروس الدينية هياما فاق كل توقع، وأضر بالإعداد اللازم له للجلوس على العرش. ولم يكن يسلم بفكرة دون مناقشة قوية، ولم يخف ارتيابه في كثير من الحقائق والتعاليم الموروثة. وإذا به يقول لي ذات يوم: طيبة! تقولون إنها المدينة المقدسة! إنها وكر التجار الجشعين والفسق والعهر. ومن هم هؤلاء الكهنة الكبار يا معلمي؟ ألا إنهم من يضلون البسطاء بالخرافات، ويشاركون الفقراء في أرزاقهم المحدودة، ويغوون الفتيات باسم البركة، فجعلوا من معبدهم مرتادا للدعارة والعربدة، عليك اللعنة يا طيبة!
وأقلقني قوله، وتخايلت لعيني أصابع الاتهام وهي تشير إلي بوصفي معلمه، فقلت له: إنهم الأساس المتين الذي يقوم عليه العرش.
فهتف غاضبا: لا كرامة لعرش يقوم على الكذب والفجور.
فقلت كالمحذر: إنهم قوة لا يستهان بها مثل الجيش ...
فهتف ساخرا: وقطاع الطرق أيضا قوة لا يستهان بها.
من بادئ الأمر لم ينشرح صدره لآمون الثاوي في قدس الأقداس، فتطلع إلى آتون الذي يضيء نوره العالمين، وقال في ذلك: آمون إله الكهنة، آتون إله السماء والأرض.
فقلت بحرارة: إنك مطالب بالإخلاص لجميع الآلهة.
فتساءل مقطبا: أليس لنا قلوب نميز بها بين الحق والباطل؟
فقلت بإغراء: سوف تتوج ذات يوم بين أحضان آمون.
فبسط ذراعيه النحيلتين متسائلا: ولم لا أتوج تحت نور الشمس في الهواء الطلق؟! - آمون هو الذي ساند جدك حتى قيض له النصر.
Página desconocida
فتفكر مليا ثم تساءل: لا أدري كيف يعين إله على ذبح مخلوقاته.
فقلت بقلق: له حكمته المضنون بها على البشر. - الشمس لا يفرق نورها بين مخلوق وآخر.
فقلت بإصرار: الحياة ميدان صراع، لا تنس ذلك.
فقال بأسى: يا معلمي لا تحدثني عن الصراع، ألم تشهد الشمس عند شروقها فوق الحقول والنيل؟! ألم تر الشفق عند المغيب؟ ألم تسمع تغريد البلابل، وهديل الحمام؟ ... ألم تقتنص أبدا الفرحة المقدسة الغائبة في أعماق حياتنا؟!
شعرت بأن الزمام يفلت من يدي، وأن الشجرة تنمو على هواها، وأنني أجر إلى مأزق، فأفضيت بمخاوفي إلى الملكة تيى، ولكنها لم تشاركني قلقي، وقالت لي: يا آي، ما زال طفلا بريئا، سوف يخبر الدنيا، وعما قليل سيتلقى تدريبه العسكري.
ودعي الكاهن الصغير إلى الجندية الخاصة ضمن أبناء السادة النبلاء مثل حور محب، ولكنه لم يتناغم معها، أو لم يجد القوة اللازمة لها، فكرهها، وسجل على نفسه فشلا لا يليق بأبناء الملوك. وقال بمرارة: لا أود أن أتعلم مبادئ القتل.
وحزن لذلك أبوه حزنا شديدا، وقال لي: إن الملك الذي لا يحسن القتال يقع تحت رحمة قواده.
وحدثني الفتى عن مشاحنات نشبت بينه وبين أبيه، ولعله منذ ذلك الوقت ترسبت في أعماقه مشاعر غير طيبة عن أبيه العظيم، وهي التي غالى الكهنة فيما بعد في تفسيرها متهمين إياه بقتل أبيه بعد موته بمحو اسمه من الآثار، والحق أنه لم يمح اسم أبيه إلا لاقترانه بآمون، وآي ذلك أنه أعدم اسمه القديم واتخذ اسما جديدا هو «إخناتون»، ثم بلغ ذروة غربته مقتلعا نفسه من كافة جذوره في ليلة غريبة لم يطلع عليها سواه. تم ذلك في الخلوة التي كان ينتظر فيها الشروق بحديقة القصر المطلة على النيل. وعلمت بما كان عندما لقيته في الحديقة في الصباح. أغلب الظن أننا كنا في الربيع في يوم بريء من الرطوبة والخماسين.
رنا إلي بوجه شاحب وعينين مسحورتين، وقال لي دون أن يرد تحيتي: يا معلمي، قد تجلى الحق!
عجبت لمنظره وسألته عما يعني، فقال: كنت في الخلوة قبيل الشروق، رفيق الليل يودعني والصمت يباركني، وخف وزني؛ فخيل إلي أنني سأمضي مع ذيول الليل، وتجسدت الظلمة كائنا حيا يومئ بالتحية، وأشرق في داخلي نور طيب الرائحة، فرأيت الكائنات كلها مجتمعة في مجال تحيط به العين، تتهامس متبادلة التهاني تهزها سعادة الترحيب، وتستقبل الحقيقة المقبلة، وقلت لنفسي: أخيرا انتصرت على الموت والألم، وانهلت فوقي فيوضات السرور، وتسلل الوجود إلى صدري فملأه برحيقه العذب. وسمعت بكل وضوح صوته وهو يقول لي: «أنا الإله الواحد، لا إله غيري، أنا الحق، اقذف بروحك في رحابي، اعبدني وحدي، وهبني ذاتك فقد وهبتك حبي.»
Página desconocida
تبادلنا النظر طويلا. غلبني الصمت، واليأس. قال: ألا تصدقني يا معلمي؟
فقلت صادقا: إنك لا تكذب أبدا.
فقال بنشوة عجيبة: إذن فعليك أن تصدقني.
فسألته بلهفة: وماذا رأيت؟ - سمعت الصوت في مهرجان الفجر ...
فقلت بعد تردد: هذا يعني أنه لا شيء.
فقال بيقين: هكذا يتراءى الكل إذا تجلى! - لعله آتون. - كلا، لا آتون ولا الشمس، إنه ما وراء ذلك، وما فوق ذلك، إنه الإله الواحد.
فتساءلت في حيرة: وأين تعبده؟ - في أي مكان، في أي زمان، وسوف يمدني بالقوة والحب ... ولاذ آي بالصمت. وددت أن أسأله إن كان آمن بإله إخناتون، ولكني تذكرت وصية أبي فأمسكت. لقد ارتد في اللحظة الحرجة مع المرتدين، وربما ظل إيمانه سرا إلى الأبد. واستأنف آي حديثه قائلا: لم أجد بدا من إبلاغ الملك والملكة بما كان. وبعد أيام وجدت الأمير ينتظرني في الحديقة التي يفضل البقاء فيها ما أمكنه ذلك، فقال لي معاتبا وباسما: وشيت بي كعادتك يا معلمي.
فقلت بهدوء: إنه واجبي أيها الأمير.
وضحك قائلا: استدعاني أبي لمقابلة مثيرة، فرويت له تجربتي فعبس قائلا: لا مفر من عرضك على الطبيب بنتو.
فقلت له بأدب: إني في تمام الصحة والعافية.
Página desconocida
فقال بخشونة: لا أعرف مجنونا اعترف بجنونه أبدا.
ثم بنبرة وعيد: مصر بلد الآلهة، وعلى صاحب العرش أن يعبد جميع آلهة شعبه، وهذا الإله الذي تحدثني عنه لا شيء؛ فهو لا يستحق أن ينضم إلى مجمع الآلهة.
فقلت بهدوء: إنه الإله الوحيد ولا إله غيره.
فصاح بي: هذا كفر وجنون.
فكررت قولي حتى قال بنبرة غاضبة منذرة بالشر: إني آمرك بأن تتخلى عن أفكارك وأن ترجع إلى تراث أجدادك. وانقطعت عن المناقشة احتراما لأمره. وقالت الملكة بنبرة لطيفة: إنك مطالب باحترام واجب مقدس، ولينبض قلبك بما يشاء حتى تثوب إلى الهداية ...
وغادرت مجلسهما حزينا يا معلمي، ولكن أشد إصرارا ...
فقلت له بإخلاص: فرعون نسيج محكم من التقاليد المقدسة، لا تنس هذا أبدا.
وحدثني قلبي بأن مصر ستشهد متاعب لم تخطر ببال، وأن هذه الأسرة المجيدة التي حررت الوطن وأنشأت له إمبراطورية إنما تقف على حافة هاوية. وفي ذلك الوقت، وربما قبل ذلك، فلست متأكدا من ترتيب التواريخ، استدعاني كاهن آمون إلى مقابلة خاصة. قال لي: بيننا عهد قديم يا آي، ما هذا الذي يقال؟
قلت لك إنني لا أذكر اليوم إن كانت تلك المقابلة قد تمت عقب ما ذاع عن ميل الأمير لآتون أم عقب إيمانه بالإله الواحد. على أي حال قلت له: الأمير يمر بالفترة الحرجة من العمر، إنه إنسان ممتاز، ومثله قد يدفعه الخيال شرقا وغربا، ولكن سرعان ما يرجعه النضج إلى الحق ...
فتساءل بمرارة: وكيف تمرد على حكمتك وأنت خير المعلمين؟
Página desconocida
فقلت مدافعا عن نفسي: ما أصعب ترويض النهر في إبان الفيضان!
فقال بصوت قوي: على أي رجل من صفوة هذه الأرض ألا يغفل لحظة عن مصير العقيدة والوطن والإمبراطورية!
وجعلت أناجي حيرتي ليل نهار منفردا ومع أسرتي المكونة من تي زوجتي ونفرتيتي وموت نجمت ابنتي. وعلى حين اتهمت تي وموت نجمت الأمير بالضلال إذا بنفرتيتي تنجذب إلى آرائه بتلقائية مثيرة، وتهمس في أذني: إنه الحق يا أبي!
ولا بد من كلمة هنا عن نفرتيتي. كانت تقارب إخناتون من سنه، ومثله حازت عقلا يفوق سنها. وقد تلقت البنتان تربية عامة ومنزلية ممتازة، ولكن موت نجمت قنعت بتجويد القراءة والكتابة والحساب وشيء من اللاهوت، إلى الحياكة والتطريز والطهي والرسم والرياضة والرقص الديني، أما نفرتيتي فمع إتقانها ذلك كله تبحرت بدافع شخصي في الدين والأفكار، ثم كان ميلها إلى آتون، والأعجب من ذلك كله أنها آمنت بإله إخناتون، وقالت بصراحة: هذا هو الإله الذي انتشلني من حيرتي المعذبة.
وأثارت بذلك سخط تي مربيتها وأختها غير الشقيقة موت نجمت التي اتهمتها بالضلال.
وحدث في ذلك الوقت أن احتفل الملك بمرور ثلاثين عاما على جلوسه على العرش، فذهبنا إلى القصر واصطحبنا البنتين معنا لأول مرة. وشاء القدر أن تستحوذ نفرتيتي على قلب الأمير، وهكذا تزوجت من إخناتون، ونحن نتابع الأحداث بذهول ولا نصدق ما يقع. واستدعاني كاهن آمون مرة أخرى وقال لي بنبرة ذات مغزى: أصبحت عضوا في الأسرة المالكة يا آي.
وشعرت بأنه يوشك أن يعدني من الخصوم، فدافعت عن الأمير ما وسعني ذلك، وقلت له: إني رجل لم يحد طيلة عمره عن الواجب.
فقال بهدوء: لندع الأيام تكشف لنا عن معدن الرجال!
وطلب مني أن أعد مقابلة بينه وبين نفرتيتي، ففعلت بعد أن زودت ابنتي بالوصايا. ولكنها، والحق يقال، لم تكن في حاجة إلى وصاياي، فأسمعته كلاما جميلا دون أن تكشف عن سر أو تلتزم بعهد. وأعتقد أن عداء الكهنة لابنتي بدأ مع تلك المقابلة.
وقالت لي نفرتيتي: لم تكن مقابلة يا أبي، ولكنها كانت مبارزة غير معلنة؛ الداهية يدافع عن الإمبراطورية على حين أنه يدافع في الواقع عن نصيب معبده من الأغذية والكساء والخمور.
Página desconocida