ومعطي الحياة للوليد في بطن أمه،
لا يعرف الوحدة من يذكرك.
وإذا غاب عنك الوعي
صارت الأرض في ظلمة
كأنها موات.
وسكت آي ليسترد ذاته من تيار الذكريات، ثم نظر نحوي بعطف وقال: هذه هي قصة إخناتون الذي يدعى اليوم، إذا ذكر، بالمارق وتصب عليه اللعنات. ولا أستطيع أن أهون من الخسائر التي حاقت بالبلاد بسببه؛ فقد خسرت إمبراطوريتها ومزقتها الخلافات، ولكني أعترف لك بأنني لا أستطيع أيضا أن أنزع من قلبي حبي له وإعجابي به، فلندع الحكم النهائي عليه للميزان أمام عرش أوزوريس حاكم العالم الأبدي. •••
وغادرت قصر الحكيم آي وأنا أعتقد أن الحكم النهائي عليه هو أيضا لن يعرف إلا حين يوضع قلبه فوق كفة الميزان أمام عرش أوزوريس.
حور محب
متوسط القامة، متين البنيان، ذو مظهر يوحي بالقوة وصدق العزيمة، سليل أسرة كهنوتية متوسطة، بمنف، غنية بمن عرف من رجالها من أطباء وكهنة وضباط، وكان أبوه أول من ارتفع من الأسرة إلى مستوى السادة لشغله وظيفة «رئيس الجياد» في بلاط أمنحتب الثالث. وهو الرجل الوحيد من رجال إخناتون الذي احتفظ بوظيفته كقائد للحرس في العهد الجديد، ووكل إليه بمهمة القضاء على الفساد في داخل البلاد وإعادة الأمن إلى ربوعها، فأحرز في ذلك نجاحا مرموقا. وقد شهد له كاهن آمون الأكبر، وصدق على ذلك الحكيم آي، بأنه كان بطل اللحظة الحرجة في مأساة العهد البائد. استقبلني في قاعة استقباله المتصلة بحديقة القصر، وأنشأ يحدثني عن «المارق» قائلا: كان رفيق صباي، وصديقي، قبل أن يصير مليكي، ومذ عرفته وحتى الساعة التي ودعته فيها إلى الأبد لم يكن له ما يشغله في هذه الدنيا سوى الدين.
راح يستجمع أفكاره مليا، ثم استمر قائلا: أوليته الاحترام الذي يستحقه مذ عرفته؛ ذلك أني ربيت على تقديس الواجب، وعلى وضع الشيء في موضعه بصرف النظر عن عواطفي الشخصية، وكان هو ولي العهد، وكنت أنا أحد رعاياه، فلزمني احترامه، أما باطني فقد احتقره؛ احتقرته لضعفه والأنوثة الضاربة في وجهه وجسده، ولم أتصور أن أكون له صديقا حقيقيا، غير أن الواقع أنني صرت صديقه بكل معنى الكلمة. وإني لأتساءل: كيف كان ما كان؟! ربما لأنني عجزت عن مقاومة عواطفه الرقيقة المهذبة ذات السحر النافذ. كان ذا مقدرة عجيبة على اصطياد القلوب وأسر النفوس. ألم يهتف له الشعب وهو يدعوه إلى الكفر بآلهة الآباء والأجداد؟! وكنا - هو وأنا - على طرفي نقيض، فلم يمنع ذلك عواطفنا من أن تتجسد في صورة صداقة متينة، صمدت للأعاصير حتى ارتطمت آخر الأمر بصخرة لا تقهر. إني أسمعه وهو يقول لي باسما: حور محب، أيها الوحش المتعطش للدماء، إني أحبك.
Página desconocida