كان على أولئك الناقدين أن يشهدوا بدرا، لينظروا بعين النبي إلى عواقب هذه الوقعة التي أوشكت أن تصبح الوقعة الحاسمة في تاريخ الإسلام.
كان عليهم أن ينظروا هنالك بعين النبي إلى جيشين، أحدهما فيه السلاح والخيل والعدد، والآخر في ثلث من يقاتلونه عددا، ويكاد أن يتجرد من كل سلاح غير السيف، ومن كل مطية غير الأقدام.
وكان عليهم أن يلمسوا إشفاق النبي من عاقبة هذه الوقعة، ويستمعوا إليه وهو يناشد ربه: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ...»
وكان عليهم أن ينظروا إليه، وقد مد يديه وشخص ببصره وجمع نفسه في صلاته، حتى جعل ردؤاه يسقط عن منكبيه وأبو بكر يرده ويناديه: «بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك.» وهو لا يلتفت إلى سقوط ردائه ولا إلى مناداة صفيه، لاستغراقه في الدعاء ...
وكان عليهم أن يعلموا حرص قريش أن يستبقوا رجالا منهم، يرجعون إلى مكة قبل المعركة أو بعدها ليثابروا على مناوأة النبي وإعادة الكرة عليه حتى لا يهدأ له بال بعد الصبر على هذا الجهد، وليس الصبر عليه بيسير.
كان على الناقدين أن يعلموا هذا كله ليعلموا أن الشعور بالفرح في مثل هذا الموقف العصيب أمر لا غرابة فيه، وأنه شعور مطبوع في نفس حية تجاوب كل ما يحيط بها من بواعث الحياة في مواقف السلم أو مواقف القتال. فأول ما يبادر النفس الحية من شعور مطبوع صادق في ذلك الموقف أن تغتبط بالنصر، وتخرج من الضيق إلى الفرج، وتنظر في ساحة الحرب إلى من قضى فيها من قريش ومن عاد منها إلى وكره ليعيد الكرة ويستأنف الإيذاء والمكيدة، وأن ترى ما هي تلك الأسلاب والغنائم التي أوشكت أن تفتن بعض المقاتلين لأنها أول شيء شهدوه من نوعه، ولما ينزل حكم الدين في سلب أو غنيمة.
إن محمدا رجل حي جياش النفس بدوافع الحياة، وليس بناسك مهزول من نساك الصوامع الذين يكتمون في جوانحهم كل دافعة وكل إحساس. فامتناعه أن يشهد نتيجة المعركة التي سبقتها كل تلك المخاوف وستلحق بها كل تلك العواقب أمر لم يكن بالمنتظر من قائد في مثل موقفه، ولم تكن توجبه الفطرة الإنسانية على المقاتل، وهو في اللحظة الأولى بعد الظفر خليق أن يعلم مدى انتصاره، ومدى ما يتوقعه بعده، ومدى ما فعلته الفئة القليلة بالفئة الكثيرة، ليقيس عليه ما تفعله مثلها فيما يليها من وقعات. وهؤلاء مراسلو الصحف الحربيون الذين يدرسون اليوم أشباه هذه المواقف يجدون من واجبهم ألا يتخلفوا عن ساحات القتال بعد انجلاء الفريقين، ليشرحوا دروس النصر والهزيمة بينهما ويسجلوا ما لا غنى عن تسجيله في جميع الحروب. فانصراف محمد عن ساحة بدر على أثر النصر عمل غريب يخل بمكانة القائد وبواجب التحقيق والاستفادة من كل ما يفيد.
بعد معركة الأحزاب
ونحن في صدد الحديث عن الرحمة والقسوة يحسن بنا أن نستقصي ما ذكره المؤرخون الأوروبيون من مآخذ في هذا الباب، وأهمه - عدا ما قدمناه - قتل المقاتلين من بني قريظة بعد معركة الأحزاب.
فإن أولئك المؤرخين يستعظمون قتلهم ويحسبونه مخالفا للعرف المتبع في الحروب، وينسون أمورا لا يصدق الحكم في هذه المسألة ما لم يذكروها ويستحضروها أتم استحضار ... وهي أن بني قريظة حنثوا في أيمانهم مرات؛ فلا يجدي معهم أخذ المواثيق من جديد، وأنهم قبلوا حكم سعد بن معاذ وهم الذين اختاروه، وأن سعدا إنما دانهم بنص التوراة الذي يؤمنون به كما جاء في التثنية: «حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك. فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك ...» (إصحاح 10 إلى 15 تثنية).
Página desconocida