وذلك هو حكم الأسير الذي ينطلق بعهد الشرف ألا يعود إلى القتال، فإن القانون الدولي يوجب عليه أن يوفي بعهده، ووجب على حكومته ألا تندبه إلى عمل ينقض ما عاهد الأعداء عليه، ويقضي بحرمانه حق المعاملة كما يعامل أسرى الحرب إذا شهر السلاح على الذين أطلقوه أو على حلفائهم المحاربين في صفوفهم، ويصح إذن أن يحاكم كما يحاكم المذنبون، ويقضى عليه بالموت.
2
فقوانين العصر الحديث إذن تعاقب بالموت جريمة أهون من جريمة كعب بن الأشرف بكثير، لأنه تجاوز الغدر إلى التأليب والائتمار وثلب الأعراض ...
وليس في توقيع هذه الأحكام قسوة ولا رحمة، لأن المرجع فيها إلى الضرورة التي أوجبت القصاص وفرضته على الناس في أحوال السلم بين أبناء الأمة الواحدة، فضلا عن أحوال القتال بين الأعداء.
أسرى غزوة بدر
ويلحق بقتل ابن الأشرف ما أخذه بعض المستشرقين من قتل بعض الأسرى بعد غزوة بدر وخروج النبي إلى ساحة الحرب لرؤية صرعى المعركة وغنائمها بعد انتهائها ... فهو أمر لا يصح الحكم فيه إلا بالنظر إلى موضعه وموقعه وأشخاصه، لأنه ليس بالحكم العام الذي اتبعه الإسلام في جميع الأسرى وجميع الحروب، وإنما هي حالة أفراد كانوا معروفين بتعذيب المسلمين والتنكيل بهم في غير مبالاة ولا نخوة. وليست هي كحالة الأسرى الذين يقعون في أيدي أعدائهم غير معروفين بماض ولا بحاضر سوى أنهم جند كسائر الجند الذين يحشدهم الأعداء، فقتل الأسرى بعد بدر إن هو إلا قصاص كقصاص المتهمين بالتعذيب وقد وقعوا في أيدي من يتولى عقابهم من الغالبين. جاز هذا في كل قانون، وجاز أن يحاسب المغلوب على جرائمه التي ليست هي من فروض القتال أو من مباحاته في شيء ... وفرق بين معاملة هؤلاء ومعاملة أسير كل ما تعلمه في شأنه أنه جندي لا بغضاء بينك وبينه قبل حمل السلاح ولا بعد وضع السلاح، وليس في عمله محل للثأر والمحاسبة بعد انقضاء واجبه، وهو القتال الشريف. •••
أما رؤية القتلى في ساحة الحرب، فقد نسي فيها أولئك الناقدون أن اغتباط المنتصر بفوزه طبيعة إنسانية لا غضاضة فيها. ما لم تجاوز حدها إلى الفرح برؤية الدماء لمحض الفرح برؤية الدماء. وهذا ما لم يزعمه أحد من شاهدي المعركة عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، ولا نم عليه كلام أحد من المشركين أو المسلمين.
ونسي أولئك الناقدون كذلك أن الرجل الذي يرى الدم في المدينة العصرية، غير الرجل الذي يرى الدم في حروب البادية وفي حياة البادية على الإجمال، ونعني بها حياة الرعاة التي تتكرر فيها إراقة الدم كل يوم، وحياة القبائل التي كانت تغزو وتغزى في كثير من الأيام.
فإنك لا ترمي بالقسوة طبيبا قد ألف النظر إلى الجثث وأشلائها والأجسام الحية وجراحها، لأن الطب لن يكون في الدنيا رحمة من الرحمات إن لم يألف الأطباء هذه المناظر ويملكوا جأشهم وهم يفتحون أعينهم عليها. ولكنك قد ترمي بالقسوة إنسانا لم تقع عينه على منظر مثلها ثم هي تفاجئه فلا ينفر منها. وما من رجل عاش في البادية وشهد غزوة من غزواتها يمكن أن يقال فيه إن ساحة الحرب تفاجئه بما لم يكن يراه، أو بما يستلزم النظر إليه قسوة في الطباع واستراحة إلى رؤية الدماء ...
Página desconocida