قال الفقيه: وذلك أنهم إذا كتبوا الكتاب اعتمدوا على الكتابة وتركوا الحفظ فيعرض على الكتابة عارض فيفوت علمهم، ولأن الكتاب مما يزاد فيه وينقص، ولأن الكتاب يمكن أن يزاد فيه ويغير والذي حفظ لا يمكن التغيير فيه، ولأن الحافظ يتكلم بالعلم والذي أخبر عن الكتاب أخبر بالظن من غير حفظ، وأما حجة من قال بأنه يجوز فما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: ما من أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني إلا عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب أنا، وعن ابن جريج بن معرور أنه قال: قال عبد الله بن عمر ((يا رسول الله إنا لنسمع منك الحديث أفنكتبه عنك؟ قال: نعم قلت في الرضا والسخط؟ قال: نعم، فإني لا أقول فيهما إلا حقا)) وقال معاوية بن قرة: من لم يكتب علما فلا يعد علمه علما. وقال الله تعالى خبرا عن موسى عليه الصلاة والسلام حين سألوه عن القرون الأولى قال موسى عليه السلام: {علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى}. وعن ربيع بن أبي أنيس عن جديه زيد وزياد أنهما قدما على سليمان بن عبد الملك ليلا فلم يزل يحدثهما ويكتبان حتى أصبحا. وعن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا يعجزن أحدكم أن يكون عنده كتاب من هذا العلم، ولأن فيه بلوى فلو لم يكتب لذهب عنه العلم ولو كتب لرجع إليه فيما ينسى أو يشكل عليه مسرورا. وهذا كما حكي أن أبا يوسف عاب محمدا في كتابة العلم، فقال محمد: إني خفت ذهاب العلم لأن النساء لا يلدن مثل أبي يوسف ولأن الأمة قد توارثت كتابة العلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) وما رآه المسلمون شينا فهو عند الله شين)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تجتمع أمتي على الضلالة)) ولأنهم لما توارثوا ذلك صار ذلك سبيل المؤمنين حقا بدليل الخبر، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أصحابي كالنجوم الزاهرة بأيهم اقتديتم اهتديتم)) وعن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اكتبوا هذا العلم من كل غني وفقير ومن كل صغير وكبير، ومن ترك العلم من أجل أن صاحب العلم فقير أو أصغر منه سنا فليتبوأ مقعده في النار)).
الباب الثالث: في الفتوى
(قال الفقيه) الزاهد أبو الليث رحمه الله: كره بعض الناس الفتوى وأجازها عامة أهل العلم إذ كان الرجل ممن يصلح لذلك. فأما حجة الطائفة الأولى فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أجرؤكم على النار أجرؤكم على الفتوى)) وروي عن سلمان أن أناسا كانوا يستفتونه فقال: هذا خير لكم وشر. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أدركت مائة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى. وعن ابن سيرين أنه قال: قال حذيفة بن اليمان: إنما يفتي الناس أحد ثلاثة من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بدا من ذلك، أو أحمق متكلف وكان ابن سيرين إذا سئل عن شيء يقول: لست بأحد هذين وأكره أن أكون الثالث. وأما حجة من أباح ذلك فما روي عن أبي هريرة وزيد بن خالد وشبل بن معبد قالوا: ((كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله اقض بيننا بكتاب الله تعالى، فقام خصمه وكان أفقه منه فقال صدق اقض بيننا بكتاب الله تعالى وائذن لي فأقول، فأذن له عليه الصلاة والسلام فقال: إن ابني هذا كان عسيفا على هذا الرجل وإنه زنى بامرأته فافتديت منه بمائة شاة وخادم، ثم سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني أن على ابنك جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأته الرجم)) ففي هذا الحديث دليل على جواز الفتوى لأنه قال سألت رجالا من أهل العلم فأخبروني فلم ينكر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواهم، وفي الخبر أيضا دليل على أن الفتوى تجوز وإن كان غيره أعلم منه ألا ترى أنهم كانوا يفتون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ((أنه سئل عن محرم كسر بيض نعامة، فأمره علي بكل بيضة أن ينحر ولد ناقة، فجاء السائل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال له رسول الله قد قال لك علي ما سمعت ولكن هلم إلى الرخصة فعليك بكل بيضة إطعام مسكين)) وروي عن أبي هريرة أنه سئل بالبحرين عن حلال إذا ذبح صيدا فأكله محرم فقال يجوز، فلما رجع أبو هريرة إلى عمر أخبره بذلك، فقال عمر لو قلت غير هذا لفعلت بك كذا وكذا، ولأن الصحابة كانوا يفتون في الحوادث)) وهكذا توارث المسلمون ولأن الله تعالى قال: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} فلما أمر الله تبارك وتعالى الجهال بأن يسألوا العلماء فقد أخبر العلماء بأن يخبروهم إذا سألوهم عن ذلك. وحكي أن جماعة اختاروا من العقلاء ثلاثة ليذكروا: من أعقل؟ فاجتمع رأيهم أعقل الناس من يقول ما يعلم.
Página 306