ومظهر حب الوطن - الخاص بالألمان - تبعا لنشوئهم هو مما يثير دهش بسمارك باتساعه أكثر مما بضيقه؛ وذلك لأن الألماني - كما قال بسمارك في مشيبه - مخلص لآله الذين نبت بينهم ومحب، في الغالب، لزاوية من الأرض، وهكذا لا يحب بسمارك سوى بوميرانية حبا أساسيا، وبروسية إذ كانت وليدة فتوح مصادفات وكانت أضيق مما هي عليه؛ عدت من اتساع الكيان ونبو البنيان ما لا تثير معه المشاعر الأسرية، ولم تكن هنالك وحدة مشاعر بين كولونية وميمل، وبسمارك كان مع ذلك من أولئك القليلين الذين عزموا على حب بروسية كما هي، كما كونت دوما؛ وذلك لأن الفتوح الملكية عنده ضرب من العقائد، ولأن الأصول قليلة الأهمية مهما كانت، وبسمارك إذ كان تابعا لملك بروسية وفارسا لبراندبرغ، كان همه مصروفا إلى توسيع بروسية، وكان يفضل أن يغلب أمراء ألمانية وفق أساليب سالف القرون، فيزيد رقعة بروسية، على أن يكافح في سبيل الجامعة الألمانية، فهو يريد أن يكون الأول، وهو الذي لم يكن بين النظراء إلا قهرا، وهذا هو منطق دمه!
غير أن ذهنه المضطرب وعلمه العميق بالتاريخ وبصره الحديد بالحقائق أمور كانت تتغلب على رغائبه الطبيعية فيتطلع إلى ما يمكن نيله ويعرض عما يبتغى ويوطن نفسه بعد قهر النمسة على جعل زعامة ألمانية لبروسية. أجل، ستضم بعض الولايات إلى بروسية، غير أن الفتح لم يظل غاية.
ويتنبه فيه طموح جديد، ويروي الشاهد الصادق كودل أن بسمارك قال له منذ عشر سنين: «إن تاج بروسية وحده هو الذي أكترث له.» فيقول له الآن: «إن أقصى آمالي هو أن أجعل الألمان أمة واحدة!» ومنذ عشر سنين يصبح بسمارك المتحزب دبلميا، فيتخلى عن بعض مزاعمه الرجعية، ولا يشغل نفسه بسوى المعالي معرضا عن المبادئ، واليوم يصير بسمارك وزيرا لبروسية فيتحول إلى قطب سياسي ألماني، ويبدأ بإعمال الرأي في شأن البلاد الألمانية، ومن صفاته الفطرية نظره إلى الأمور من خلال السلالة الملكية، لا من حيث الأصول القبلية، وما كان بسمارك لينقذ نفسه من تلك الفكرة الابتدائية الآن ولا بعد زمن؛ ولذا كان بسمارك أعظم قطب سياسي في عصره؛ ولذا لم يكن بسمارك نبيا.
ومما يسر بسمارك الآن عسر الوضع في النمسة، وترى النمسة أن إدارة ولاية هولشتاين من بعيد ينطوي على مصاعب كالتي تشتمل عليها إدارة المستعمرات، وترغب النمسة في بيع هولشتاين من بروسية وفي بيع البندقية من نابليون بأربعة ملايين ليرة، ولا تجرؤ النمسة على إتيان الأمرين ، بل تدع دوك أوغوستنبرغ يعود إلى سابق فتنه في هولشتاين ناقضة بذلك معاهدة غاستن التي تمنح بروسية صوتا في كلتا الدوكيتين، واليوم يستطيع بسمارك أن يثبت لمليكه وقوع اعتداء على حقوق بروسية، واليوم يستطيع بسمارك أن يحرك ساكن فردريك ولهلم، واليوم يعرب بسمارك عن مقاصده بصراحة عجيبة فيقول لسفير فرنسة بنيديتي: «إذا ما أردت حمل الملك على المطالبة بحق وجب علي أن أثبت له أن الآخرين ينازعون فيه، وإذا أقدم إنسان على تحديد سلطانه أمكنت موافقته على اتخاذ تدابير فعالة.» ويشتكى إلى فينة، ويؤخذ جواب محنق، ويجتمع المجلس الخاص ببرلين في شهر فبراير سنة 1866، ويتكلم الملك بحزم فيقول: «لا نرغب في إثارة حرب، ولكنه لا ينبغي لنا أن نخشى الحرب إذا حملنا عليها.» ويوافق الوزراء وينفرد ولي العهد بالمعارضة، ويقول الملك: «إن تملك الدوكيتين يستحق مشقة حرب، ولنفاوض ولننتظر، أريد السلم، ولكنني عازم على الحرب إذا قضت الضرورة بذلك، والحرب عندي أمر عادل، والآن أدعو الله أن يهديني إلى سواء السبيل.» والله منذ عام ونصف عام قد ألهمه أن يرى أنه لا حق له في الدوكيتين، والآن يرى الجامعة الألمانية والحقوق النمسوية دخلت في ذمة الماضي!
ويزيد بسمارك آمالا، ويجادل ولي العهد الذي «صار حريفا»
2
ويملي كتابا على سكرتير له في ذلك المساء، ثم يجلس قريبا من النافذة ويفضي إلى كودل بما في نفسه قائلا: «إذا عاد منسدورف إلى السياسة السابقة وجب علينا أن نلوح له بالأسود والأحمر والأصفر،
3
وأرى أن كلا من مسألة شليسويغ ومسألة ألمانية مرتبطة في الأخرى بما يحملنا على حلهما معا عند التصدع، وتسفر إقامة برلمان ألماني عن رد الدول الصغيرة والدول المتوسطة إلى حدود ملائمة»، ويسكت بسمارك قليلا ثم يقول: «وإذا وجد بينهم إفيالت
4
Página desconocida