ولا بد أن تنظر في تكوينه الفطري، وفيما هو من قبيل هذا التكوين، لتفسير كل قدرة له لم يستفدها من المرانة والتعليم.
ولا يستطيع مترجم له أن ينسى في هذا الصدد قوة البنية التي ورثها من أبويه، فإن قوة البنية أصدق أعوان السياسي في كل عمل من أعماله يتطلب الهدوء واعتدال المزاج، وكل عمل من أعمال السياسي يتطلب النفس الهادئة، والمزاج المعتدل.
وحب النظام خصلة يتعلمها الإنسان في المدرسة وفي تجارب الحياة، كما يتلقاها استعدادا بالوراثة مع البنية الطبيعية، ومهما يكن من فضل التعليم والتجربة في هذه الخصلة، فلا شك في اختلاف الاستعداد لها بالطبيعة الموروثة، فقد يغني قليل من التعليم والتجربة مع الاستعداد الطبيعي حيث يضيع التعليم الكثير والتجربة الطويلة عبثا مع فقدان ذلك الاستعداد.
ولقد كانت قوة البنية عونا لفرنكلين على التنظيم وكابحا لدوافع الخلل والاندفاع والتقلقل بين رأي ورأي، وبين نظام ونظام، وقال عارفوه - بعد الأربعين على الخصوص: إنهم لم يروه قط في ربكة أو عجلة، وهذه أيضا عدة من عدد النجاح في السياسة لا يستغنى عنها، ولا يقدر عليها أحد كما يقدر عليها الرجل المكين البنية المستقر على نظام لأعماله وأوقاته يمنع الخلط بينها والارتباك في البدء بها والانتهاء منها، ويمنع الربكة والعجلة تبعا لذلك، فلا يفقد طمأنينته، ولا يفقد العاملون معه طمأنينتهم إليه.
ويلحق بالاستعداد الفطري أنه كان عاشر أبناء أبيه، فلم ينشأ نشأة الطفل المدلل، ولا نشأة الطفل الوحيد الذي يقضي أيام الطفولة بعيدا من أمثاله غريبا عن شعور الزمالة والعشرة الطبيعية. وفتح عينيه على الدنيا وهو يصاحب أطفالا أكبر منه وأصغر منه بين إخوة وأخوات من الجنسين، فلم يصعب عليه بعد ذلك أن يسلك مع الناس، وعرف الكبار والصغار في أخص حالاتهم وأعمها معرفة البداهة السهلة والفهم الصحيح. وكان له من كل أخ وكل أخت نموذج مختلف ينوع أمامه طبائع النفوس، فلا تخفى عليه حقائق النفس البشرية على تعدد الأمزجة والطباع.
ولسنا نرى أن المقدرة السياسية كان لها الفضل كله في نجاحه حيث نجح في «وظائفه» السياسية التي لم تنحصر في مجال واحد من مجالات السياسة، فمن قيادة الرأي العام إلى المفاوضة إلى الإدارة والتنظيم إلى مباحث الحكم وفلسفة الاجتماع - كل أولئك كان له فيه أعوان من ظروف الزمن وظروف النهضة الفكرية وظروف المجتمع الأمريكي نفسه في إبان تكوينه قبل الخلاف مع الدولة البريطانية وبعد الاستقلال عنها إلى يوم وفاته.
فالنزاع بين بريطانيا العظمى وفرنسا كان له شأنه في ضم فرنسا إلى جانب الثورة الأمريكية وتحريضها على الانتقام من بريطانيا العظمى لسعيها الحثيث في طردها - أي طرد فرنسا - من أمريكا الشمالية نفسها، وقد كانت رغبة فرنسا في طرد الدولة البريطانية من تلك البقاع لا تقل عن رغبة الأمريكيين الساخطين على حكومة لندن وحكومة المستعمرات.
وهذه معاونة من الظروف لا تهمل في تقدير مساعيه وتقدير أسباب نجاحه، ولكنها إذا وضعت في الميزان وجب أن توضع أمامها عوامل أخرى في السياسة الأوروبية، كانت تميل بفرنسا إلى الحذر والأناة في تشجيع الثوار الأمريكيين، بل كان من هذه العوامل التي تدعو إلى الحذر والأناة أمور ترجع إلى فرنسا داخل حدودها، ولا تمتد إلى ما وراء الحدود في القارة الأوروبية أو القارة الأمريكية، وتلك هي مخاوف القصر والنبلاء من بوادر الثورة الفرنسية التي كانت تهددهم بالنذير بعد النذير حتى قضت على لويس السادس عشر - ملك فرنسا - الذي استقبل في بلاطه فرنكلين.
ومن الظروف التي أعانت على النجاح ما لا يحسب لفرنكلين في ميزان القدرة السياسية، ولكنه يحسب له راجحا مرجحا في غير ذلك الميزان، وشهرته العلمية ظرف من أكبر هذه الظروف، وسجاياه المحبوبة ظرف آخر لا يقل في تمهيد الطرق أمامه وفتح الأبواب له عن الشهرة العلمية.
وهنا أيضا ينبغي أن نعادل بين الكفتين ونضع شيئا في كل كفة منهما، ولا نقصر المرجحات على كفة واحدة.
Página desconocida