وزاره بلوبيل المريد ذات مساء، وهو مارد عظيم تعلو هامته سبعة فراسخ، وينبسط جناحاه على رحاب دولة شاسعة، فاستراح في لطف وهينة على ذؤابات الشجر في الوادي وأسند رأسه إلى جبل قلبون، واستقبل خيمة الساحر الكبير بوجهه المنير.
وتحدث إليه الساحر حديث الخشوع والتقوى عن حكمة العلي الأعلى، وعما في مقاديره من الخير والبركة، وقال للمارد: إن نعمته سبحانه وتعالى أجل من أن يحصيها، وإنه يركض عقله إلى أقصاه، ولا يدرك به الشأو فيما ينقب عنه ويتقصاه.
قال بلوبيل: على رسلك أيها الصديق، ولا تسرف في أمر تلك المزية التي تسميها بالعقل والحكمة، فإنك لو علمت أصلها ولمست مواطن ضعفها، كنت إلى الخجل منها أدنى منك إلى الزهو بها والاتكال عليها.
قال أبو معشر: أنبئني إذن بما لا أعلم، واكشف عني غشاء الجهالة، وسدد فهمي بنور الهداية.
قال بلوبيل: تأمل يا أبا معشر في سلم الخلق من الفيل إلى الصدفة، وانظر إلى درجة منها بعد درجة تجدها قريبا من قريب حتى لا فجوة بينها ولا تكاد تلمح الفارق بين منازلها ودرجاتها. وإن الناس عامة ليجهلون ما يجهلون، ولكنك أنت - أبا معشر - أهل لأن تعلم ما فوق الفيل من منازل ودرجات إلى غاية الغايات من العظائم والطيبات. فلا فجوة هناك بين خلق وخلق، بل هي درجة فوق درجة وأفق يعلوه أفق، لا يدركها البصر ولا يستوعبها الضمير، ولا يرتفع إليها الطرف إلا ارتد وهو حسير.
2
ذبابة الربيع
وألف فرنكلين هذه الخرافة، أو هذه الحكاية الرمزية ذات المعنى، بعد رحلة خلوية إلى جزيرة مولان جولي
Moulin Joli
بنهر السين، مع السيدة بريون التي كانت مشغولة - كسيدات المجتمع الباريسي كله - بالحرب الموسيقية بين المدرسة الألمانية والمدرسة الإيطالية، وكان في الرحلة معها طائفة من العلية المهذبين تحدثوا في مسائل شتى من مسائل الأدب، والفن، والفلسفة، وكتب فرنكلين هذه الحكاية ليضمنها عبرة الحياة بعد اليوم الذي قضوه في النزهة، أو بعد الأجل المعدود لأجيال الذباب التي تظهر في موسم الربيع، وتكثر في جزر الأنهار الفرنسية، ولا يطول بها العمر وراء اليوم الذي تولد فيه.
Página desconocida