فقالت الأم: هجم برد الشتاء وما إن يأتي المساء حتى يركبنا الكسل. أما نهارنا فلا يخلو ساعة من هموم البيت.
فقال فريد أفندي: نحن أسرة واحدة، وينبغي أن نمضي جل فراغنا معا.
كان فريد أفندي ممن لا يبرحون بيوتهم بغير داع قهار، ويرى طيلة فراغه متربعا على الكنبة ومن حوله زوجه، وبهية ابنته، وسالم ابنه الصغير، يسمرون، ويمصون القصب أو يشوون أبا فروة. وكانت الأم تكن مودة صادقة لعطفه ومروءته، ولا تنسى له ما تجشم من تعب يوم وفاة زوجها. وفضلا عن هذا كله فقد أقرضها بعض المال لحين صرف المعاش، ولم يكن يني عن الذهاب إلى وزارة المالية للاستعلام والاستعجال. بيد أنه كان موظفا تافه الشأن، وهو ما غاب عن تقدير المرأة. ولم يرق إلى الدرجة السادسة إلا حديثا على بلوغه الخمسين. وكانت جيرته للأسرة ترجع إلى عهد بعيد. وتوثقت أواصر الصداقة بينهما لطيب معشرهما، وقرب أسباب المعيشة بين الأسرتين. وكانت حياة لا بأس بها، ولا تخلو من ألوان الترفيه. ثم نعمت أسرة كامل أفندي برفاهية جديدة حين رقي المرحوم إلى الدرجة السادسة قبل وفاته بخمسة أعوام. واستقبل فريد أفندي عهدا جديدا منذ عامين، فورث بيتا بالسيدة زينب، يدر إيجاره عشرة جنيهات شهريا، وبلغ به دخله ثمانية وعشرين جنيها، مما يعد ثروة في عام 1933. وبات فريد أفندي سيد عطفة نصر الله، وزاد ترهلا على ترهل، ولولا حرص زوجه على الاقتصاد لمواجهة مستقبل فتاتهما وابنهما الصغير؛ لنفذ الرجل ما أراده يوما من الانتقال إلى شقة بشارع شبرا.
وتنقل بهم الحديث من واد لواد، ثم قال فريد أفندي مفصحا عن رغبة لعلها كانت أول ما بعثه إلى هذه الزيارة: يا ست أم حسن، إني قاصدك في رجاء.
فقالت الأم: مر يا سيدي. - ابني سالم، وهو في السنة الثالثة الابتدائية، ضعيف في الإنجليزي والحساب. وقد رأيت على سبيل الاقتصاد - لأن المدرسين طماعون كما تعلمين - أن أعهد إلى حسين وحسنين بالقيام بهذه المهمة، ساعة كل يوم، أو يوما بعد يوم، هذا رجائي يا ست أم حسن.
وأدركت المرأة أن الرجل يهيئ سبيلا غير ماس بالكرامة لنفح ابنيها بمصروف شهري يرفه عنهما، هذا واضح كالنهار، ويتفق مع ما طبع الرجل عليه من دماثة ورقة، وقالت برقة وحياء: إن حسين وحسنين ابناك، وهما طوع أمرك!
فقال الرجل بسرور: فليسعفاني بسرعة إذن، وليبدآ يوم الجمعة القادم.
وعادوا إلى حديثهم الطويل، ثم غادر الرجل وزوجه الشقة حوالي التاسعة. وهرعت نفيسة إلى حجرة أخويها حاملة خبرا سارا لأول مرة منذ عهد ليس بالقصير، وقالت بمرح وقد استردت شيئا من طبيعتها الأولى: مفاجأة!
فرفعا رأسيهما إليها في استطلاع فقالت: فريد أفندي راغب في اختيار مدرس لسالم. - وما شأننا في ذلك؟ - منكما؟ - لأي مادة؟ - الإنجليزي.
فصاح حسنين: أنا طبعا!
Página desconocida