وانطلقت السيارة في طريق العودة، فتزحزحت حتى نهاية المقعد، وسهمت إلى الظلمة بعين خابية.
61
وكان يوم قبول حسنين طالبا بالكلية الحربية أسعد الأيام جميعا، وكان يحسبه مطلبا غير عسير كشأنه حيال مطالبه، ثم أخذ يتبين عسره وعناده؛ حتى اقتنع آخر الأمر بأن تدبيره للدفعة الأولى من المصروفات كان أخف متاعبه. وقد طال تردده إلى فيلا أحمد بك يسري، وكاد الرجل ييئس من قبوله، فنصحه بالعدول عن اختياره، ولكن تصميم الشاب وتقدم ترتيبه وحسن هيئته، وتفوقه في الكرة والعدو، ثم شفاعة أحمد بك قبل كل شيء. كل أولئك ساعد على إحداث المعجزة - على حد تعبيره بعد اليأس - وتم القبول وكاد يجن من الفرح، والحق أنه علق آماله كلها على هذا القبول بحيث لم يكن يدري ماذا يفعل أو كيف يولي وجهه وجهة أخرى لو أخفق مسعاه، كان طموحه إلى الحربية يتفجر من صميم روحه الملهوفة على السيادة الثائرة على تعاسة حياته وضعتها، وبدت الكلية لعينيه كمصنع سحري قادر على تحويله من إنسان مهزول مغمور إلى ضابط مرموق في ظرف عامين، وبأقل جهد، وكان سمع مرة صاحبا له يصف ضباط الجيش بقوله «الضباط مرتبات عالية ونفخة كاذبة، وعمل كاللعب لا خير فيه!» فهامت بالحربية نفسه وقوي حلمها في روحه. ولما علم بقبوله في الكلية أبى أن يعترف لوساطة أحمد بك بالدور الخطير الأول الذي لعبته في قبوله، فقال لأمه إن الفضل الأول راجع لمزاياه الجسمية، وتفوقه في الرياضة. وقال لنفسه في زهو: «أستطيع أن أعد نفسي من الضباط منذ الآن!» وراح خياله المختال يستعرض الآدميين الذين ستؤثر فيهم بذلته الرسمية تأثيرها السحري؛ الجنود والفتيات وعامة الشعب، بل وأحمد بك يسري نفسه وهو مرح نشوان. وحمل الخبر السار بنفسه إلى أسرة فريد أفندي محمد، فاستقبلته بفرحة تجل عن الوصف، وقال له فريد أفندي ضاحكا «شرفتنا يا حضرة الضابط!» وقال الشاب على مسمع من بهية لغرض في نفسه: «سأغيب عنكم أربعين يوما قبل أن يسمح لنا بالخروج مرة كل أسبوع!» وكان يطمع أن يحظى تلك الساعة بما حرم عليه عامين، ولكنه لم يتح له أن يخلو إلى الفتاة إلا دقائق، ولم تكن الدقائق لتمنعه من نيل مشتهاه لو أرادت الفتاة أن تجود له به، ولكنها لم تتزحزح عن تعففها حتى في هذه اللحظة. وغلبها الحياء كعادتها، فانكمشت وقلبها يخفق بالعطف والألم تأثرا بالوداع، وقال لها بعجلة في صوت لا يكاد يسمع: «أريد قبلة حارة من شفتيك!» ولما رأى حياءها وجمودها قال بجزع: «أتأبين علي هذا حتى في هذه اللحظة! .. لا يمكن أن أتصور أنك تحبينني!» وخرجت الفتاة عن صمتها قائلة في قلق «بل لهذا أرفض أن أذعن لك!» وتساءل في إنكار: «لا أفهم ما تعنين.» فقالت بشجاعة مؤثرة: «أرفض لأني أحبك!» وكان يسمع هذا الاعتراف الصريح البسيط لأول مرة، فبلغ به التأثر حد السكر، وهم بالاقتراب منها ولكنها أشارت إليه محذرة وهي تومئ برأسها ناحية باب الحجرة المفتوح، وما لبث أن عاد فريد أفندي وزوجه، فقضى بقية الوقت ممزقا بين نشوة السكر وقلق الشوق وحنق الغيظ، ثم ودعهم ونزل إلى شقته وهو يقول لنفسه: «هذا حب عاقل! حب يسيطر عليه الحزم والتدبير، كأنها رسمت خطة حكيمة كي تضمن زواجي بها. ولكن هل يعرف الحب الحقيقي هذا المنطق البارد؟!» وكان حديثه لنفسه في الواقع خاضعا لما استحوذ عليه من غيظ وحسرة، وعد وداعه لها أسوأ وداع مني به عاشق، ثم أمضى شطرا من الليل بين أمه وأخته، ولم تستطع نفيسة - كعادتها - مغالبة مشاعرها، فدمعت عيناها وقالت في حزن: «قضي علينا بأن نعيش وحدنا!» ولم يخل هو من كآبة خليقة بمن يفارق أهله لأول مرة، ولكن هون من وقعها أن روحه كانت تهفو كثيرا إلى الحياة المستقلة في بيت غير البيت، ووسط غير الوسط، أما الأم فحافظت على هدوئها الظاهري، ولم تشجع نفيسة على الاسترسال في حزنها، وقالت لها بحدة: «لا تبكي كالأطفال، سنراه كثيرا، وحسبنا سرورا أنه نال ما تمنى!» بيد أن قلبها كان في واد آخر، حرك الفراق الوشيك أشجانه فرجعت أوتاره الأحزان المنطوية، فذكرت وداع حسين، وتخيلت خلو البيت من أبنائها جميعا، وتداعت إلى ذهنها - على كره - ذكرى رحيل زوجها، فعجبت لحياتها التي لا تجود لها بسعادة إلا مصحوبة بوداع وفراق، فهل قدر لها أن تمضي البقية الباقية من حياتها وحيدة؟ وهل في سبيل هذه النهاية تصبرت وتجلدت وعانت ما عانت من مرارة الكفاح؟! ولكنها لم تستسلم لحزنها إلا بمقدار يسير، ونادت قوتها الكامنة، وذكرت ما صادف ابنها من آي التوفيق لتستعين به على تبديد كآبتها، مهما يكن من أمر فإنها تؤمن الآن بأن ما بذلت من صبر وكفاح لم يضع سدى، وأن سفينتها الضالة في سبيل الهداية إلى مرفأ آمن. ويحق لها أن تفرح؛ فما من ثمرة تجنى في هذه الأسرة إلا وهي غرس يديها وعصارة قلبها.
وفي الصباح الباكر ودع حسنين أمه وأخته، ومضى في سبيله إلى الكلية الجديدة.
62
ثم وجد نفسه في فناء الكلية بين جماعة المستجدين من الطلبة، وبحثت عيناه فيما بينهم لعله يجد صاحبا قديما من التوفيقية فيلوذ به من وحشته، ولكنه لم يظفر بوجه قديم، وضايقه هذا وإن أحس زهوا لكونه الطالب الوحيد من مدرسته الذي قبل في الحربية، وتمنى كثيرا أن يبدأ أحد بالكلام، وطال انتظاره، ولكن أبى كبرياؤه أن يكون هو البادئ، ثم مضى يتسلى بمشاهدة الكلية فجرى بصره مع الفناء الشاسع، وأبنيتها الفخمة المترامية، ثم ثبته طويلا على تمثالي المدفعين المقامين عند مدخلها فهاله المنظر، وبث في نفسه إعجابا وخيلاء. وكان بادئ الأمر مطمئنا إلى مزاياه الجسمانية من طول قامته ورشاقة قده ووسامته، ولكنه تخلى عن كثير من إعجابه بنفسه حين تفحص الآخرين ورأى بينهم شبابا غضا وفتوة ناضرة وجمالا رائعا، إلى ما لاحظ على بعض الأفراد من مخايل الأرستقراطية، ثم وقعت عيناه على شاب قادما من حجرة تطل على الفناء عرف فيه زميلا قديما في التوفيقية سبقه إلى الالتحاق بالكلية بعام أو يزيد، وكان يرتدي قميصا وبنطلونا قصيرا من الخاكي، وعلى ذراعه اليسرى أربعة شرائط، لم يكن من أصدقائه ولكنه تعرف به في فناء المدرسة، ومع أنه لم يكن يذكر من اسمه إلا «عرفان» ولم تكن هذه العلاقة الواهية لتغريه بالإقبال عليه في غير هذا الظرف إلا أنه رحب بالتسليم عليه ليعلن صداقته بهذا الطالب القديم أمام الطلبة المستجدين. ونفذ فكرته فمضى إليه حتى واجهه ومد إليه يده مبتسما وهو يقول في ألفة: كيف أنت يا عرفان؟
وسرعان ما ماتت الابتسامة على شفتيه للنظرة الجامدة التي رماه الآخر بها في تجهم وصلف، وقد أطال تفحصه في تكبر وما يشبه الغضب، ثم لمس يده بيده واستردها بسرعة كأنه يخاف عليها عدوى خبيثة دون أن ينبس بكلمة! وشعر حسنين بانهيار شامل وذهول قاتل، وظنه نسيه أو أساء فهمه فقال كالمستغيث: ألا تذكرني؟ .. أنا حسنين كامل علي.
فلم يؤثر الاسم في الآخر أيما تأثر، ولم يطرأ على صلابته أي لين، ولكنه خرج عن صمته وقال بخشونة وجفاء: لا صداقة هنا، أنت طالب مستجد وأنا باشجاويش.
نطق بهذه الكلمات ثم ذهب، ووجد حسنين نفسه في موقف خزي لم يقفه في حياته؛ فأثلجت أطرافه وتوترت شفتاه، وانتبذ موضعا بعيدا متحاميا النظر إلى أحد أقرانه، وإن تخيلهم وهم يتغامزون ويتضاحكون؛ ماذا دهاه الأحمق! ترى هل أهانه لضغينة اضطغنها عليه أو فقد رشاده؟ أمن الممكن أن يكون هذا هو النظام المتبع في هذه الكلية؟! ولبث مستغرقا في أفكاره لا يرى مما حوله شيئا حتى نودي على الطلبة المستجدين، ودعوا إلى أول طابور لهم بالملابس المدنية، ووقفوا صفين متوازيين بإرشاد الباشجاويش محمد عرفان وبعض الجنود، وقد تجنب النظر إلى صاحبه القديم الذي وجده معلقا فوق رأسه كالسيف وكظم عواطفه المستعرة أن يلوح منها أثر في وجهه، ثم جاء ضابط عظيم محاطا ببعض الضباط من رتب أقل، وألقى عليهم نظرة ثاقبة ثم راح يخطبهم عن الحياة العسكرية التي آثروها، وكان يخطب باللغة العامية بصوت أجش يوافق ما ارتسم على أساريره من الصلابة والعنف، وكان يفصل بين كثير من جمله بهذه العبارة «العقاب الصارم»، حتى صارت كضربات الإيقاع وملأ القلوب رهبة وحذرا، وما إن انتهى من خطبته حتى بدأ أول يوم في الحياة العسكرية الجديدة، واستقبل به حسنين حياة جديدة لم يسبق له بها عهد. وبدأ اليوم - والأيام جميعا - شاقا طويلا، يبتدئ بالدش البارد في الصباح الباكر، ويثنى بالطابور، ثم الدروس، جهد متواصل، وخشونة في المأكل والملبس والمعاملة، حتى إذا جاء وقت النوم استلقوا كالقتلى. وكانت خشونة المعاملة أفظع ما يلاقونه، كان الرؤساء يرونها فرضا واجبا، ويكفي أن يحظى طالب بشريط لأقدميته حتى يمارسها كحق من حقوقه، وهو يمارسها في غير رأفة وبسطوة تبلغ في أكثر الأحايين إهانة صريحة وتجريحا متعمدا. ولم يكن ثمة مجال للاعتراض أو الاحتجاج؛ إذ لم يكن للكلية من شعار تحرص عليه كالطاعة العمياء الخرساء البكماء، ولم يجد حسنين من عزاء في ذلك الجو الرهيب إلا أنه سيصير يوما أومباشيا ثم باشجاويشا، وهنالك يقضي ديونه دفعة واحدة! وقد ذكر عهد التوفيقية - الذي وصفه يوما بالإرهاب - بالترحم والرثاء. وبلغ منه الضيق أحيانا أن ندم على اختياره لهذه الكلية الجهنمية، وتمنى لو تواتيه الشجاعة على التخلص منها، وكان يشاركه إحساسه هذا كثيرون في الأيام الأولى على وجه الخصوص، وقد عصرتهم قساوة الحياة فسارع إليهم الهزال، ولعل حسنين كان الطالب الوحيد الذي لم يخضع لهذا القانون الطبيعي، بل لعل جسمه اكتسب ارتواء غير منتظر لأن غذاء الكلية - على خشونته - هيأ له وجبات منتظمة لم يعتدها في أعوام الشدة الأخيرة. بيد أنه تعرض لآلام نفسية غير متوقعة في أيام الجمع التي يسمح فيها عادة بالزيارات. كان فناء المدرسة الخارجي يمتلئ بالآباء والأمهات والأقارب، فيحظى الطلبة جميعا بنهار ممتع، ويعودون إلى حجراتهم مثقلين بالهدايا من حلوى وفاكهة ودسم الطعام، حتى الطلبة الريفيون لم يعدموا أقارب من القاهرة، فلم يكن ثمة طالب يقضي هذا اليوم السعيد وحيدا إلاه، لم يزره أحد ولم ينتظر أحدا، وكانت أمه قد أخبرته - قبل رحيله - بأنها لن تستطيع زيارته لأنها - كما يعلم - لم تتمكن من ابتياع معطف جديد يليق بالظهور أمام أقرانه، أما نفيسة فقد قالت له بمزاجها المألوف: «لا أظن أنه مما يشرفك أن أبدو أمام زملائك بهذا الوجه!» ولم يكن ثمة أمل في أن تزوره بهية؛ لحيائها وعدم اعتيادها الظهور في مجتمع من الأغراب، فلم يبق إلا فريد أفندي، وكان بطبعه كسولا لا يكاد يفارق بيته إلا لضرورة قصوى، ومع هذا فقد زاره مرة وحمل إليه هدية من البسكويت، واعتاد في أيام الزيارات أن يختار موقفا عند مدخل الفناء الداخلي يراقب منه الزوار بعينين كئيبتين، ويتملى بمشاهدة النساء والفتيات مأخوذا بجمالهن وأناقتهن، وآي النعيم البادية في وجوههن وثيابهن. وعجب لهذه الفوارق التي تباعد بين الآدميين، وبدت لعينيه محيرة بقدر ما هي مزعجة، وثارت بنفسه انفعالات السخط والغضب والتمرد، فلم يجد من متنفس إلا في أن يناقش ربه الحساب، متسائلا - فما يشبه التحدي - عن أسرار حكمته التي جعلت من الدنيا ما هو كائن! وسأله مرة زميل له عن سر عزلته فقال بلا تردد: أبي متوفى، وأخي مدرس بطنطا، أما الأسرة فمحافظة لم تألف الظهور بين الناس على هذا النحو!
بيد أن الأفكار السوداوية لم تجد من نفسه مرتعا خصيبا؛ إذ إن الحياة العسكرية لا تمهل الأفكار حتى يستفحل خطبها، وقد علمته أن ينسى باطنه أكثر وقته، ثم بمرور الأيام أخذ يألف شدتها وجوها الخانق فمضت تخف وطأتها وتحتمل، إلى ما ظفر به من صداقات جديدة ابتل بها صدره الموحش، فاستطاع أن يضحك ملء قلبه - رغم كل شيء - كعهده القديم، وهكذا انقضت الأربعون يوما.
Página desconocida