وسادت فترة من صمت أليم، ثم نفخ حسن في ضيق وقال: لو جئتني قبل أسبوع! .. وعلى أية حال سأسافر غدا إلى السويس، ولعلي أعود بما يكفيك!
وتفكر مليا على حين قال حسنين بصوت منخفض: يؤسفني أني أزعجتك!
فقرصه في أنفه ضاحكا وقال: كيف تعلمت هذا الأدب، وعهدي بك طويل اللسان! لا تنزعج، سآتيك بما تريد ولو قتلت قتيلا ونشلت محفظته.
ثم أعطاه عشرة جنيهات، وحمله السلام إلى أمه وأخته، وطلب إليه أن يستمسك بالحكمة إذا تحدث عما رآه في بيته، وشد حسنين على يده شاكرا وغادر الشقة، وما إن انفرد بنفسه حتى قال بصوت ثقيل كئيب: «حياة حسن فضيحة يجب التستر عليها، ولعل ما خفي منها أدهى وأفظع.» وقطع الطريق متفكرا مغتما يلفه إحساس بالاشمئزاز والخوف، لم يكن بوسعه أن ينسى جميله ولا ما أبداه نحوه من عطف أخوي، ولكنه لم يستطع كذلك نسيان المرأة والرجال المشوهين، والندبين الخطيرين، نقش هذا كله على صفحة قلبه بمداد التقزز والرعب، رباه! لقد انقلب حسن إلى نوع آخر من الآدميين، لم يعد من الأسرة ولا من المجتمع الذي يعرفه، إنه يترنح كأنما ضربة قد هوت على رأسه فأفقدته وعيه، وكلما جد في السير امتلأ شعوره بفداحة الخطب، وذكر حاجته إليه جعلته يستوهبه نقودا لا يدري من أين أتت، فاشتد اشمئزازه وحنقه، ولعن هذه الحاجة من أعماق قلبه في يأس وقهر، وأمر من هذا كله أن حاجته لم تنته، فسيعود إليه بعد أيام ويمد إليه يده سائلا! ترى من أي سبيل تأتيه النقود في السويس! إن قلبه لا يكذبه، وفيما رأى بعينيه الكفاية لمن ينشد الدليل، ورغم هذا كله سيعود إليه ويسأله أن يتم صنيعه له! هل يستطيع أن يغضب لكرامته حقا؟ هل يستطيع أن يرد هذه الجنيهات إلى أخيه ويصيح في وجهه إني لا أرضى عن حياتك القذرة؟ وندت عنه ضحكة مبحوحة مرة .. إنه يعلم أنه يهذي هذيانا سخيفا، سيعود إليه راضيا ويأخذ النقود - إذا تفضل بها - شاكرا ممتنا، ولو علم أنه ذاهب إلى السويس ليسرقها ما وسعه إلا أن يدعو له بالتوفيق، وقال كأنه يحاور ضميره المتوجع: «مهما يكن من أمر فهو بالنسبة لنا أخ فاضل كريم!»
59
وفي عصر اليوم نفسه مضى إلى فيلا أحمد بك يسري بشارع طاهر، والواقع أنه كان يندفع بحيوية هائلة نحو الأمل الذي ركز فيه حياته جميعا؛ فإما الحرية أو الموت. وجلس في السلاملك ينتظر البك مسرحا طرفه في أطراف الحديقة أو في الشطر الأمامي منها على الأصح، وكان مشتت اللب فرآها رؤية غامضة، وتنقل بصره الشارد بين نخيلها الرشيق المنغرس وسط دوائر من الحشائش المنسقة سورت بنبات الشيح، وانتشرت في رقاعها شجيرات الورد على هيئة أهلة، وارتاح لحظة من أفكاره فاستقر ناظره على دائرة حشائش كبيرة تتوسط المكان ما بين مدخل الفيلا والسلاملك، فاستسلم إليها فارا من قلقه، وكانت تنبثق من وسطها نخلة قصيرة ذات جذع أبيض ترف عليها روح الطفولة، وتغشى سطحها شجيرات الورد بوفرة حتى تماست أغصانها وتعانقت أزهارها، فامتزجت في هالة كبيرة انثالت عليها الحمرة والخضرة والصفرة في وئام وائتلاف وسلام. وابتسم وهو لا يدري، وكان الظل قد زحف على أرض الحديقة وما وراءها من الطريق، ولاحت آثار الشمس المائلة في أعلى الدور على الجانب الآخر للطريق، ولكن الهواء هفا مائلا للسخونة مفعما بعرف الياسمين الجاثم على سور الفيلا، وورد على خاطره هذا السؤال: «هل يمكن أن أقتني يوما فيلا كهذه؟» وتخيل الحياة فيها ما بين المخدع والحديقة، وما يتبعها عادة من سيارة وأسرة محترمة. هذه هي المرة الثانية التي يزور فيها فيلا أحمد بك يسري ، وفي كلتا المرتين انفجر في صدره بركان من الطموح والسخط، والتلهف على متع الحياة النظيفة المحترمة، وكان أخوف ما يخافه أن ينحصر في حياة كحياة حسين، فيقطع عمره ما بين الدرجتين الثامنة والسادسة بلا أمل ناضر. في الحياة متع عالية وهواء نقي، وينبغي أن يأخذ نصيبه منها كاملا، وتوقف عن التفكير فجأة حين لمح دراجة تمرق من الجانب الأيسر للحديقة وعليها فتاة، وكانت الفتاة توجه الدراجة في حذر على مماشي الفسيفساء بين دوائر الزهور، فاستغرقها الحذر عن النظر فيما حولها، كانت في السادسة عشرة، ترتدي فستانا أبيض هفهافا، وتعصب رأسها بإيشارب منمنم، ذات قامة نحيلة، وصدر ناهد، وبشرة نقية، وقد أعجله النظر إلى ساقيها المدملجتين اللتين تتناوبان الارتفاع والانخفاض، فلم يكد يتبين وجهها، واختفت وراء جناح الفيلا الأيمن قبل أن يستدرك ما فاته منها، وثار في عينيه اهتمام ويقظة؛ إذا لم تكن هذه الفتاة كريمة أحمد بك فمن تكون؟ وابتدرت مخيلته تستدعي صورة بهية بجسمها اللدن الممتلئ، ووجهها البدري، شهية جميلة، ولكنها ليست من هذه الرشاقة في شيء! ثم ذكر أخته نفيسة فعجب للاختلاف البين بين مخلوقات من جنس واحد، ثم شعر في قلبه بغمز ألم وعطف، وعاد إلى نفسه فوجد فيها من فتاة الدراجة أثرا يشبه الأثر الذي تركته الحديقة والفيلا ونجفة بهو الاستقبال، طموحا وثورة وسخطا! «ما أجمل أن أملك هذه الفيلا وأنام فوق هذه الفتاة!» ليست شهوة فحسب، ولكنها قوة وعزة، فتاة مجد تتجرد من ثيابها، وترقد بين يدي في تسليم مسبلة الجفون، وكأن كل عضو من جسدها الساخن يهتف بي قائلا: «سيدي، هذه هي الحياة، إذا ركبتها ركبت طبقة بأسرها!» ثم عاودته ذكرى بهية فتضاعف ألمه، وامتزج به ما يشبه الندم والخجل، وهنا سمع وقع أقدام آتية من ناحية السلم، فالتفت صوبها منقطعا عن تيار أفكاره، فرأى أحمد بك قادما في بدلة بيضاء من الحرير، وقد رشق في عروة الجاكتة وردة حمراء، فانتفض قائما وأقبل نحوه في أدب، وانحنى على يده مسلما في إجلال، وابتسم البك مرحبا وسأله وهما يجلسان: كيف حال الأسرة يا بني؟
فقال حسنين بتودد: يقبلون يدك الكريمة ويذكرون صنائعك.
فغمغم البك: أستغفر الله.
وأيقن البك أنه سيتلقى عما قليل رجاء بتوظيف هذا الشاب أو نقل أخيه إلى القاهرة ... إلخ. لم يكن يومه يخلو من مثل هذا، وكان يضيق بالرجاوات، ولكنه كان في قرارة نفسه يحبها كذلك، ولا يطيق أن يخلو بيته يوما من صاحب حاجة، وقال: خير يا بني؟
فقال حسنين بحرارة: جئتك يا سعادة البك مستنجدا بشفاعتك في إلحاقي بالكلية الحربية.
Página desconocida