برح الخفاء! وأصيب بذهول، ثم غمغم متسائلا: الفندق؟!
فقالت بحزم: أنت لا تدري من أمر الناس شيئا، ولعل جيرانك أناس طيبون، ولكنهم لا يحفلون إلا بمصلحتهم، وإذا حافظت على جيرتهم كرهتنا وأنت لا تدري!
55
ولم يعودا إلى هذا الحديث مرة أخرى؛ فلم تكن الثرثرة من طبعها شأن الكثيرات من النساء. وقد قضيا صباح الجمعة في سعادة شاملة؛ حينا في البيت، ثم انطلقا في المدينة لزيارة السيد البدوي، ولكنها صممت على الذهاب إلى المحطة مع الضحى، فلم يسعه إلا الإذعان لها مرغما، وذهبا معا وقطع لها تذكرة، وفي أثناء انتظار القطار قال لها: سأبقى في البيت حتى نهاية الشهر؛ لأني دفعت الإيجار كما تعلمين.
فكان جوابها أن دعت له بالتوفيق والسداد، ثم جاء القطار فودعته وصعدت إلى عربة من عربات الدرجة الثالثة، وانحسرت بين جمع حافل من القرويات والقرويين. وغشيته كآبة ثقيلة، لأنه كان يقف منها موقف التوديع لأول مرة في حياته، فغمز القطار الذاهب قلبه غمزة قوية، ولأنه عز عليه أن يراها منزوية في العربة الحقيرة وسط البؤس والبائسين، وعاد إلى البيت كثير الهم والفكر؛ «أنا الملوم! إني أدفع ثمن حماقتي، أي شيطان يخصني بعنايته؟ هذه هي المرة الثانية، الخيبة تلاحقني دائما، لا مفر.» وجاءه خادم حسان أفندي يدعو والدته إلى الغداء، فأخبره بأنها سافرت إلى القاهرة. وجاءه مرة أخرى في المساء يدعوه إلى السهرة المعتادة فلم يسعه إلا الذهاب.
وجلسا حول خوان النرد في الحجرة بعد أن أحكم الشتاء إغلاق الشرفة، وسأله حسان أفندي: كيف عادت والدتك بهذه السرعة؟
فأجاب حسين مبتسما: لا يمكن أن يستغني عنها بيتنا أكثر من يوم. - تجيء الخميس وتذهب الجمعة؟! رحلة لا تستحق مشقة القطار! - ولكنها حققت لها ما تريد، فاطمأنت علي وتبركت بزيارة السيد ...
وأشار الرجل إلى داخل الشقة قائلا: قالوا لي إنها ست طيبة جدا. - بعض ما عندكم.
فتساءل الرجل وهو يرمش بعينيه العمشاوين. - كنا نود لو زارتنا قبل الرحيل! - كانت متعجلة، وقد حاولت أن أؤخر سفرها إلى العصر، ولكنها اعتذرت بحاجة بيتنا إليها.
فقال الرجل بأسف: وأعددنا لها غداء طيبا، فاخترت لها بنفسي ثلاث دجاجات مسمنة.
Página desconocida