اقتربت منه سيدة طاعنة في السن، تدب على مظلة وهي ترفع إليه وجها ناصع البياض، كثير التجاعيد، لم يكد يحجب منه شيئا برقعها الأبيض الشفاف، وتلقت تحيته بابتسامة جلت عن أسنانها الذهبية، وسلمت، ثم اتخذت مجلسها إلى جانبه بلا كلفة وهي تقول: من يعش ير، حتى أنت يا زين الرجال! ... وحتى هذا البيت تحدث فيه هذه الأمور التي لا يطيب التحدث عنها! ... شخت ورب الحسين وبادرك الخرف ...
واسترسلت في الكلام مطلقة العنان للسانها يقول ويعيد غير تاركة للسيد من فرصة لمقاطعتها أو التعقيب عليها، حدثته كيف جاءت للزيارة، وكيف اكتشفت غياب زوجه: «ظننت بادئ الأمر أنها خرجت في زيارة، فدققت صدري بيدي دهشة وقلت ماذا حدث للدنيا؟! ... وكيف سمح لها السيد بالخروج مستهينا بالشرائع الإلهية والقوانين البشرية والفرمانات العثمانية! ...» بيد أنها سرعان ما عرفت الحقيقة كلها: «فثبت إلى رشدي، وقلت الحمد لله الدنيا بخير، هذا حقا هو السيد، وهذا أقل ما ينتظر منه.» ثم غيرت لهجتها الساخرة وراحت تؤنبه على قسوته، ولم تقتصد في الرثاء لزوجه التي تعدها آخر امرأة تستحق عقابا، وجعلت كلما هم بمقاطعتها تصيح به: «هس، ولا كلمة ... دع حديثك الحلو الذي تحسن تنميقه فلن أخدع به، إني أريد عملا صالحا لا مزوقا.» وصارحته بأنه يغالي في المحافظة على أسرته مغالاة خرقت المألوف، وأنه يجمل به أن يأخذ نفسه بشيء من الهوادة والرفق، استمع السيد إليها طويلا، ولما سمحت له بالكلام - بعد أن أعياها الكلام - شرح لها وجهة نظره المعروفة ولم يمنعه دفاعها الحار ولا مكانتها عنده من أن يؤكد لها بأن سياسته مع أسرته عقيدة لا يتحول عنها، وإن وعدها في النهاية - كما وعد أم مريم من قبل - خيرا، وظن أن آن للجلسة أن تنفض ولكنه ما يدري إلا وهي تقول: غياب أمينة هانم مفاجأة غير سارة لي؛ لأني كنت أريدها لأمر هام جدا، ولأن الخروج لم يعد بالمهمة اليسيرة على صحتي، ولا أدري الآن إن كان يحسن بي أن أتكلم فيما أردت الكلام فيه أم أنتظر عودتها!
فقال السيد مبتسما: كلنا تحت أمرك. - وددت لو كانت هي أول من يسمعني، وإن كنت لم تترك لها من الأمر شيئا، ولكن لئن فاتني هذا فعزائي أني أهيئ لها فرصة سعيدة للعودة.
فاحتار السيد في فهم حديثها، وحدج إليها متسائلا: ما وراء هذا؟
فقالت وهي تنكت السجادة بسن مظلتها: لا أطيل عليك، لقد وقع اختياري على عائشة لتكون زوجا لخليل ابني.
ودهش السيد دهش من أخذ على غرة من حيث لم يتوقع فركبه الارتباك، بل الانزعاج، لبواعث غير خافية، أدرك من أول وهلة أن تصميمه القديم على ألا يزوج الصغرى حتى تتزوج الكبرى، سيرتطم هذه المرة برغبة عزيزة لا يسعه إهمالها ... رغبة عالنته بها من لا تجهل تصميمه ذاك مما دل على أنها ترفضه سلفا، وتأبى أن تنزل عند حكمه. - ما لك صامتا كأنك لم تسمعني؟!
وابتسم السيد ارتباكا وحياء، ثم قال على سبيل الملاحظة والمجاملة ريثما يقلب الأمر على وجوهه: هذا شرف عظيم لنا.
فرمته السيدة بنظرة كأنما تقول له: «ابحث لك عن طريقة أخرى غير معسول الكلام» وقالت بلهجة هجومية: لا حاجة بي إلى الضحك علي بأجوف الكلام، لن أرضى بغير الموافقة التامة، لقد ندبني خليل لاختيار زوجة له، فقلت له عندي عروس هي خير ما يمكن أن تظفر به، فسر لاختياري ولم يعدل بمصاهرتك شيئا ... فهل جاء زمن تقابل فيه مثل هذه الرغبة، مني أنا، بالصمت والتهرب؟! الله ... الله.
إلام يقع في هذه المشكلة المعقدة التي لا يمكن أن يخرج منها دون أن يصيب إحدى ابنتيه بصدمة قاسية؟! ... ونظر إليها كما يستجدي عطفها على موقفه، وغمغم: ليس الأمر كما تتصورين، رغبتك فوق العين والرأس، ولكن ... - آه من لكن! ... لا تقل إنك قررت ألا تزوج الصغرى حتى تتزوج الكبرى، من أنت حتى تقرر هذا أو ذاك؟ ... دع ما لله لله وهو أرحم الراحمين. إن شئت ضربت لك عشرات الأمثال عن أخوات صغار تزوجن قبل الكبار، فلم يحل زواجهن دون زواج أخواتهن بأحسن الأزواج، وخديجة شابة ممتازة ولن تعدم زوجا صالحا عندما يشاء الله ... إلام تقف حائلا بين عائشة وبين حظها؟ ... أليست هي الأخرى جديرة بعطفك ورحمتك؟!
قال لنفسه: إذا كانت خديجة شابة ممتازة، فلماذا لا تختارينها؟! ... وهم بإحراجها كما أحرجته ولكنه خاف أن ترميه بإجابة تتضمن إساءة - ولو بحسن نية - لخديجة وبالتالي له هو، وقال بصوت ملؤه الجد والاهتمام: ليس إلا أنني أشفق على خديجة.
Página desconocida