فما كان منها إلا أن رفعت ذراعيها فوق رأسها، فغرس أصابعه تحت إبطيها، وراح يدغدغهما بما وسعه من خفة وسرعة، مثبتا عينيه في عينيها السوداوين الجميلتين ليتلقف أول بادرة تضعضع عنها، حتى اضطر أن يسترد يديه متنهدا في يأس وخجل، فشيعته بضحكة رقيقة ساخرة وقالت: أرأيت أيها الرجل الصغير العاجز! ... لا تزعم أنك رجل بعد اليوم (ثم بلهجة من تذكر أمرا هاما بغتة) ... يا داهيتي! ... نسيت أن تقبلني! ... ألم أنبه عليك مرارا بأن تكون تحية لقائنا قبلة؟! وأدنت وجهها منه فمد شفتيه ولثم خدها، ثم رأى فتاتا من اللب المتسرب من زاوية فيه قد التصق بخدها، فأزاله بأنامله في حياء، أما مريم فتناولت ذقنه بأنامل يمناها وقبلت شفتيه مرة ومرة، ثم سألته فيما يشبه الإعجاب: كيف استطعت أن تفلت من بين أيديهم في هذه الساعة؟! ... لعل تيزة تبحث عنك الآن في كل حجرات البيت.
آه .. لقد استنام إلى الحديث واللعب، حتى أوشك أن ينسى الرسالة التي جاء من أجلها، ولكن تساؤلها ذكره بمهمته فرنا إليها بعين أخرى، العين التي تود أن تنقب في ذاتها عن السر الذي زلزل أخاه الرزين الطيب، إلا أن تشوفه تهافت حيال شعوره بأنه يحمل أنباء غير سارة، فقال بوجوم: فهمي الذي أرسلني.
ارتسمت في عينيها نظرة جديدة تفيض جدا، وتفرست في وجهه باهتمام لترى ما وراءه فشعر بأن الجو قد تغير كأنما انتقل من فصل إلى فصل، ثم سمعها تسأل بصوت خافت: لمه؟!
فقال لها بصراحة دلت على أنه لم يقدر خطورة الأنباء التي يحملها رغم شعوره الفطري بخطورتها: قال لي بلغها تحياتي وقل لها إنه استأذن والده في خطبتها، ولكنه لم يوافق على أن يعلن خطبته وهو تلميذ، وطلب إليه أن ينتظر حتى يتم دراسته.
كانت تحدق إلى وجهه باهتمام شديد، فلما بلغ السكوت خفضت عينيها دون أن تنبس بكلمة، فغشيت الجلسة صمتة واجمة ضاق بها قلبه الصغير، وتلهف على كشفها مهما كلفه الأمر، فقال: إنه يؤكد لك أن الرفض جاء على رغمه، وأنه يتعجل السنين حتى يحقق ما يتمنى.
ولما لم يجد لكلامه أثرا في إخراجها من غشاوة الصمت ازداد تلهفه على إعادتها إلى ما كانت عليه من بهجة ومرح، فقال بإغراء: هل أحدثك عما دار بين فهمي وبين نينة من حديث عنك؟
فتساءلت بلهجة بين الاكتراث وعدمه: ماذا قال وماذا قالت؟
فانشرح صدره بهذا النجاح الجزئي، وقص عليها ما ترامى إليه من حديث من وراء الباب حتى أتى عليه، فخيل إليه أنها تتنهد ثم قالت بتبرم: إن والدك رجل شديد مخيف، الكل يعرفه هكذا.
فقال وهو لا يدري: نعم ... أبي كذلك.
ورفع رأسه إليها في خوف وحذر، ولكنه وجدها كالغائبة فسألها متذكرا ما وصاه به أخوه: ماذا أقول له؟
Página desconocida