وساد الصمت قليلا، أو طويلا بالقياس إلى اللتين تسترقان السمع، ثم قالت المرأة برقة: فهمي يا سيدي شاب طيب، حاز رضاك بجده وتفوقه وأدبه، حماه الله من شر الأعين، ولعله بلغني رجاءه إدلالا بمنزلته عند والده ...
فقال الأب بلهجة تخيلتاه معها راضيا: ماذا يريد؟ ... تكلمي.
ومال رأساهما نحو الباب وكل منهما تحملق في الأخرى، ولا تكاد تراها، فجاءهما الصوت المتهافت وهو يقول: سيدي يعرف جارنا الطيب السيد محمد رضوان؟ - طبعا. - رجل فاضل مثل سيدي وأسرة كريمة وجيران ولا كل الجيران. - نعم.
واستطردت بعد تردد: فهمي يسأل يا سيدي هل يجيز له والده أن ... يخطب مريم كريمة جارنا الطيب لتبقى على ذمته حتى يصير أهلا للزواج؟
وهنا علا صوت السيد وقد غلظت نبراته بالغضب والاستنكار: يخطب؟! ... ماذا تقولين يا ولية؟ ... هذا الغلام! ... ما شاء الله ... أعيدي على سمعي ما قلت.
فقالت الأم بصوت متهدج وقد تخيلتها خديجة وهي تنكمش في ذعر: ليس إلا أنه يتساءل، مجرد تساؤل يا سيدي والأمر لك.
فقال الصوت المتفجر بالغضب: لا عهد لي ولا له بهذا التدلل المائع، ولا أدري ما الذي أتلف تلميذا حتى يتمادى في مطالبه إلى هذا الحد؟ ... ولكن أما مثلك خليقة بأن تفسد أبناءها، فلو كنت أما كما ينبغي لما جسر على مفاتحتك بمثل هذا الهذر الوقح.
ركب الفتاتين خوف ووجوم خالطهما في قلب خديجة ارتياح، ثم سمعا صوت الأم المتهدج المستخذي وهي تقول: لا تجشم نفسك مشقة الغضب يا سيدي، كل شيء يهون إلا غضبك، ما قصدت من ناحيتي إساءة قط، ولا تخيلها ابني وهو يحملني رغبته ببراءة، ولكنه رجاني بحسن نية فرأيت أن أعرض الأمر عليك، وما دام هذا هو رأيك فسأبلغه إياه، وسيذعن له بكل خضوع كما يذعن لأمرك دائما. - سيذعن أراد أم لم يرد، ولكني أريد أن أقول لك إنك أم ضعيفة لا يرجى منها خير. - إني أتعهدهم بما توصي به. - خبريني عما دعاه إلى التفكير في هذا الرجاء؟
وأرهفت الفتاتان السمع في اهتمام وانزعاج، وقد فاجأهما هذا السؤال الذي لم تتوقعاه، ولكنهما لم تسمعا لأمهما جوابا وتصورتاها وهي ترمش في ارتباك وخوف، فعطف قلباهما في إشفاق شديد: ماذا أخرسك؟ ... خبريني هل رآها؟ - كلا يا سيدي، إن ابني لا يرفع عينيه إلى جارة ولا إلى غيرها. - كيف رغب في خطبتها دون أن يراها؟ ... ما كنت أحسب أن لي أبناء يسترقون النظر إلى حرمات الجيران! - معاذ الله يا سيدي معاذ الله ... إن ابني إذا سار في الطريق لا يلتفت يمنة ولا يسرة، وهو في البيت لا يكاد يغادر حجرته إلا لضرورة. - ما الذي دعاه إلى طلابها إذن؟ - لعله يا سيدي سمع شقيقتيه وهما تتحدثان عنها.
وسرت في بدن الفتاتين رعدة شديدة ففغرتا ثغريهما في فزع وهما تنصتان. - ومتى كانت شقيقتاه خاطبتين! ... يا سبحان الله أينبغي أن أهجر دكاني وعملي وأقبع في البيت لأضبطه وأدفع عنه الفساد!
Página desconocida