122

Entre dos palacios

بين القصرين

Géneros

فقال وهو يثقبها بنظرة متوهجة: أن ترد التحية بعشر أمثالها؟!

فتساءلت في دلال: ومن أدراك بأن ثمة عفوا؟

فقال بلباقة: أليس العفو من شيم الكرام؟

ثم في نشوة مسكرة: العفو كثيرا ما يكون كلمة السر لولوج الجنة.

ثم وهو يرنو إلى ابتسامة عذبة لاحت في عينيها: الجنة التي أعنيها تقع عند ملتقى بين القصرين بالنحاسين، ومن جميل التوفيق أن بابها يفتح على عطفة جانبية بعيدا عن أعين الرقباء، وأن لا حارس لها !

وفطن إلى أن حارس الجنة السماوية سمي «المرحوم» الذي كان حارسا للجنة الأرضية التي يتلمس طريقه إليها، فشاب خاطره ضيق وخاف أن تكون المرأة قد فطنت إلى نفس الحقيقة الساخرة، ولكنه وجدها مهومة فيما يشبه الحلم، فتنهد وهو يستغفر الله في سره. وكان جميل الحمزاوي قد فرغ من زبائنه، فأقبل على السيدة ليقضي حوائجها، فسنحت للسيد فرصة للتأمل، فراح يذكر كيف رغب ابنه فهمي يوما في خطبة مريم ابنة هذه المرأة، ثم كيف ألهمه الله الرفض، وقد اعتقد وقتذاك أنه إنما ينفذ مشيئة حرمه فحسب، فلم يدر له بخلد أنه جنب ابنه شر مأساة ينكب بها زوج، وهل يمكن أن تنهج فتاة إلا على مثال أمها؟ ... وأي أم؟ ... امرأة خطيرة! ... قد تكون جوهرة ثمينة عند أمثاله من الصيادين، ولكنها في البيوت مأساة دامية، ترى أي طريق سلكت طوال الأعوام التي عاشها زوجها ميتا حيا؟ ... كل القرائن تشير إلى طريق واحد، ولعل كثيرين من الجيران يعرفون، بل لعله لو كان في بيته من يحسن ملاحظة هذه الأمور لما خفي عليه شيء، ولما بقيت زوجه على الولاء لها والإيمان بها حتى هذه الساعة، وعاودته رغبة - استحوذت عليه أول مرة عقب الزيارة المريبة القديمة، ولم يجد عندئذ سبيلا آمنا إلى تحقيقها دون إثارة الريب - وهي أن يحول بين المرأة المستهترة وبين بيته الطاهر، الآن يرى الظرف مهيأ - لاتصاله المنتظر بها - لتحقيق رغبته، وذلك بأن يوحي لها بقطع أسبابها بزوجه رويدا منتحلا ما يعن له من أعذار حقيقة ببلوغ الهدف دون مساس بكرامتها، هذه المرأة التي باتت أقرب ما تكون إلى فؤاده وأبعد ما تكون عن احترامه في لحظة واحدة! ولما انتهى الحمزاوي من إعداد حوائجها نهضت مادة يدها إلى السيد، فسلم باسما وهو يقول بصوت خافت: إلى اللقاء.

فغمغمت وهي تهم بالانصراف: نحن في الانتظار.

غادرته أوفر سعادة، نشوان بالظفر والعجب، ولكنها خلقت له أيضا هما لم يكن، هما جديرا بأن يحتل مكانا بارزا من مشاغله اليومية، سوف يتساءل من الآن فصاعدا عن آمن السبل للانسحاب من بيت زبيدة بنفس الاهتمام الذي يتساءل به عما فعلت السلطة العسكرية، وعما يبيت الإنجليز، وعما ينوي سعد، أجل جد جديد من السعادة يجر وراءه - كالعادة - ذيلا من الفكر. لولا حرصه الشديد على حب الناس له، ذلك الحب الذي يحظى منه بأسعد سعاداته، لهان عليه هجر العالمة بعد أن بلي حبه وذوت أزاهره وأغرقه الشبع في مستنقع آسن، ولكنه يشفق دائما من أن يترك وراءه قلبا حانقا أو نفسا حاقدة، وكم يود كلما ضيق الملل أنفاسه لو يبدؤه الحبيب بالهجر من ناحيته، فيكون مهجورا بدل أن يكون هاجرا، وكم يود أن تنتهي علاقته بزبيدة كما انتهت أخوات لها من قبل، بكدر عابر تغسله هدايا الوداع المنتقاة، ثم يستحيل إلى صداقة وطيدة، فهل تتقبل زبيدة - التي يظن أنها ليست دونه شبعا - اعتذاره بقبول حسن؟ وهل يطمع في أن تغفر له هداياه ما اعتزم من هجر؟ ... هل تثبت أنها امرأة كبيرة القلب سخية النفس كزميلتها جليلة مثلا؟ هذا ما ينبغي أن يفكر فيه طويلا، وأن يهيئ له أنجع الذرائع. وتنهد تنهدة طويلة كأنما يشكو ما جعل الحب فانيا لا يدوم ليكفي القلب متاعب الأهواء، ثم شرد به الخيال طاويا النهار، فتراءى له وهو يدب في الظلماء متلمسا سبيله إلى البيت الموعود، والمرأة تنتظر بيدها سراج.

52 «أعلنت إنجلترا حمايتها من تلقاء نفسها دون أن تطلبها أو تقبلها الأمة المصرية، فهي حماية باطلة لا وجود لها قانونا، بل هي ضرورة من ضرورات الحرب تنتهي بنهايتها ...»

كان فهمي يملي الكلمات، كلمة كلمة، في أناة وبصوت واضح النبرات والأم وياسين وزينب يتابعون باهتمام درس الإملاء الجديد الذي انكب كمال على كتابته، مركزا وعيه في ألفاظه من دون أن يفقه معنى كلمة مما كتب صوابا أو خطأ. لم يكن غريبا أن يلقي فهمي على شقيقه الصغير درسا في الإملاء أو غيرها في جلسة القهوة، ولكن موضوع الإملاء بدا جديدا حتى للأم وزينب، أما ياسين فنظر إلى أخيه مبتسما، وقال: أرى هذه المعاني قد ملكت عليك نفسك ... فلم يفتح الله عليك بإملاء لهذا الغلام المسكين إلا خطبة سياسية وطنية ينفتح لها المغلق من أبواب السجون.

Página desconocida