فطن السيد إلى ما وراء السؤال من رغبة خفية فحنق عليها، لا لأنه كان قرر أن يحول بينها وبين زيارة عائشة، ولكن لأنه ود - كشأنه في مثل هذه الحالة - أن يصدر السماح منه منحة غير مسبوقة بطلب أن تقوم بنفسها شبهة بأن طلبها ذو أثر في استصدار السماح، فكره أن تسعى إلى تذكيره بهذا السؤال الماكر، ومن قبل فكر في الأمر بضيق، فأحنقه أن يجده ضرورة لا محيص منها، ولذلك هتف بها حانقا: عائشة في بيت زوجها ولا حاجة بها إلى أحد منا، على أنني زرتها كما زارها أخواها، فماذا يقلقك عليها؟!
غاص قلبها في صدرها وجف ريقها يأسا وقهرا، أما السيد فقد تعمد أن يلزم الصمت كأنه انتهى من الأمر كله معاقبة لها على ما عده مكرا منها لا يغتفر، ثم أهملها طوال الوقت وهو يختلس النظر إلى ما غشي أساريرها من كمد، حتى حان وقت انصرافه إلى عمله، فقال لها بجفاء واقتضاب: اذهبي غدا إلى زيارتها!
تدافع دم الانشراح إلى الوجه الذي لا تخفى بصفحته خافية، فبدت في سرور الطفل فما عتم أن عاوده حنقه، فصاح بها: لن تريها بعد ذلك إلا إذا سمح لها زوجها بزيارتنا!
فلم تعلق على قوله بكلمة، ولكنها لم تنس عهدا حملته وهي تشاور خديجة في مفاتحته، فقالت بعد تردد وإشفاق: هل يسمح سيدي بأن آخذ معي خديجة؟
فهز رأسه كأنما يقول: «ما شاء الله ... ما شاء الله»، ثم قال لها محتدا: طبعا ... طبعا! ... ما دمت قد قبلت أن أزوج ابنتي، فيجب أن تنضم أسرتي إلى أبناء الشوارع! ... خذيها، ربنا يأخذكم جميعا.
تم لها فوق ما تطمع من السرور فلم تلق بالا إلى الدعاء الأخير الذي ألفت سماعه ... وأكثر - في أوقات غضبه أو تظاهره بالغضب على السواء - كانت تعلم بأنه من طرف لسانه وأنه أبعد ما يكون من قلبه، مثله كمثل القطة تبدو حين تحمل صغارها، وكأنها تلتهمها. تحقق الرجاء وانطلقت العربة بهم في طريقها إلى السكرية. بدا كمال، لزيارة عائشة وخروجه بصحبة أمه وأخته وركوبه الحنطور، أوفر الثلاثة سرورا، وكأنه لم يستطع كتمان فرحه، أو أنه رغب في إعلانه على الملأ، أو لعله أراد لفت الأنظار إلى شخصه وهو يتخذ مجلسه في الحنطور بين أمه وأخته، فما اقتربت العربة من دكان عم حسنين الحلاق حتى وقف بغتة هاتفا: «يا عم حسنين ... انظر!» فنظر الرجل إليه، ولما لم يجده وحده غض بصره في عجلة مبتسما، فذابت الأم خجلا وارتباكا، وجذبته من طرف جاكتته أن يعيد الكرة أمام الدكاكين التالية، وراحت تؤنبه على فعلته «الجنونية». بدا بيت السكرية - وليس كذلك بدا في حلة الأنوار ليلة الفرح - عتيقا هرما ولكن دل عتقه نفسه فضلا عن ضخامة بنيانه ونفاسة أثاثه على السؤدد والجاه، فآل شوكت أسرة «قديمة»، وإن لم يبق لهم من عزة القدم - خاصة بعد توزيع الثروة بالتوارث والاستكبار على التعليم - إلا الاسم، وقد أقامت العروس بالدور الثاني على حين نزلت حرم المرحوم شوكت - ومعها ابنها الأكبر إبراهيم - الدور الأول لعجزها مع الكبر عن ارتقاء السلم، فبقي دور ثالث شاغرا لم يسعهم أن يشغلوه وأبوا أن يسكنوه. ولما أدخلوا شقة عائشة هم كمال، منطلقا مع سجيته كما لو كان في بيته، يجوس خلالها كي يعثر بنفسه على أخته مستمتعا بلذة المفاجأة التي تخيلها، وهو يرقى في السلم ولكن أمه لم تدعه يفلت من يدها رغم مقاومته، وما يدري إلا والخادم تقودهم إلى حجرة الاستقبال، ثم تتركهم وحدهم! شعر بأنهم يعاملون معاملة «الغرباء» أو «الضيوف» فانقبض صدره، وانكسرت نفسه وجعل يردد في جزع: «أين عائشة؟ ... لماذا نبقى هنا؟» فلا يسمع إلا كلمة «هس» وتحذيرا من منعه من الزيارة مرة أخرى إذا علا صوته! ... ولكنه سرعان ما زايله الألم حين جاءت عائشة مهرولة مشرقة الوجه بابتسامة غطى سناها على أضواء حلتها الزاهية وزينتها الباهرة، فجرى نحوها وتعلق بعنقها، فتبودل التسليم بينها وبين أمها وأختها وهو على ذلك الوضع! بدت عائشة سعيدة كل السعادة بنفسها، وبحياتها الجديدة، وبزيارة أهلها، حدثتهم عن زيارات أبيها وياسين وفهمي، وكيف غلبها الشوق إليهم على خوفها من أبيها فواتتها الجرأة على أن ترجوه السماح لهم بزيارتها! ... قالت: «لا أدري كيف طاوعني لساني حتى تكلمت! لعل مظهره الجديد الذي لم يتراء لي به من قبل هو الذي شجعني، بدا لطيفا وديعا باسما، إي والله باسما، على أنني ترددت رغم ذلك طويلا، خفت أن ينقلب فجأة فينتهرني، ثم توكلت على الله ونطقت!» فسألتها أمها عن رده كيف كان، فقالت: «قال لي باقتضاب: إن شاء الله، ثم استطرد مسرعا بلهجة جدية تنم عن تحذير: ولكن لا تظني المسألة لعبا فكل شيء بحساب. فخفق قلبي، ورحت أدعو له طويلا توددا واسترضاء!» ثم رجعت إلى الوراء قليلا، فوصفت حالها عندما قيل لها: «السيد الكبير في حجرة الاستقبال.» قالت: «ركضت إلى الحمام فغسلت وجهي لأزيل كل أثر للمساحيق، حتى تساءل سي خليل عما يدعو إلى ذلك كله، ولكني قلت له: أدركني، لا أستطيع أن ألقاه بفستان صيفي يكشف عن ذراعي! ولم أبرح موضعي حتى تلفعت بشال كشميري!» ثم قالت: «ولما علمت نينة ... (ضاحكة) أعني نينة الجديدة ... لما قص عليها سي خليل ما جرى ضحكت وقالت له: إني أعرف السيد أحمد تمام المعرفة ... هو هذا وأكثر (ثم ملتفتة إلي) ولكن اعلمي يا شوشو أنك لم تعودي من آل عبد الجواد، أنت الآن شوكتية فلا تبالي الآخرين ...» أصاب منظرها البهيج وحديثها من نفوسهم موضع الحب والإعجاب، فحملق كمال فيها كما فعل في ليلة الزفاف، وتساءل محتجا: «لماذا لم تكوني تبدين هكذا وأنت في بيتنا؟!» فأجابته على الفور ضاحكة: «لم أكن وقت ذاك شوكتية.» حتى خديجة رمقتها بعين الحب. انقطعت بزواج الفتاة دواعي الملاحاة التي كانت تنشب بينهما بسبب الاختلاط، ومن ناحية أخرى لم يبق من الإحساس بالحنق الذي ركبها عند السماح بزواج الفتاة قبلها، إلا أثر باهت حملته «بختها» من دون الفتاة، فلم يعد ينطوي قلبها إلا على الحب والشوق، لشد ما تفتقدها كلما آنست من نفسها حاجة إلى أنيس تفضي إليه بذات نفسها. ثم تحدثت عائشة عن البيت الجديد، عن المشربية التي تطل على بوابة المتولي، والمآذن التي تنطلق عن قرب، وتيار السابلة الذي لا ينقطع. كل شيء حولها يذكرها بالبيت القديم، وما يكتنفه من سبل وأبنية، فلا اختلاف فيما عدا الأسماء وبعض المعالم الثانوية «ولكن على فكرة البوابة العظيمة لا نظير لها عندكم (ثم بشيء من الفتور) وإن كان المحمل لا يمر تحتها كما أخبرني سي خليل!» وواصلت حديثها: «تحت المشربية مباشرة مجلس يضم ثلاثة لا يفارقونه قبل جثوم الليل؛ شحاذ كسيح وبائع مراكيب وضارب رمل، أولئك جيراني الجدد، إلا أن ضارب الرمل أسعدهم حظا، لا تسألوا عن أفواج النساء والرجال الذين يجلسون القرفصاء أمامه مستخبرين عن طوالعهم، كم وددت لو كانت مشربيتي أوطأ كيما أسمع ما يقول لهم، وألذ منظر، منظر سوارس القادمة من الدرب الأحمر إذا تقابلت مع عربة حجارة قادمة من الغورية، فضاق عنهما مدخل البوابة، وركب كل سائق رأسه متحديا الآخر أن يتراجع ليفسح السبيل، يبدأ الكلام لينا بعض اللين فيحتد، ثم يخشوشن، ثم تهدر الحناجر بالسباب والشتائم، وتجيء في أثناء ذلك عربات كارو وعربات يد، فيغص بها الطريق، ولا يدري أحد كيف يعود الحال إلى ما كان عليه، هنالك أقف وراء الخصاص أكاتم الضحك، وأتأمل الوجوه والمناظر.» وما أشبه فناء البيت الجديد بفناء بيتهم، حجرة الفرن والمخزن وحماتها سيدة الفناء، والجارية سويدان «لا أجد لي عملا فلا أذكر المطبخ حتى تحمل إلي صينية الطعام.» وعند ذاك لم تتمالك خديجة نفسها من أن تضحك قائلة: «نلت ما طالما تمنيته!» لم يجد كمال في الحديث شيئا ذا بال، إلا أنه أحس في نغمته العامة بما يوحي «باستقرار» المتحدثة، فداخله الانزعاج وسألها: ألن تعودي إلينا؟
فملأ الحجرة صوت يقول: لن تعود إليكم يا سي كمال.
وإذا بخليل شوكت يدخل ضاحكا وهو يرفل بجسمه الربعة في جلباب حرير أبيض. كان ذا وجه بيضاوي ممتلئ، أبيض البشرة في عينيه جحوظ خفيف وفي شفتيه غلظة، أما رأسه الكبير فينتهي بجبين ضيق يفترق عند قمته شعر أسود كثيف يشبه في لونه وتسريحته شعر السيد، تلوح في عينيه نظرة طيبة وخمول، لعلها أثر للراحة والفراغ والرضا، انحنى على يد الأم ليقبلها، فجذبتها بسرعة في خجل وارتباك، وهي تتمتم شاكرة ثم سلم على خديجة وكمال وجلس وكأنه - على حد تعبير كمال فيما بعد - واحد منهم. وانتهز الغلام فرصة تشاغل العريس بتحديثهم، وتفرس في وجهه طويلا، ذاك الوجه الغريب أصلا الذي برز في محيط حياتهم ليحتل مكانا مرموقا يؤهله لأن يكون أقرب الأقرباء، أو بالأحرى أن يكون قرينا لوجه عائشة، كلما خطر هذا على باله جر وراءه ذاك كما يجر الأبيض الأسود. تفرس فيه طويلا وهو يردد في نفسه قوله الممتلئ ثقة: «لن تعود إليكم يا سي كمال.» فوجد نحوه إنكارا ونفورا وحقدا، وكادت تتمكن من قلبه لولا أن قام الرجل فجأة ومضى إلى الخارج، ثم عاد حاملا صينية فضية ملئت حلوى من مختلف الألوان، فقدم له باسما - وإن كشف افترار ثغره عن سنتين ركبت إحداهما الأخرى - نخبة من أشهى الأصناف، وجاءت حرم المرحوم شوكت معتمدة على ذراع رجل استدلوا بمشابهته بخليل على أنه أخوه الأكبر، ثم وكد استدلالهم تقديم الأرملة بقولها: «إبراهيم ابني ... ألم تعرفوه بعد؟!» وعندما لاحظت ارتباك أمينة وخديجة حال التسليم، قالت باسمة: «نحن كالأسرة الواحدة من قديم الزمان، ولكن بعضنا يرى البعض الآخر الساعة لأول مرة ... لا بأس!» فطنت أمينة إلى أن المرأة تشجعها وتهون عليها الأمر فابتسمت، ولكن ساورها شيء من القلق، وتساءلت: ترى هل يوافق السيد على مقابلتهما لهذا الرجل - وإن عد عضوا جديدا في الأسرة كخليل سواء بسواء - بغير نقاب؟ ... وهل تكاشفه بالمقابلة أو تتحاشى ذكرها إيثارا للسلامة؟
كان إبراهيم وخليل أشبه بالتوءمين لولا فارق السن، على أن اختلافهما بدا أقل من القليل بالقياس إلى اختلاف عمريهما، والحق أنه لولا قصر شعر إبراهيم ولولا شاربه المفتول، لما كان ثمة ما يميزه عن خليل، كأنه لم يبلغ الأربعين، أو كأن شبابه ومظهره لا يتأثران بكرور الأعوام؛ لذلك ذكرت أمينة ما حدثها به السيد مرة عن المرحوم شوكت من أنه «كان يبدو أقل من عمره الحقيقي بعشرين عاما أو يزيد.» أو قوله عنه: «إنه رغم طيبته ونبله كان كالحيوان لا يسمح لفكره أبدا بأن ينغص عليه صفوه!» أليس عجيبا أن يبدو إبراهيم في الثلاثين مع أنه تزوج في صدر شبابه وأنجب طفلين، ثم ماتت زوجه وطفلاه؟! ولكنه مرق من تجربته القاسية سالما لم يمس، ثم عاود الحياة مع أمه في خمول ودعة وفراغ، شأن آل شوكت جميعا، راق خديجة أن تسترق النظر، كلما أمنت أعين الرقباء إلى الشقيقين، إلى أوجه الشبه العجيبة بينهما، بيضاوية الوجه وامتلائه، جحوظ العينين الواسعتين، البدانة، الخمول، فحرك كل أولئك السخرية الكامنة في نفسها حتى ضحكت أفكارها، ومضت تدخر في ذاكرتها من الصور ما تعود إليه إذا ضمها مجلس القهوة، ومالت جريا على سنتها في التهكم إلى العبث والإضحاك، وإلى هذا فكرت باهتمام في اختيار اسم وصفي عياب لهما على مثال الأسماء الوصفية التي تطلقها على ضحاياها من الناس، أو بالأحرى أسوة بأمهما التي تطلق عليها «المدفع الرشاش» لتناثر ريقها عند الحديث. واسترقت مرة نظرة إلى إبراهيم فما راعها إلا أن تلتقي عيناها بعينيه الواسعتين، وهما تتفرسان في وجهها باهتمام من تحت حاجبيه الكثيفين، فغضت بصرها في حياء وارتباك، وتساءلت في خوف المريب عما عسى أن يظنه بنظرتها، ثم وجدت نفسها تفكر بقلق في منظرها، وما يمكن أن يتركه في نفسه من أثر. ترى أيسخر من أنفها كما سخرت من بدانته وخموله؟! ... واستغرقها التأمل والقلق.
سئم كمال الجلسة التي وإن تكن جمعته بعائشة، إلا أنها جمعته بها على نحو ما تجمع بين الضيوف، فلم تحقق - عدا ما منحت من حلوى - شيئا من رغابه، فانتقل إلى جوار العروس، وأبدى لها إشارة فهمت منها أنه يريد أن يخلو بها فقامت وأخذته من يده، وغادرا الحجرة، ظنته قانعا بمجالستها في الصالة، ولكنه جذبها من يدها إلى حجرة النوم، ورد الباب وراءهما حتى ارتج. انطلقت أساريره ولمعت عيناه، وتطلع إليها طويلا، ثم تصفح الحجرة ركنا ركنا وهو يتشمم رائحة الأثاث الجديد مازجها أريج زكي لعله بقية مما انتشر من أيدي المتطيبين وصدورهم، ثم رنا إلى الفراش الوثير، إلى النمرقتين الورديتين المتجاورتين على الغطاء فوق الوسائد، وسألها: «ما هما؟» فأجابته: «وسادتان صغيرتان.» فسألها: «أتتوسدينهما؟» قالت باسمة: «كلاهما للزينة فقط.» فأشار إلى الفراش متسائلا: «أين تنامين؟» فأجابت باسمة أيضا: «في الداخل.» فسألها كأنه متوكد من أنه ينام معها: «وسي خليل؟» فأجابت وهي تقرص خده برقة: «في الخارج ...» عند ذاك التفت صوب «الشيزلنج» بغرابة، وسار إليه وجلس، ودعاها إلى الجلوس جنبه فجلست، وما لبث أن غاب في الذكريات غاضا بصره ليخفي نظرة مريبة وصمها بالريبة اشتداد أمه بالحملة عليه مساء ليلة الزفاف، وهو يسر إليها بما رأى من ثقب الباب، راودته نفسه على أن يبوح لها بسره، أن يسألها عنه، تحت ضغط إغراء لا يخلو من قسوة، ولكن الخجل الناجم عن الشعور بالريبة عقله، فشكم رغبته على رغمه، ثم رفع إليها عينين صافيتين وابتسم إليها، فابتسمت إليه ومالت نحوه فقبلته، ثم نهضت قائلة وملء وجهها ابتسامة حلوة: لأملأن جيوبك بالشوكولاتة.
Página desconocida