وإذ كانت قد طالت زيارتي لها هممت بالذهاب، فسألتني أن أبقى أيضا وقالت بصوت ألطف وألذ ما يكون للأسماع: لا، لا تخف أن تكون زيارتك مجلبة لإقلاقي، إذ لو كان ذلك لكنت أول من يفتح لك الباب ويرجوك الذهاب، وبما أن ريتا الآن نائمة فقد أمرت الخدام أن يعلموني إذا استيقظت، ومن هنا إلى هناك نستطيع أن نتحادث مليا ... وقد مضى على قدومي إلى باريس خمسة عشر يوما، لم تمكني الظروف في خلالها أن أجتمع بك على حدة؛ لأظهر لك ما ألهمتنيه أخلاقك المرضية من حبك واحترامك، ولا أعلم ما يكن لنا المستقبل، وما تضمر لنا الليالي ولعل هناك خيرا ... وأطلب إليك أن توالي زياراتك إلينا، وتجعل الحب متبادلا، وأنت تعلم أن البارون وإن كان مسنا فله عوائد الشبان وأخلاقهم، فبينما يكون في المنتزهات والنوادي، نكون نحن في البيت نقلب الطرف في السقف والحيطان، فلو كان عندنا في مثل هذه الأوقات شاب أديب نظيرك، لحدثناه مليا وقرأنا معه كتبا وأقاصيص شتى. - إني أقبل طلبك شاكرا، وأعدك بموالاة الزيارات، قلت هذا ثم ودعتها وذهبت ... وقد أدركت من مجمل أقوال جونريت وحديثها أن لها مقاصد هناك تخفيها، وقلت في نفسي: يظهر أن البارون حدثها بمسألة زواج بيني وبين بنتها، فالآن أفهم معنى تلك النظرات التي كانت تصرفها إلي، والآن أدرك الفرق بين معناها والمعنى الذي نسبته لها، والآن برح الخفاء، وتبدى الضياء، والآن أفهم سر استقصائها عني واستطلاعها أحوالي.
الفصل الحادي عشر
لم تقض ريتا زمنا طويلا في النقاهة؛ بفضل قوة الحياة التي كانت فيها، ونشاط طبيعتها الذي يلوح أن دور الأمومة ضاعفه وزاده قوة، حتى إني أول مرة رأيتها بعد بللها انفعلت من الانقلاب الذي طرأ عليها، فإن وجهها الطلق قديما مما أحالتها الولادة اغتدى وهو أكثر مهابة ووقارا، ونور عينيها المتقد سابقا أصبح وهو أقل اتقادا، وأضحت بطيئة الحركة متسعة الصدر. نعم، إن الأمومة لم تقل جمالها الباهر، لكنها نسخت مجموعه وأولته شكلا آخر.
فبادلناها عبارات التهاني المألوفة عند حصول مثل هذا الحادث السعيد، وحينما كنت أراها مع أختها وابنة أختها لويزا، كنت أقدم لها من التهاني المستعملة في الحديث العادي شيئا كثيرا، على أني كنت أرى في ابتسامتها بلاغة لا أغتر بها، وحين كانت تضغط على يدي ذاك الضغط العصبي المتقطع، كنت كأني أسمعها تنشدني أنشودة الغرام.
فأخذت على المائدة مكانها الأول، وبينما كنا نتناول الطعام كانت تحدثنا حديثا مفعما بالمزاح، يشف عن سرور يبلغ المنتهى، فهل هذه ريتا التي أعرفها ...؟ وأين تلك الكآبة وذاك الشجن؟ وأين ذاك البلبال وذلك الدلال ...؟ كل ذلك ارتحل ليخلي المحل لهدوء تام وسرور متناه، واعتدال بالغ التمام، وقد كفى لإحداث هذه العجائب الكثيرة ولد واحد.
فسألها البارون: كيف عافية الطفل اليوم؟ - على أحسن ما تشتهي له، وقد أرضعته منذ هنيهة ونام. - مثل سكران بيده زجاجة؟
فقطعته جونريت قائلة: دعنا من هذا المزاح.
فقالت ريتا: يا ما أميلحه طفلا لا يسبب لي كدرا! هو كنز بل جوهرة.
ولما أن أتمت فصل وصف ابنها سكتت؛ لأن الولد لم يكن يبلغ شهرا من عمره، وكان يستحيل عليها أن تصف أكثر من محاسنه الطبيعية؛ لأن الباقي كان مجهولا.
ثم قالت: إن لعينيه السوداوين حلاوة المغازلة، وكلما نظر إلي مدهوشا أو ممازحا، أشعر بجزع يتولاني كأنما مهجتي تذوب، وإن لشعره نعومة الحرير ولون الذهب، وكلما أمسكته أشعر برعدة، وإن لأظفاره الوردية شكل تلك الأصداف التي تقذفها الأمواج إلى الكثيب، وإن جسده الصغير الذي أغسله بالعطر عشر مرات كل يوم، يحرك في فكري ذكرى بنبينو، الذي كان أبي يريني صورته في كنيسة ميلان، ثم إنها قطعت هذا الحديث بغتة، وقالت: رأيت فيه خللا في التكوين، فإن بنصر رجله اليسرى مفقود، وقد رآه الطبيب فقال: لا بأس عليه من ذلك فهو لا يؤثر على معيشته.
Página desconocida