إهداء الرواية
الجزء الأول
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
Página desconocida
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الجزء الثاني
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
Página desconocida
الفصل السادس
الفصل السابع
إهداء الرواية
الجزء الأول
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
Página desconocida
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الجزء الثاني
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
Página desconocida
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
بين نارين
بين نارين
تعريب
جرجي مطران
إهداء الرواية
إلى حضرة العالم المفضال الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد الأغر
Página desconocida
هذه يا سيدي باكورة أعمالي أرفعها إليكم إيذانا بخدمتكم الجليلة للوطن، وإقرارا بما لكم من عظيم الفضل، وألتمس أن تتكرموا بقبولها هدية ود واحترام من المخلص.
جرجي مطران
الجزء الأول
الفصل الأول
قيل: إن متوشالح
1 - عليه السلام - عمر ما ينيف على 969 سنة، ولو قضي لي أن أعيش مثل هذا العمر الطويل، لما نسيت في آخره سنة 1878؛ إذ إن من الحوادث ما لا ينسى، وقد كانت هذه السنة مبدأ ما جاءني به مستقبل الأيام من السعادة والشقاء.
دخلت نحو الساعة العاشرة إلى مكتب فركنباك الصيرفي الشهير بباريس، وكنت أحمل إليه كتاب وصاة من عمي، فصدني عن الدخول حاجب ذو غلظة، تلوح على وجهه دلائل الخبث، يلبس صدرة موشاة بالطراز المذهب، ورداء عاتما إلى الخضرة مذهبا أيضا، وقال لي: ما تريد؟ فقلت: أريد مقابلة البارون فركنباك، فهل هو هنا؟ فقال: الأفضل أن تعود إليه مرة أخرى.
وظهر لي من خشونة الحاجب أن البارون كان قد أمره بأن لا يأذن للناس بالدخول عليه.
فقلت له: إني قادم من افريه ومعي كتاب إلى البارون من أحد أصدقائه، لا بد لي من تسليمه له قبل مساء اليوم، ففي أي وقت أتمكن من مقابلته؟
فلما سمع هذا الكلام تبسم بعد التقطيب وأجابني بما في وسعه من الرقة والتلطف: تفضل يا سيدي، وأعطني بطاقة باسمك والكتاب الذي تحمله، وسآتيك بعد هنيهة بالجواب، فدفعتهما إليه.
Página desconocida
فمضى وما عتم أن عاد وسألني أن أنتظر البارون ريثما يفرغ من بعض شأنه فيحضر، ثم قال: اجلس يا سيدي، وإن شئت فاقرأ هذه الجريدة، وكان قد تحول من الخشونة إلى النهاية في التأدب واللين.
فشكرته وأخذت الجريدة أقلب نظري فيها ولا أعي شيئا من معانيها، وكنت أفكر في أمس الدابر، وما جرى لي فيه من الأمور، وكيف فارقت الأهل والأحباب امتثالا لأمر عمي؟ وكيف كانت ساعة وداعهم المؤلمة؟ وكيف مرت تلك الساعة مرور لحظة؟ ثم ترحلت عن البلاد كاسف البال، شجي الفؤاد، فاغرورقت مقلتاي بالدموع، وتعذر علي إقرار نظري على الصحيفة التي أصبحت لا أرى إلا بياضها، وقد خيل لي أن كل هذه الأمور جرت منذ عهد بعيد لا في أمس؛ لما في نفسي من الوحشة.
ولا أزال أذكر عمي إذ دخل علي بكرة ووضع يده على كتفي وأيقظني، وكان وجهه متوردا، عليه سمة الانشغال والاضطراب، وكان منديله مجموعا في قبضة يده علامة أنه يكظم أمرا في نفسه، فجلس على كرسي هناك، ثم سألني: في أي يوم من الشهر نحن؟ فأجبته وقد أدهشني هذا السؤال: إذا صدق الرزنامج وكانت عيناي غير حسيرتين، فاليوم الثامن من شهر أكتوبر، ولكن علام باكرت إلي يا عمي العزيز تستفهم عن شيء لا تعز معرفته على أجير لو سألته؟
فعبس بي وتغيرت شارات وجهه ويديه ثم قال: اعلم يا مكسيم أنك صرت منذ صبيحة اليوم رجلا راشدا مطلق الحرية والإرادة، ولك أن تتصرف بأموالك كيف تشاء، وأن ترتكب كل المنكرات بلا اعتراض؛ ولذلك أحب أن تطلعني على ما تنويه. فلم أجب، ولكن عجبت أن يكون بلوغي الرشد مما يقتضي تغيير نظام معيشتي، فألح علي فأجبته بعبس، فقال: إن هذا يدلني على قلة اهتمامك بمستقبلك، فاعلم يا ولدي أني قيم عليك، وأن عهدتك أثقلت عاتقي، وقد آن لي أن أتخلص منها، وكانت قيامتي هذه عليك تضطرني إلى مراقبتك واستغلال مالك، أما الآن وقد شببت بعون الله تعالى فأنا أعرض عليك حسابات ما تملك، وهذه سفاتج، وسندات، وحجج، ودفاتر تتضمن دخلك وخرجك، فعليك أن تجمع وتطرح وتضرب وتقسم، ثم تعطيني بعد ذلك ورقة بتبرئة ذمتي ورفع أمرك عني.
فوعدته بذلك محاسنة، ثم تركته وذهبت إلى المغسل لا يخطر على بالي شيء سوى أن عمي يريد أن يجعل في يدي زمام الشيء القليل الذي أمتلكه، ولما لبست ثيابي نظر إلي من فوق بلورتيه، وقال سألتك فلم تجب، فأعيد عليك أنني في شغل من أمر مستقبلك، وإنما أتيت إليك لأرد لك مالك ولأعلم ما تنويه؛ لأني عاهدت نفسي أمام الله وأمام أبيك يوم كنت طفلا أن أرعاك بعنايتي، وأمهد أمامك العقبات، فما الذي تنويه؟ فسألته عن الموجب لهذا السؤال؟ وقلت: ما عساني أن أفضل على حالتي هذه وأراني محفوفا بعنايتك، وعناية أمي، وإن كان لا بد لي أن أسير سيرة أخرى، فأمهلني ريثما أفكر فيها قليلا، فحدق بي ثم قال: لا إخالك تشك في أني عاملتك إلى الآن معاملة ابن لي، فيجدر بك أن تصغي إلى ما أقدمه لك من النصح «فاعلم أن دخلك زهيد لا يبلغ ستة آلاف فرنك نصفها لأمك، فأنت لا تستطيع به تجارة ولا مزاولة أي عمل كان، ولا أظنك تلقيه في معرض الخسران؛ لأن العاقبة لا تحمد، فلم يبق لك إذن للكسب غير باب واحد، وهو أن ترحل عن افريه، فإن لم تفعل فاعلم أن حياتك تنقضي محصورة في هذه البقعة، لا ترى غيرها، ولا يمضي عليك القليل من الزمن حتى تستكين إلى الكسل واللهو، فتصرف أيام شبابك بين الصيد، والرسم، والحقيقة، والوهم، ثم تأتيك أمهات ذوات دهاء، فيصفن لك جمال بناتهن إلى أن تؤخذ على غرة فتتزوج وهناك الحياة المرة، فتلد لك امرأة أولادا كثيرين ...»
فضحكت لكلامه ضحكا عاليا وقطعت عليه الكلام، وقلت: إني عاقد النية على مغادرة افريه؛ للسعي إلى عمل ما في بلدة غير هذه، ولكن إلى أين أذهب؟ وماذا أفعل؟ فقال : لا تهتم بهذا يا بني، فلا صعوبة في وجود عمل لك، والصعوبة بانتقاء البلدة التي يجب أن تقصدها، وعندي أن ليس للشباب الذين يطمعون في المراتب الرفيعة إلا مدينة واحدة فيها خطر عظيم على الضعفاء، وفوز لذوي العزائم والجد وهي باريس، فقلت: ومن يكون مرشدي في تلك المدينة العظيمة التي أخاف أن أضل فيها بلا معين ولا مرشد؟ فضمني إلى صدره وقال: إن في كلامك يا بني حكمة ودليلا على توقد قلبك واهتمامك بالمستقبل فبورك فيك، ولكن خفض عليك فقد تولت أمرك في ذلك الأقدار، فإني بينما كنت في الصيف الماضي في مدينة مون دور التي أذهب إليها كل سنة؛ للاستشفاء من الداء العصبي الذي أنا مصاب به التقيت بصاحب لي، كان معي في المدرسة منذ أكثر من خمسين عاما فتحدثنا طويلا، وكنا في كل يوم نتنادم بذكرى أيام الصبا، وبقينا كذلك زهاء شهر حتى غدونا يشق على الواحد منا أن يفارقه الآخر، ولما انتهى فصل الصيف هممت بالعودة إلى هنا، فاستاء واغرورقت عيناه حزنا، ثم قبلني وسألني أن أكاتبه بلا انقطاع، وقال: إنه مستعد ليخدمني بما في وسعه فكتبت إليه منذ أيام أسأله عما إذا كان يوجد لك عنده عمل تعمله؟ فأجابني على كتابي بكتاب ودي ارتاح إليه قلبي، ثم إن عمي تبسم وقال لي: «اعلم أن لذلك الرجل امرأة جميلة ...» فقطعت عليه الحديث وقلت: «وما اسم ذاك الرجل وما هي حرفته؟» فضحك لقلة صبري وقال: «اسمه جيستاف فركنباك وهو صيرفي من كبار صيارفة باريس، وذوي الكلمة النافذة فيها، فهل ترضى بالاستخدام عنده؟» فشكرته وقلت له: ومتى موعد سفري فأستعد له؟ فقال: اليوم، وإن شئت غدا، لكن يجب ألا تتردد في أمر أقدمت عليه؛ لأن في التردد ما لا تحمد عقباه أحيانا، فأذعنت له بعد جدال ووعدته أني أسافر في أول قطار.
ولما كان المساء جلست على المائدة وعمي إلى جانبي، وجلست أمي تجاهي وهنأتني ودعت لي بالنجاح، ولو لم تخنها بقية دمع سالت من محاجرها لما علمت بشيء مما في نفسها من الألم، وكانت تتكلف التجمل ما أمكن، وتشغل نفسها عن البكاء بإعداد معدات السفر، وكانت أيضا تكتم خوفها علي من الأخطار التي كنت معرضا لها، وتظهر لي الفرح التام، وتكذب ما كنت أسمعه من زفرات صدرها، وما كنت أراه على وجهها من دلائل الكآبة، وبينما كانت تطوي ملابسي وتنضدها في صندوق السفر، ذهبت فودعت أصدقائي ومعارفي، وكنت أشعر أن هذا الوداع يمنعني من العود إلى افريه فيما إذا لم أفلح في باريس؛ مخافة سوء الأحدوثة، ولما كان المساء جاء عمي ودعاني إلى الرحيل فبكت أمي وبكيت معها كثيرا، ثم ركبت عربة عمي وكان قلبه يخفق بشدة من ألم الفراق، وإذ وصلنا إلى المحطة أخذنا نتمشى في انتظار مجيء القطار، فقال لي عمي: وعدتك يا بني بأن لا أوقر سمعك بما يقوله الآباء عادة لأبنائهم قبل السفر ولا أخلف، والشاب في غنية عن كل المشورات والنصائح؛ لأن الدهر يعلمه ما لا يعلمه أبوه، فالاختبار هو المدرسة الكبرى التي يتلقى فيها بنفسه علم معرفة الائتلاف وكيفية المعيشة، وأنت جدير بأن تقرأ في ساعات الفراغ رواية هاملت لشكسبير، فأنعم الفكر فيما ينصح به بولونييس لابنه ليرت قبل ابتعاده عنه، ثم إن عندي أمرا آخر ذا بال أشرحه لك موجزا، وهو أن للنساء شأنا مهما بين الناس في هذه الأيام، ولهن المقام والتجلة، وهن محركات نظام الكون الآن، وسبب علله وأدوائه، فأحذرك من المرأة الأولى التي ستراها في باريس. ومن الناس من يقولون: إن المرأة على الغالب هي الواسطة الفعالة لنيل المآرب، وأنا أقول لك: إن كلامهم حبالة ينصبونها للجهلة، بل هو قيد يقيدون به أرجلهم، بل هو ذريعة للانصراف إلى الملاهي عن الشغل، وأقل أخطار العشق تلازم المعشوقين، بحيث لو فصلا آلا إلى الشقاء أو إلى الفناء، وأنت يا ولدي مع تحليك بكثير من الصفات الحميدة، فإن لك خلة وهي أن قلبك ضعيف لدى النساء، ثم عاد إلى الكلام عن مدام فركنباك فقال: إنها ذات عينين نجلاوين، يضل معهما الناسك عن قصده وسوف تلتقي بهذه السيدة فلا تخرج في حديثك معها عن جادة ما يجيز الأدب؛ لأنها بديعة وفي جمالها خطر على الشبان، وأظنها ذات ذكاء، ولكن معرفتي قليلة بقدر عقلها.
وما قدم القطار حتى دخلته وانتقيت فيه موضعا لي، ثم عدت إلى عمي فانتهرني وقال: لم ذهبت قبل أن تستأذن مني؟ ألا تزال نزقا فخذ هذا كتاب وصاة بك لفركنباك، فقبلته تقبيل الشكر والوداع، وإذ ذاك قرع الجرس وآذن القطار بالرحيل، فركبته وسار بي مبتعدا عن افريه.
كل تلك الذكرى مثلها خاطري لناظري في ساعة انتظاري لفركنباك، وكان فؤادي يضطرب آسفا على ما مضى وخوفا مما سألاقي.
ولما طال علي الانتظار نظرت في الجريدة التي كانت بيدي، فإذا فيها أسماء الذين جاءوا باريس بالأمس من الأغنياء وذوي المناصب، ثم وقع نظري على اسم البارونة ريتا مدام فركنباك فقلت: «إن التي يخشى منها على الشبان تدعى ريتا.» ولكن يخيل لي أني كنت أشهد التمثيل ذات يوم، ورأيت ممثلة سلبت عقلي كانت تدعى ريتا، فهل هي التي أصبحت الآن البارونة فركنباك؟ وبعد هنيهة قرع الجرس الكهربائي فأتاني الخادم مسرعا، وأخبرني بكل احتشام أن البارون يستقبلني فمضيت إلى غرفته وكانت مفروشة بالطنافس الأزميرية النفيسة، وفيها كانون موقد، وما لبثت بعض دقائق حتى جاء البارون ومد لي يده فسلمت عليه.
Página desconocida
فقال: أعتذر إليك يا عزيزي جوشران، فإن كثرة أعمالي منعتني عن مقابلتك عاجلا فلنتحدث الآن في الشأن الذي جئت له، وليكن كلامنا بصريح ما في الضمير.
فشكرته وجلست على كرسي عينه لي بالقرب من الكانون، فقال لي: قد عرفت سبب زيارتك لي مما قرأته في كتاب صديقي فرنسوا.
وساعتئذ فتح باب معارض للباب الذي دخلت منه، وخرج منه شاب أشقر اللون مرتد حلة سوداء وفي يده ورقة زرقاء، فقال له فركنباك: ماذا تريد يا وليم؟ ألم أنه عن مكالمتي في هذه الساعة؟ فخفض الشاب رأسه وحنى ظهره أمام البارون وقال محتشما: عفوا يا سيدي، فهذا تلغراف ورد لنا الآن من لندره، ويطلب مرسله الجواب حالا.
فقرأ فركنباك التلغراف مرارا وقدر كل كلمة قدرها، واستنتج من قليل الكلام معنى كبيرا، ثم نهض لكتابة الجواب مستأذنا مني.
وبينما كان يكتب جعلت أترقبه بمؤخر طرفي، فرأيت أن وجهه الضحوك البشوش قطب لصعوبة حل المسألة التي كانت بين يديه، وكان الرجل ربعة ذا سمن، أحمر الخدين، قوي البنية، صحيح الجسم، يناهز الستين، وفي جملته ما يدل على جودة قلبه، ودماثة الأخلاق، وحرية الضمير، وصدق الود، وما يدل أيضا على أنه أسرف في التمتع بملاذ الدنيا، وإنما بقي كذلك معافى لقوة بنيته، وتوهمت أننا إذا توثقت الرابطة بيننا، فلا يطول علينا الزمن حتى تستحكم منا المودة، ولما فرغ من كتابة جوابه قال: خذ يا وليم جواب التلغراف، ولا يقابلني أحد بعد الآن.
ثم قام من محله وجلس على كرسي إلى جانبي، وقال لي وهو يفرك يديه: هل أطلعك عمك على الكتاب الذي أرسلته له من بضعة أيام أخاطبه فيه بشأنك؟ فقلت: لا يا سيدي، وإنما أمرني أن أتقدم إليك بالنيابة عنه، وأكلمك بصراحة كما يكلم الصديق الصديق. - وأنت عالم أنك آت لتكون في خدمتي. - نعم يا سيدي، وإني أرغب في ذلك وأعده شرفا لي. - ليس في الأمر مانع ولا صعوبة، ولكن اعذرني إذا قلت لك لست محتاجا إليك، بل إن حبي لعمك ولك يحملني على إجابة طلبكما، فأنعم الفكر وانظر بعين الروية فيما إذا كان عندك ميل إلى الشغل؛ لأن ذلك أمر مهم، وإلا فلا يجمل بمثلك أن يضيع زمن الشباب عبثا؛ حتى إذا ضعف يوما وشاخ قتلته الندامة على ما فقد من الوقت الثمين. - لقد فكرت في ذلك زمنا ولست أعلم إذا كنت أفلح في شئون التجارة، ولكن عندي رغبة في تعلمها وجلدا عظيما على تحمل المتاعب التي تتأتى لي منها. - نعم الجواب! فقد حسن ظني بك، وأنا عازم على أن أتولى تدريبك بيدي، فاعلم أن أشغال البنك سهلة جدا وعلى المستخدم أن يألفها ويتقن دراستها.
ثم سألني متحببا أليس كذا؟
فانقشعت ظلم الفكر والأوهام من مخيلتي ، وارتحت للطف ذاك الرجل، وتوهمت أن عمي يخاطبني، ثم سألني هل تعرف لغة غير لغتك؟ - نعم، أعرف اللغتين الإنكليزية والألمانية. - حسن، سأعهد إليك المكاتبات الخارجية، فإنها أسهل عليك من الحسابات، وسأجعل راتبك مائة وخمسين فرنكا، وهو ما أعطيه لكل من يدخل حديثا في خدمتي.
وإذ كنت لا أؤمل أن أعطى راتبا مدة تعلمي عددت ذلك كرما منه فشكرته كثيرا، فتظاهر بالغضب، وقال: لا ينبغي أن تشكر لي فعلي إذ إني أدفع الدرهم، ولكني أطلب أن أخدم به، والدرهم يحمل على العمل والمثابرة، ولا منة في الشغل، فإما أن أنتفع من عملك فآجرك عليه، وإما أن لا أنتفع منه فأفتح لك باب بيتي وأقفل عليك باب مكتبي. فشكرته ثانية ولم أطل مخافة أن يستأنف الكرة علي، وبعد هنيهة قال لي: شغلتنا مسألتك عن السؤال عن صديقي العزيز عمك فكيف هو؟ - إنه مريض وكان في وده أن يرافقني ليزورك. - يسوءني ذلك، وحبذا لو استطاع أن يأتي فنسر بتذكر الماضي، وإن في هذه الذكرى ما يلذ الشيوخ.
فأعدت عليه كل ما قاله لي عمي بالأمس عما لقيه عنده من حسن الوفادة فقال: لقد غادر باريس رغما عني، ولولا ذلك لاستبقيته شهرا أو أكثر، وقد أحبته قرينتي لحسن خلقه ولطف حديثه، وإني أدعوك لتناول العشاء معنا في هذا المساء؛ لأن البارونة تود أن ترى ابن أخي صديقها ... وموعدنا الساعة السابعة، وبعد هذا الكلام وقفنا واستأذنته في الذهاب، فشيعني إلى باب غرفته وقال: إياك أن تنسى موعدنا في الساعة السابعة.
Página desconocida
وبعد هذه الزيارة تبددت عني شواغلي، وانزاح عني ما كان قد تولاني من الخوف، وطابت لي الحياة بعد الوجل، وهذا النجاح الذي صادفني لأول مرة قوى آمالي بإدراك مستقبل حسن، وثراء قريب فهنأت نفسي ووطنتها على إدمان السعي وراء الضالة التي أنشدها، وبينما كنت أهيم في عالم الأوهام كانت رجلاي تسرعان بالمشي، كما لو كنت على موعد حبيب أخاف أن يفوتني مع أني كنت أسير إلى حيث لا أدري، ولما كانت الأفراح الشديدة إذا توالت على الإنسان يضيق بها قلبه فينكسر كالكأس، وكانت - كما يقول العلماء - تتمدد وتطلب الهرب من القلوب خفت أن ينالني كرب على أثرها، فأستوحش في غربتي حيث لا قريب يعزيني ولا خل أشكو إليه، فثبت إلى نفسي من الخيالات التي كنت فيها، وعزمت على أن أكتب إلى عمي وأطلعه على ما كان من أمري مع صديقه، فدخلت إلى مطعم على الطريق.
وبعد أن أخذ الخادم مني قبعتي ودثاري، قال لي: ماذا تريد أن تأكل يا سيدي؟ فأجبته عابسا: ورق كتابة، وقلما، ودواة، فابتسم الخادم وقال: سأحضر لك ذلك، ولكن إذا شئت أن تأكل شيئا فعندنا بيض مقلي، ولحم مشوي ومسلوق، وألوان كثيرة غير هذه، فقلت: هات ما تشاء وبادر بإحضار الورق والقلم.
ثم جعلت أكتب بسرعة غريبة ما تمليه علي خواطري الكثيرة، والله أعلم بما حشوت به الكتاب من الغرائب، وأظن أني بنيت فيه قصورا باذخة من الأمل في عالم الخيال، ولشدة اشتغالي بالكتابة لم أتنبه للطعام الذي وضعه الخادم أمامي، وكانت تنبعث منه الرائحة الذكية.
على أن تحمسي بالكتابة أحدث بي ما يحدث للذين يبالغون بأعمال رويتهم، وذلك أن قريحتي لم تلبث أن جمدت بعد أن سالت نهرا متدفقا، ووقفت يدي وحرن القلم فختمت الكتاب.
وإذ كان قد بلغ الجوع مني وخلت معدتي، شعرت بشهوة للأكل لم أشعر بأكثر منها قبل ذلك.
وبعد الغداء ذهبت إلى غاب بولونيا أتبع حافات السواقي، وأتلذذ بخرير مائها الجاري، فجلست إلى أصل شجرة أتأمل ذاك اليوم الرقيق الحواشي المعنبر النسمات، الذي لبست فيه الطبيعة أبدع ملابسها وتجلت بأحسن حليها، فالأرض موشاة بأوراق الشجر المتساقطة، والرياض مخضوبة بدماء الشفق، وكانت الشمس تسير التؤدة إلى منامها، ترسل أشعتها على مياه البرك الوسنى، وكانت العجلات متتابعة كأنها خيوط سود في بياض تموج تحت البصر، ورأيت فيها قوما هم أسعد خلق الله، ورأيت فرسانا على خيول مطهمة، ونساء يفتن النواظر بالمحاسن والأزياء، وجماعات مئين وألوفا يتمشون فرقا يحدث بعضهم بعضا بأطراف الأحاديث، فهناك تحار الفكر وينبهر البصر.
ثم قلت: لم لا أكون مثلهم؟ ولم لا يكون عندي مثل عرباتهم وخيلهم؟ بل ماذا يجب أن أصنع لأنال منالهم إذا كان لي ذكاؤهم، وكانت لي مقدرتهم؟
وكانت أنامل الأمل الودية تحجب عني مشاق المستقبل وتريني باريس والعيشة فيها جنة ونعيما، وانقلبت أميالي كل الانقلاب، فصرت لا أفكر بغير المال، ونشطت بهمة سامية لإدراك مأملي، وتأهبت للمستقبل كما يتأهب الفارس للحرب.
والآن كلما أذكر تلك العهود ألوم نفسي، ولا أتمالك من الضحك على حين أني أود لو تعود تلك الأوقات؛ لأنها أوقات الشباب.
أما قصر فركنباك فهو شامخ الارتفاع متقن البنيان، بناه في غابر الزمان رجل بارع لامرأة من عائلته كان يهواها، وطالما صحب الأشراف وصبر على محاربة السياسة والثورات، وكان كلما ازداد عمره يزداد رونقه وبنيانه، فقد أضيفت إلى جوانبه غرف جميلة على الطرز العصري، اعتنى بها رجل حسن الذوق بارع بالهندسة، وفي سقوف القصر تماثيل ونقوش متنوعة، كلها مغشاة بالذهب، وعلى جدرانها في الجهة الداخلية رسوم ناتئة، ورسوم محفورة، وزخارف غريبة الشكل، كلما خرب الدهر شيئا منها اعتاض فركنباك عنه بآخر، والسقوف معقودة كلها وسطوحها من الآجر، وعلى الجدران إلى الجهة الخارجية صور رجال تصطاد وتحصد، وصور أخرى متنوعة تدل على عادات الأعصر التي بنيت فيها، وفي القصر آنية أكثرها من الذهب والفضة، وتحف لا تزال على جدتها على طول مدتها، وحول القصر حدائق معلقة مكسوة بالخضرة والأشجار ذات الأرج والثمر تحيط به من أربع أطرافه، والقصر ثلاث طبقات.
Página desconocida
ولما كانت الساعة السابعة جئت القصر، فوقفت على الباب قليلا ريثما يزول خفقان قلبي، ولما قرعت جرس الباب شعرت كأن صوته دوى في رأسي، وكنت أقول في نفسي: إن وراء هذه الجدران لأمرا عظيما لي، وستمثل رواية حياتي، وسأكون منذ هذا المساء موضوع البحث والكلام، ففتح الخادم الباب ودخلت وراءه في مكان مستطيل مبلط بالفسيفساء، وإلى جانبه حيطان البستان يترامى من فوقها الزهر من الأغصان، ولما صرت على مقربة من الباب الداخلي رأيت البارون مقبلا إلي فقال: إن مشيتك كمشية الجندي، ووقفتك كوقفة الممثل، وهذه صفات تحببك إلينا فتعال أقدمك للبارونة.
وكانت البارونة جالسة في غرفتها على مقعد من الحرير الناعم، إحدى يديها مسندة إلى المقعد، والأخرى تلعب بشعرها المنسدل، فقال لها البارون: أقدم لك المسيو مكسيم جوشران ابن أخي عزيزنا فرنسوا جوشران، فقد أتى اليوم من افريه وهو يبلغك سلام عمه، فقالت لي: أهلا ومرحبا، إن عمك ترك عندنا ذكرا حسنا، ويسرني أنك تذكرنا به، فتلعثم لساني عن الكلام ولم أجبها بشيء، وذكرت عندئذ ما قاله لي عمي من أن هذه المرأة جميلة وجمالها خطر، وكأني كنت أرى على جبينها تلك العبارة.
وكانت ريتا جميلة يبرز من كمي مطرفها الأسود زندان، كأنهما من العاج غاية في حسن التكوين، ولم يكن جمالها جمال طفلة لم يتم تكوينها، ولا جمال صورة تقبل التنميق، ولا جمال وردة لم تتفتق أزرارها، بل هو الجمال التام الذي لا جمال فوقه.
أما مقاطع وجهها فنادرة المثل، ومجموعها حسن أيضا بخلاف ما يرى فيمن حسن تكوين مقاطعهم، فإنما هي ملك مرسوم أعارتها الحور معانيها، فلما رأيتها مال قلبي إليها ميلا شديدا، وجعلت أخالسها نظر العاشق الولهان، فسرت مني وأجزلت حركاتها.
لا أعلم كم جلست إليها دون أن أكلمها، ولا أعلم أألفت سكوتي بلها أم احتراما لجمالها، ولو لم يأت الخادم ويدعنا للعشاء لضحكت مني مليا، فقالت: هات يدك يا مكسيم وسر بنا إلى المائدة فأجلستني إلى جنبها، وكانت في حديثها على المائدة تسألني أسئلة تقصد منها اختباري، واكتشاف نياتي، فأجيبها بكل سكينة وحكمة، ورسمت لها عادات أهل بلدتنا الصغيرة رسما حقيقيا، وأضفت إلى كلامي أقاصيص ونوادر راقت لها فقالت: يظهر أنك لم تأت باريس قبل هذه المرة؟ - لا يا سيدتي، وما ذهبت إلى غيرها أيضا؛ ولذلك ترين عاداتي كعادات أهل القرى. - إذن عليك أن تحذر من باريس، فإن فيها خطرا على أمثالك. - شكرا لك يا مولاتي على نصحك! - ولست أشاء لك أن تبالغ في ذلك إلى حد يلحقك معه ضرر، وإنما أعني أن باريس بلدة معشوقة السكنى، تحسدها عواصم الدنيا أجمع؛ لكونها أغنى المدن التي تقدمتها في التاريخ، ولكون الذي يأتي إليها تتغير أخلاقه من الحدة إلى اللين، ومن البلادة إلى الظرف والرقة، وينفسح مجال أفكاره، فيجب على الشاب أن يقتصد في معيشته ... قل لي أين ذهبت اليوم؟ - إلى غابة بولونيا. - لم أشك في ذلك ولو قلت إلى مكان آخر لاستغربت هذا الأمر، ولكن هل رأيت عربة هناك بخيل دهم فيها امرأة مكتحلة قليلة الذكاء تسمى ... نعم، إنها ذات مهارة وذوق في اللبس، لكنها قبيحة تتخطر في الغابة ذهابا وإيابا في الليل والنهار؛ لتصطاد رجلا غنيا مثل فركنباك أم شابا جميلا مثلك، وفي باريس من أمثال هذه نساء لا تحصى.
فقال لها فركنباك: مالك وللخطابة دعيها للقسيسين، أو هل تحسبين الإرادة آلة تدور كيف تشائين؟ إن الأم تقول مرارا لولدها إن النار تحرق وذلك لا يمنع الولد من الاقتراب من النار. - ولكن الشاب غير الكهل فهو كالغصن إذا قومته يتقوم. - لا تصدقي ذلك؛ لأن الفطن يطمع في كل شيء مهما كان أليس كذلك يا مكسيم؟
ثم التفت إليها وقال: إن مكسيم شاب حسن الوجه، ظريف المعشر، متين البنية، فهو قادر على عشق أجمل النساء، وعلى اتباع كل سنن العشق «وأظنه عاشقا».
فخجلت وتوردت وجنتاي؛ إذ مرت في فكري حادثة غرام جرت لي مع امرأة في افريه، فلم أنبس ببنت شفة، ثم قمنا عن المائدة فقال لي همسا: لا تلق بالا لما تقول البارونة؛ لأنها تبالغ في النصح، أنحن قديسون أم آلهة؟ وعندما عدنا إلى القاعة أوقدت لفيفة من التبغ المصري، وجعلت تشرب وتنفخ الدخان من فمها وأنفها بتأوه كالعاشق المستجد، ثم ألقتها في النار وهي تضحك، كمن تقول إنها تشرب الدخان على سبيل التسلية، لا على سبيل العادة، فضحك منها البارون وأخرج من جيبه علبة من تبغ هافاني، وقال لي: إني أقتدي بالبارونة في كل شيء.
فدار الحديث بيننا على أمور شتى كالموسيقى، والروايات، والآداب، والمعاني، والبيان، فسرها اطلاعي على تلك الأشياء، وسرها أكثر من ذلك قوة ذكائي، ونزاهة كلامي.
وسألتني عن كتبة الإنكليز، فأخبرتها عن أشهرهم، وعن مؤلفاتهم المعروفة التي ترجمت والتي لم تترجم، ثم قابلت بين كتبة الإنكليز وكتبة الفرنسويين، وتداولت معها مداولة لا يكون أرق منها.
Página desconocida
وبينما نحن في الحديث نام البارون على المقعد فقطعتني عن الكلام، ونظرت إلي بعينيها السوداوين كمن تريد استقصائي، ثم قالت: ما رأيك في الحب؟
فبهت وكدت أفشل كما يفشل أحد المتثاقفين إذا عاجله خصمه بضربة أمضى من البرق، ولم أفهم يومئذ مرادها من هذا السؤال، هل كان تطفلا نسائيا محضا؟ أم كان وسيلة لاختبار أخلاقي؟ على أني مراعاة للأدب قلت والحياء باد على وجهي: اعذريني يا سيدتي، إذا خبطت في الجواب خبط عشواء؛ لأني لم أعرف الحب بعد، ويصعب علي جدا أن أشرح لك عن أشياء لم أحس بها، ولم تخطر لي على بال، فقالت: هذا نفور وأظنك تتجاهل تجاهل العارف.
فلما رأيت أن لا مناص من الجواب قلت:
القلوب والمقل
هن للهوى رسل
لسن للهوى عللا
بل به لها علل
ربها وآمرها
يقتضي فتمتثل
حاكم مشيئته
Página desconocida
لا تردها الحيل
الوجود دولته
أرضنا بها عمل
والأمير خادمه
والحكيم والبطل
والنجوم في يده
تغتدي وتنتقل
والحياة موطنه
والطبيعة السبل
والدوام مبدؤه
Página desconocida
والنهاية الأزل
والسنى تبسمه
وهو ضاحك جزل
والدجا عبوسته
والخطوب والوهل
والسرور في فمه
والعذاب والأجل
والحب أسمى العوامل البشرية، وهو النور الذي يبتهج به كل مولود، وهو مولد الأفكار والانفعالات من حزن وفرح، والناس يسعون وراءه كما لو كان من مقتضيات الوجود، والحب يقوي قلب العاشق، وإذا لم تصل شراراته إلى كل من قلبي العاشق والمعشوق، فلا عشق هناك وبالحب السعادة، وبما أن السعادة هي منتهى آمال البشر فهم إذن يرصدونه كما يرصد الكوكب عابد النار، فقالت بتنهد: نعم، وإذا طال العهد ولم تصل شرارة الحب إلى قلب المعشوق، يضيق على العاشق وجه الفضاء، فيرمي بنفسه إلى الطويل العريض من عالم الفناء إلى حيث يضمه القبر وهو الأب الحنون ... ثم أخذت تشير بيدها إشارات مختلفة الشكل ، ثم وقفت، ثم قعدت، والتفتت إلي وقالت كمن استفاقت من غشوة: إن في رأسي هموما كثيرة تقيمني وتقعدني رغما عني فاعذرني.
وكان صدر فركنباك إذ ذاك ينتفخ وينقبض، وأنفه الضخم العظيم يهلل ويرنم، ولما استيقظ نظر إلى البارونة نظرا طويلا، فقرعت الجرس الكهربائي وللحال جاء الخادم مسرعا فأمرته بإحضار الشاي، فقال لنا: يظهر أني نعسان، فقالت: أتظن ذلك فأجابها: وهل في ذلك ذنب؟ - كان يجب عليك أن تحترم ضيفك وتجلس إليه، ولا تدعني وحدي.
فاستأذنتهما عندئذ بالذهاب وخرجت، فضغطت على يدي وابتسمت لي ابتسامة غرامية، وقالت: إذا كان حديثي يلذك فلك أن تزورني في كل يوم سبت.
Página desconocida
الفصل الثاني
إن القادم لباريس يدهش لكثرة ما يرى من المناظر البهيجة، وكأنه حين يأتي هذه العاصمة ينتقل من عالم إلى عالم أسمى، فيقف عند كل شيء وقفة المفتتن، وينظر لكل منظر نظرة المعجب على أن نظره لا يلبث أن يألف رؤية الغرائب، فيود لو يكون عاشقا يتهادى مع معشوقته في غابة بولونيا.
نبض دمي نبضا لم أشعر بمثله حين لمست ريتا يدي، وحسبت أني أحبها وأنها تحبني.
وفي اليوم الثالث لوصولي استأجرت غرفة في شارع لافييت، وجعلت دراهمي قسمين: قسما للغرفة والملابس، وقسما للنفقة.
وفي اليوم الثاني لدخولي البنك بدأت في العمل الذي في عهدتي على أحسن ما يرام، وكان الجميع مسرورين من اجتهادي، ولا سيما لامبون رئيس القسم الذي كنت فيه.
لما توفى الله لامبون بكيت عليه؛ لأنه كان يحبني، ولامبون هذا كان أقدم مستخدمي البنك، وكان البارون يعتمد عليه في معضلات الأمور، ويثق به تمام الثقة، وحين كانت الظروف تدعوه إلى التغيب عن البنك كان يقيمه مقامه، فيدبر شئونه على أحسن ما يكون.
وكان في مدة حياته يميل إلي فولعت به، وكنت أمازحه بقدر ما يسمح الأدب، ويجيزه تفاوت العمر، وقد طالما أكلنا معا، وتنزهنا في الغابات على مجاري المياه.
وبينما كنا ذات يوم نتناول الطعام في بيته قال: ما قولك في أكلة شهية في غابات جوانفيل؟ فقلت: خير ما يشتهى على بخيل.
فقال للسائق سر بنا إلى محطة فنسين، ومن هناك إلى نوجان، ثم نقطع المرن ماشين؛ لأن بالمشي تزداد شهوتنا للطعام، فسارت بنا العربة على ميسرة نهر المرن، حتى بلغت نوجان، ومنها سرنا ماشين إلى جوانفيل، فمن يعلم كم تحدثنا على الطريق وكم أنشدنا؟
وكانت سماء ذاك اليوم صافية، ونسيمه عطرا، وفي الرقيع غيوم رقيقة مفوفة كالقطن المندوف، تطوف فيه متئدة من فوق أشجار البساتين وأزهار الرياض، وكنا في تلك الآجام المظلة نسمع الأنغام والأغاني الغرامية، وأصوات القبل التي كان الشبان يختلسونها على غفلة من الغادات، والقبل التي كانت الغادات تستردها من الشبان كذلك، ونسمع صوت الرقص والضحك، ووقع أقدام العشاق ... فهناك الحياة الحقيقية وهناك السعادة الحية.
Página desconocida
ولما أن شبعنا من المآكل اللذيذة جعلنا نمج الدخان، فسألته إذا كان يعرف شيئا عن تاريخ بيت فركنباك؟ فقال: إني أعرفه أحسن من البارون نفسه؛ لأني لما استخدمت في البنك كان البارون حديث السن جدا وهذا تاريخه.
ولد جوهن فركنباك في فروينفيلد من أعمال خرغونيا، ولما شب وأدرك سن الرجال سافر من بلده إلى الغربة، وهيأ لنيل أمانيه قوى ثلاثا: النشاط، والصبر، والاقتصاد، وبلغ من اقتصاده أنه لما سافر من سويسرا إلى فرنسا قطع تلك المراحل العديدة ماشيا يأكل الخبز الناشف مع الرحالة، ويشرب الماء الكدر، وإذا فرغت معدته يعدها بالأكل، وإذا خارت يعلمها الصوم، وبقي على هذا المعاش ثلاثة أشهر، يمشي حافيا كيلا يتمزق حذاؤه إلى أن وصل البلد التي كانت تشوقه من زمن بعيد، فوثب على الشغل يترامى المشاق كأنه يؤانس مغنما.
ولما كانت الثورة إذ ذاك قد استهلكت أكثر الرجال العظام والتجار الأكابر، وأبادت أهم الشركات، اغتدت البلاد وهي بحاجة إلى رجال أذكياء ينشرون حياة تجارتها فتعتاض بهم عن أسلافهم.
وما من أحد يعلم حقيقة عن فركنباك بعد وصوله لباريس، والبعض يقولون: إنه كان خادما في أول أمره ثم تاجرا، ومهما يكن من أمره فقد جمع قدرا من المال تمكن به من فتح بنك كبير.
وكان مهيبا يخافه الكتبة خوفا عظيما، فإذا أقبل ارتعدوا، وإذا رأى أحدهم متقاعدا أهانه، وكان لا يمضي عليه أسبوع دون أن يعيد حسابه، ويرى رصيد ماله، وبينما كان في هذا التعب والكد كان الموت فوقه ممدود اليد.
وذلك أنه لما حدثت الثورة الشهيرة في سنة 1848، خاف وتحولت شجاعته التي أظهرها في الثورة الأولى إلى جبن وفرق، ولما رأى الأسلاب والسرقات التي تحدث في باريس، والثائرين المنتشرين في كل صوب يفتكون بهذا، ويختلسون مال ذاك، خاف منهم على نفسه وماله، فأصابته حمى شديدة في الرأس قضت عليه.
وكانت امرأته طاهرة جليلة، ولدت له ولدا اعتنت في تربيته كل الاعتناء، ولما مات أبوه خلفه ولده جورج المذكور، وكان إذ ذاك يراهق الستة والأربعين من عمره، فقام بواجباته حتى القيام وحقق المأمول فيه، وكان يتصدى بقلب ثابت لكل ما كانت الثورة تهدده به.
وكان أبوه جوهن قد أرسله في ربيع سنة 1834 إلى فردنفلد لحاجات فذهب إليها، ولما لم يجد فيها ما كان يتصوره من المسرات، سئم الإقامة وطلب إلى أبيه أن يرده إلى باريس، وبينما كان ذات يوم يجول في ضواحي المدينة رأى شابا جميل الوجه، تلوح عليه مخايل النجابة والشرف، لا يكاد يناهز العشرين من عمره فتقدم منه قصد أن يعرفه، وقال: أرجوك يا مولاي أن تخبرني لمن هذا القصر القريب؟ فأجابه الشاب بلطف: هذا قصر ادنانبرج وهو اليوم لجدتي، فهل تشاء أن أعرفك بها؟ ثم قال: أظنك فرنسيا مثلها، وكان هذا الشاب لويس بونبرت الشهير.
فتمكنت صلات الحب بين الشابين وجعل كل يزور الآخر، ويذهبان للصيد والنزهة معا، ولو لم يستدع جوهن ولده من فردنفلد، لبقي عند البرنس الأسير طول عمره، وبعد مضي عشرين سنة من ذلك العهد أمرت الحكومة بإطلاق الأسراء، فعاد لويس بونبرت إلى باريس حيث استقبله صديقه جورج بكل ترحاب وسرور.
وجعل لويس بونبرت يعمل لاسترجاع الملك إلى عائلته وأخبر صديقه جورج بذلك، فأمده هذا بقدر عظيم من المال، وهداه بمشوراته ودربه الحسنة، إلى أن تم الفوز لبونبرت واسترد التاج والصولجان ، ففرح جورج فرحا شديدا لا يحتمل مزيدا.
Página desconocida
فعرض عليه الإمبراطور لويس وظائف شتى سامية فرفضها، ثم منحه لقب بارون، وجعل هذا اللقب لأولاده من بعده، وأحال إليه كل مشروعات المملكة، وخصه بالامتيازات الجليلة.
ودعي فركنباك إلى مرقص أعده الإمبراطور في قصره، فأخذه هذا وانفرد به في غرفة صغيرة وقال له: قد أمرت أن تصنع لك شارة شرف تعلق على بابك، فماذا تحب أن يكتب عليها؟ فأجابه فركنباك من فوره: «أبقى مخلصا ما حييت»، فسر الإمبراطور، وفي اليوم الثاني طار الخبر إلى جميع الأنحاء، فكتبت الجرائد وأطنبت بمدح المحسن والمحسن إليه.
ولما وصل جورج فركنباك إلى هذه المكانة من الثروة والرفعة، زعم أن وقت الراحة قد جاء، وأن الزمن الذي أنفقه في الجهد والتعب آن أن يبدل بأقل منه في المسرات واللهو، فانغمس بياض شيخوخته بالشهوات السوداء، وأضله الهوى ما شاء، ولم يمض عليه القليل من الزمن حتى اعتل وصار كأنه ميت بصورة حي، ثم مات أيما ميتة.
فبكيت الدموع ملء المحاجر، ورثيته بما استطاع الخاطر، وشيعت معه كل عبارات الأسى والأسف، هذا تاريخ بيت فركنباك، ولم يبق منهم غير جستاف الحالي، وإنك تعرفه أحسن مني فقلت: أريدك أن تفيدني عن شئونه الداخلية، فإنك أدرى بها مني، فقال: إن لجستاف اجتهاد جده وأخلاق أبيه، على أن حديثه ألطف من حديثهما، وهو أحب إلى الناس من كليهما، وقد يكون من أسعد البشر لو رزقه الله ولدا.
فسألته عن امرأته فقال: إنها من انجة، وقد تزوج بها عن غرام رغم إرادة أبيه، وكان زواجه بها أشبه بتمثيل رواية، على أنهما عاشا سعيدين في الدنيا واستقبلا الأيام بهناء ونعمى.
وكانت الشمس قد قاربت الغروب، وكست غيوم السماء بردا قرمزية، وكأنها شاءت أن ترينا بقية ما عندها من البهاء قبل أن تتوارى في لجتها، وتهبط في غير هذه السماء، فغيرنا الحديث.
الفصل الثالث
يحدث للإنسان في ظروف أنه يغيب في عالم الخيال، فيسافر إلى الشمس تارة، وإلى القمر أخرى، وطورا يرى أنه يطوف في أقاصي الدنيا، بين أجم ملتفة تفوح عطرا وندا، ويرى أسراب الطيور شتى هنا وهنالك، تتغنى بألحان هي نهاية ما عند الموسيقات الطبيعية من الألحان الحسنة التوقيع الشديدة التأثير، وبينا هو على تلك الحال من المغيب، يحدث له ما يعيده إلى ذاته ويرده إلى حاله المعتادة، فينظر إلى ما حوله نظرة المفيق ويودع العيد بحزن شديد.
فلما عدنا من جوانفيل رأيت على مكتبي كتابا من عمي فقرأته، وبعد أن تأملت ما فيه من النصائح الأبوية، وقفت وقفة من كان متغيبا في مثل الغيبوبة التي وصفناها.
وكان في الكتاب سلام من عمي إلى البارونة، ففرحت فرحا شديدا وعزمت أن أبلغها سلامه بأقرب وقت.
Página desconocida
وكان اليوم التالي يوم سبت فقصدت بيت فركنباك نحو الساعة الرابعة، ولما دخلت أعلمها الخادم بقدومي، فخرجت لملاقاتي وهي تتيه عجبا، فشممت منها رائحة طيب ممزوجة برائحة الزهور التي كانت على صدرها وشعرها، وكان عندها امرأتان من نساء الأعيان؛ إحداهما شابة صغيرة السن شقراء، بديعة بالجمال، جالسة على كرسي من الخيزران، والأخرى كبيرة ذات شعر مبيض وصحة تامة، فعرفتني إياهما، ثم التفتت إلي وقالت همسا: سأنفرد لك، وقالت لهما: إن المسيو مكسيم جوشران من أحد كتبتنا، ومع أن له زمنا يسيرا عندنا، فقد برع في العمل، والبارون مسرور منه جدا، فقالت لي الصغيرة: أهنئك بهذا النجاح، وأتمنى أن يدوم رضى البارون عليك، فشكرتها على تلطفها.
إن المركيزة دي سيمين وهي الصغيرة، كانت أحب الصديقات إلى البارونة ريتا، وكانت مثلها عاقرا لا تحبل ولا تلد، وهذا هو السبب الذي جعل البارونة تحبها، وتجتمع بها في أكثر الأحيان؛ لأن حالتهما كانت واحدة من حيث الاحتياج إلى الملاهي والمسرات، والفرق بينهما أن المركيزة كانت تحب اللهو، فلا تضيع نزهة ولا فرصة سرور بخلاف البارونة ريتا؛ فإنها كانت أميل إلى العزلة والسكينة، فقالت المركيزة للبارونة: إن حياة المرأة في الدنيا عناء، يلعب بها القدر، وتعبث بها ألوف من الأمور الجائرة، فإذا هي لم ترد لتتسلى برؤية الناس والمناظر الجميلة والملاهي تخسر وجدانها الثمين، وملاهي المرأة كثيرة من بعضها التحلي، والتحسن، وسماع الموسيقى، والأصوات الشجية ... - أتعرف الموسيقى يا مكسيم؟ - كنت أضرب الكمنجة في صغري، والآن أظن أني نسيت. - إذن راجع ما نسيته، وأنا أدلك على المسيو ليكرم الموسيقي الشهير، فإنك تسمع منه ألحانا عجيبة.
ثم همت الكبيرة بالذهاب فودعناها وعدنا، فنظرت البارونة من النافذة وقالت للمركيزة: آه ما أجمل السماء! أظنك تذهبين إليها عن قريب دون أن تمري على المطهر، فضحكت المركيزة ضحكة كبيرة وأجابت من فورها: حيث أجتمع بك تحت أقدام أمور «إله الغرام»، ثم همت بالذهاب أيضا وقبل أن تخرج قالت: إنك جميل رقيق الحديث، فيجب أن تزورني في كل ثلاثاء وهو يوم موعد مقابلاتي، وإن أنت لم تأت آمر بقتلك.
وبعد انصراف المركيزة أخرجت كتاب عمي وقرأته عليها فاضطربت، وتغيرت ملامح وجهها، وجعلت تنظر إلي كأنها تستطلع ما إذا كانت نصائح عمي غيرت أفكاري وصرفتني عن حبها، وإذ لم تر على وجهي دليلا لذلك، اقتربت مني وقالت همسا: سأذهب غدا إلى كنيسة القديس اغوسطينوس فلاقني إلى هناك فودعتها، وذهبت مستغربا أفكر في كيف أن امرأة مثل البارونة معروفة في باريس بجمالها وذكائها ولباقتها، تضرب لي موعدا لم أطلبه منها؟ مع أني مستجد في خدمة زوجها، وملزم أن أعتبرها وأجلها ... وما معنى ذلك الموعد؟ وما المقصود منه؟ ... على أنه أحدث عندي روح الكبرياء والتغطرس، وأوهمني أني شيء عظيم في الدنيا.
وعندما استلقيت على فراش النوم أخذت تتجاذبني الأفكار، وتقلبني الأوهام، فأسمع تارة أقوال عمي، وتارة أنظر الأخطار التي تنجم عن حب هذه المرأة ... وطورا أنظرها تبتسم لي، وتقبل فمي بحب وشوق، فأنسى كل شيء، وبينا أنا أخاف على مصلحتي أن تفقد مني، وعلى كرامتي أن تشان، كنت أشعر بميل عظيم لحب تلك المرأة وضمها إلى صدري، وأقول: إن جميع الأخطار هينة بجانب وصلها، ثم أرجع فأذكر قول من قال: «إن أول الحب ميل، وثانيه هيام، وثالثه قتل» ... ثم قلت: لا بد أن الوصل يضعف قوة الحب، ولكن قد قال العلماء: إن الهواء يطفئ النار إذا كانت خادمة، أما إذا كانت مشبوبة قوية فإنه يصليها.
ورأيت في الليل حلما أني بين شياطين كثيرة، هذا يحاول قص لساني، وذاك يضغط علي، وآخرون يقفزون من فوقي، ورأيت بين أولئك الشياطين امرأة مجردة من ثيابها، ذات جمال بديع، مفتوحة اليدين تدعوني إليها، ثم استيقظت فلم أر أحدا.
ولما قربت ساعة الميعاد جعلت أفرق بين الأخطار المحدقة بي، وبين السعادة المهيأة لي، وبينما كنت كذلك ذكرت الشعر الذي يقول فيه هوراس: إن الحكيم ينتفع من كل شيء بحكمته، وحكمت أن ذهابي إلى الكنيسة واجب، وفتحت شباك غرفتي فرأيت السماء ملأى بالغيوم الكثيفة، ومدامعها تنهال طورا طلا وطورا وبلا، والأسواق سائلة بالمياه والحوانيت مقفلة، والناس مختبئون إلا نفرا مشمري الذيول في أيديهم المظال يمشون مسرعين، ورأيت الحدائق خالية يسقيها الله من فيضه العميم، فظننت أنه يكون لي عذر إذا لم أذهب في مثل هذا الوقت، وقلت من المحتمل أن تكون البارونة قد عادت إلى بيتها؛ لعدم صفاء النهار، فإذا ذهبت أكون حللت هذه المشكلة على طريقة مستحسنة.
فركبت عربة من العربات المقفلة وسرت إلى الكنيسة، وقبل أن أصل إليها أمرت السائق بالوقوف فوقف، فذهبت ماشيا، ولما دخلتها كانت النجوم الذهبية التي تضيء أمام الهيكل تنطفئ واحدة بعد واحدة، والكهنة ينصرفون بالتتابع تاركين الكنيسة كمغارة مهيبة، بل كقبر مخيف، فتقدمت قليلا وإذا بها على بعد عشر خطوات راكعة تتأمل، ولما رأتني أتت إلي وقالت بثغر باسم وهي تكاد تقبلني في الكنيسة: هل معك عربة؟ قلت: نعم، فقالت: إذن اسبقني فأتبعك للحال، كل ذلك كان بوقت وبشكل غريبين، بحيث لم يلحظ أحد ما كان منا، فقالت للسائق سر بنا إلى حديقة منسو، ثم إلى كورسيل، ومنه إلى شارع قبة النصر، ثم جلست إلى جانبي وأحنت رأسها أمامي مثل جلستها في الكنيسة وانحنائها رأسها، وكان العطر يفوح من ثيابها، وفمها، وشعرها، فرفعت الخمار عن وجهها، وبينا كنت أفكر في حديث أفاتحها به، افتتحت الحديث بشجاعة وقالت: الآن أنا آمنة من أن لا أرى وأن لا تسمعني جدران بيتي ونوافذه، فتفهم هاتين الكلمتين، لا بد أنك استغربت كيف أني استقبلتك منذ يوم معرفتي بك، كمن عرفتك من زمن بعيد، وكيف أني لاطفتك وأظهرت لك التودد والميل، كمن اختبرتك وعرفت أنك تقدرها قدرها فلأي شيء تنسب تلك الجاذبية التي جعلتك تمتلك قلبي؟ وجعلتني أكبر حبك؟ ... هذا لغز أترك لك حله يا حبيبي، قد استوليت على قلبي وقيدته بهواك، ولأول مرة رأيتك شعرت بشيء لم أشعر بمثله قبل، وحدثتني نفسي بأنك أنت الحبيب المنتظر.
ثم ألقت رأسها إلى ذراعي وأمسكت يدي، فاستنشقت أنفاس فمها العطرة، وقرأت في عينيها شوقا عظيما لتقبيلي، وشعرت بمثل هذا الشوق لتقبيلها، فهاجني الغرام، وأقامني وأقعدني وحبذا لو أغمي علي؛ لكنت تخلصت من تنازع الخوف والهوى، ولكن سلطان الهوى تغلب على سلطان الخطر فقلت: إذ قد حصل لي الشرف بأن أستحق حبك وهواك، فاسمحي لي أن أثني عليك، وبما أن الغرام هكذا اقتضى فإني أسلم إليه قياد نفسي، وهنا ذكرت نصائح عمي، فتوقفت بغتة، وقلت لها من فوري: ولكن يا سيدتي أنت أرفع منزلة من هذا الغرام، وأرقى عقلا من اتباع هذا الهوى ويجب علي أن أحترمك لا أن أحبك، ثم ماذا يكون من الحب يا ترى غير عذاب وغيرة وإهمال للواجبات؟ فأرى أن نتجنب هذه الأضحوكة السيئة العواقب ونهرب منها، فذلك أشرف لنا وأبقى.
فلما سمعت هذا الكلام نفرت مني وبرد جسمها وقالت لي: قل للسائق أن يعود إلى شارع جبرائيل، ولما بلغناه هممت أن أعينها على النزول، فأبت وابتعدت عني قائلة: كفاك تتعب لأجلي ...؟ ما أقسى قلبك وما أجبن أرباب العقول! قالت هذا بغضب ومضت.
Página desconocida
الفصل الرابع
إذا كان جرح الشرف صعب الشفاء، ومس الكرامة يثبت في الفكر ما دام في الجسم دم شريف، فكيف السبيل لمراضاة ريتا وعفائها عني؟ بعد أن جرحت شرفها جرحا عميقا وعاملتها بالقسوة الجائرة، وقابلت تنازلها بالكبر وسوء التصرف ... ولكن أي ذنب أذنبت إليها إذا اتبعت الجادة الحسنى؟ ونظرت في أمر مستقبلي نظرة الفطن اللبيب، إلا أن هذه ظروف تصغر ذنبي بعينيها ... ولكن لا لا، فإن من الخمول والجبن رفضي طلب حسناء تحسد العذارى خدها الأحمر، وقدها الميال، وتطمح إلى جمالها عيون النساء، والأطفال، والرجال، وإن جبني هذا يجعل بيني وبينها حاجزا حصينا.
وإذا شئت أن أستغفرها، وأطلب عفوها فكيف؟ ومتى؟ فإذا كتبت إليها عرضت نفسي لخطر عظيم؟ وإذا ضربت لها موعدا فربما ترفضه، وإذا زرتها فلا جرم أن لساني يتلعثم عن الكلام، وأن فؤادي يجبن، ولما أن أتعبتني هذه الأفكار المقلقة تركت الأمر للقدر، وفي صباح النهار التالي عاودتني أفكار أمس، وهاجتني حوادثه، فأكمد وجهي وفقد طلاقته، فشعر لامبون بحزني وانقلابي، وسألني عن مسبب أكداري وموجب حزني، فلم أجب، فقال: أظنك عاشقا، فقلت: ربما كان ذلك، قال: ذلك كائن بالفعل، وآخر دواء لذلك هو أن تشرح هواك لحبيبتك، ولكن قل لي - ناشدتك الله: هل حبيبتك عذراء؟ قلت: لا، قال: لا غرو أنها جميلة فتانة؛ لأن كل محب يرى حبيبته كذلك، فقلت: والله يا لامبون، إنها من أجمل مخلوقات ربك:
حرة الوجه والشمائل والجو
هر تكليمها لمن نال غنم
وحديث بمثله تنزل العص
م رخيم يشوب ذلك حلم
سلب القلب دلها ونقي
مثل جيد الغزال يعلوه نظم
ونبيل عبل الروادف كالفو
Página desconocida
ر من الرمل قد تلبد فعم
ووضيء كالشمس بين سحاب
رائح مقصر العشية فخم
وشتيت أحوى المراكز عذب
ماله في جميع ما ذيق طعم
هكذا وصف ما بدا لي منها
ليس لي بالذي تغيب علم
غير أني أرى الثياب ملاء
في يفاع يزين ذلك جسم
وقد ضربت لي موعدا فجلست إليها أكثر من ساعتين في عربة مقفلة، خرجت منها كما دخلت بدون حادث يذكر، ولم أعد أراها، فقال: إنك يا مكسيم أسأت الأدب إلى هذه المرأة وأراك لم تعشق قبل الآن، ألا تعلم أن من الظروف ظروفا يجب على الإنسان أن يخلع فيها الأدب واللياقة مع النساء؟ فيجب عليك أن تذهب إلى تلك الحبيبة وتترامى على أقدامها، وتقبل يدها بذلة وانكسار، وتظهر لها حبا شديدا، تلتزم معه أن تستلم إليك وترضى عليك، فقلت: سأفعل حسب أمرك.
Página desconocida
وقبل أن يودعني التفت إلي التفاتة الحكيم وقال: يجب أن تستعمل الوقاحة مع النساء «دائما الوقاحة».
الفصل الخامس
رقاني فركنباك إلى أهم خدمة في مكتبه، وهي فض الأمانات، ففي كل صباح كانت تأتيني رسائل ألمانيا، ورسائل الولايات المتحدة فأترجمها لفركنباك، وبحسب أمره أجيب عليها، فبقدر ما تكون الرسائل كثيرة أو قليلة يكون شغلي كثيرا أو قليلا.
فبينما كنت ذات يوم عنده أحمل إليه رسائل الخارج وأنتظر أن تمسكها تانك اليدان اللتان تنثران درا حين الكتابة، إذ دخل الخادم وفي يده بطاقة دفعها إليه، فلما قرأها ترك ما كان في يديه وأمرني أن أجلس على مكتبه، وأطوي الكتب وأرسلها لأربابها، وقال: أنا ذاهب، أستودعك الله وأرجوك أن تذهب إلى البارونة وتقول لها ألا تنتظرني؛ لأني مدعو للأكل عند صاحب لي في أمستردام وهو يلح علي بالذهاب إليه.
كان هذا الوقت أنسب وقت وأقرب وسيلة لاختبار مبدأ لامبون، وما كاد البارون يخرج من الباب حتى طويت الكتب وأرسلتها، ثم ركبت عربة وسرت إلى قصر فركنباك، فذهب الخادم وأعلمها بحضوري، ثم عاد وقال لي: البارونة ترجوك أن تنتظرها ريثما تنتهي من بعض شأنها، فانتظرتها زمنا طويلا ولم تأت فخفت، وارتبكت أفكاري، وقلت: إذا قصرت زيارتي على إبلاغ ما كلفته يعظم البلاء، وأجلب علي غضبها المؤبد، وإذا فاتحتها بغير ذلك فأي إظهارات تظهرها لي ...؟
وإذا بها مقبلة وعلامات الغضب على وجهها، فأمرتني أن أجلس، ثم قالت بازدراء: طلبت مقابلتي، فماذا تريد قلت: إني آت من قبل البارون لأخبرك أنه مدعو للأكل في أمستردام في هذا المساء عند صاحب له، فضحكت مني ضحكة معنوية، وقالت: إن الهولندية التي يحبها البارون تدعى جوزيفا، وهي أستاذة في أكاديمي الموسيقى، وبيتها في شارع أمستردام ... إنك تنقل الحديث بحروفه، فماذا يعطيك البارون مكافأة على هذه الخدمة؟
فدار في رأسي غدير دم كاد يقتلني لهذه الإهانة، وأجبتها بوجه صفعته الشماتة، أقسم بالسماء وبالأرض، وأقسم لك بكل عزيز لدي أني أجهل كل هذه الشروح، وفاضت عيناي بالدموع.
فقلت لها والعبرات تتسابق من عيني: لقد عاملتني بالقسوة الزائدة، ولو كانت هذه الإهانة من غيرك، لهانت علي، ولكني لا أحتملها ممن أهواها وأفتديها بروحي، بماذا أذنبت إليك يا سيدتي فتقابليني بهذا الجفاء؟ فقالت: وقد أخذت عبوستها بالزوال: أرجوك أن تعذرني فقد غلبت علي الانفعالات النفسانية، وإني أصدق مقالك، فقلت برقة وتذلل: قبل أن أذهب من هذه القاعة التي ربما منعتني عن دخولها مرة أخرى أقر إقرار المدنف أني أهواك، وأني من يوم رأيتك على هذا المقعد الذي أنت عليه الآن جميلة كالصبح، شعرت بشيء خرج منك واستولى على قلبي فأخذه مسحورا:
سجد الجمال لحسن وج
هك واستراح إلى جمالك
Página desconocida