ولما أن شبعنا من المآكل اللذيذة جعلنا نمج الدخان، فسألته إذا كان يعرف شيئا عن تاريخ بيت فركنباك؟ فقال: إني أعرفه أحسن من البارون نفسه؛ لأني لما استخدمت في البنك كان البارون حديث السن جدا وهذا تاريخه.
ولد جوهن فركنباك في فروينفيلد من أعمال خرغونيا، ولما شب وأدرك سن الرجال سافر من بلده إلى الغربة، وهيأ لنيل أمانيه قوى ثلاثا: النشاط، والصبر، والاقتصاد، وبلغ من اقتصاده أنه لما سافر من سويسرا إلى فرنسا قطع تلك المراحل العديدة ماشيا يأكل الخبز الناشف مع الرحالة، ويشرب الماء الكدر، وإذا فرغت معدته يعدها بالأكل، وإذا خارت يعلمها الصوم، وبقي على هذا المعاش ثلاثة أشهر، يمشي حافيا كيلا يتمزق حذاؤه إلى أن وصل البلد التي كانت تشوقه من زمن بعيد، فوثب على الشغل يترامى المشاق كأنه يؤانس مغنما.
ولما كانت الثورة إذ ذاك قد استهلكت أكثر الرجال العظام والتجار الأكابر، وأبادت أهم الشركات، اغتدت البلاد وهي بحاجة إلى رجال أذكياء ينشرون حياة تجارتها فتعتاض بهم عن أسلافهم.
وما من أحد يعلم حقيقة عن فركنباك بعد وصوله لباريس، والبعض يقولون: إنه كان خادما في أول أمره ثم تاجرا، ومهما يكن من أمره فقد جمع قدرا من المال تمكن به من فتح بنك كبير.
وكان مهيبا يخافه الكتبة خوفا عظيما، فإذا أقبل ارتعدوا، وإذا رأى أحدهم متقاعدا أهانه، وكان لا يمضي عليه أسبوع دون أن يعيد حسابه، ويرى رصيد ماله، وبينما كان في هذا التعب والكد كان الموت فوقه ممدود اليد.
وذلك أنه لما حدثت الثورة الشهيرة في سنة 1848، خاف وتحولت شجاعته التي أظهرها في الثورة الأولى إلى جبن وفرق، ولما رأى الأسلاب والسرقات التي تحدث في باريس، والثائرين المنتشرين في كل صوب يفتكون بهذا، ويختلسون مال ذاك، خاف منهم على نفسه وماله، فأصابته حمى شديدة في الرأس قضت عليه.
وكانت امرأته طاهرة جليلة، ولدت له ولدا اعتنت في تربيته كل الاعتناء، ولما مات أبوه خلفه ولده جورج المذكور، وكان إذ ذاك يراهق الستة والأربعين من عمره، فقام بواجباته حتى القيام وحقق المأمول فيه، وكان يتصدى بقلب ثابت لكل ما كانت الثورة تهدده به.
وكان أبوه جوهن قد أرسله في ربيع سنة 1834 إلى فردنفلد لحاجات فذهب إليها، ولما لم يجد فيها ما كان يتصوره من المسرات، سئم الإقامة وطلب إلى أبيه أن يرده إلى باريس، وبينما كان ذات يوم يجول في ضواحي المدينة رأى شابا جميل الوجه، تلوح عليه مخايل النجابة والشرف، لا يكاد يناهز العشرين من عمره فتقدم منه قصد أن يعرفه، وقال: أرجوك يا مولاي أن تخبرني لمن هذا القصر القريب؟ فأجابه الشاب بلطف: هذا قصر ادنانبرج وهو اليوم لجدتي، فهل تشاء أن أعرفك بها؟ ثم قال: أظنك فرنسيا مثلها، وكان هذا الشاب لويس بونبرت الشهير.
فتمكنت صلات الحب بين الشابين وجعل كل يزور الآخر، ويذهبان للصيد والنزهة معا، ولو لم يستدع جوهن ولده من فردنفلد، لبقي عند البرنس الأسير طول عمره، وبعد مضي عشرين سنة من ذلك العهد أمرت الحكومة بإطلاق الأسراء، فعاد لويس بونبرت إلى باريس حيث استقبله صديقه جورج بكل ترحاب وسرور.
وجعل لويس بونبرت يعمل لاسترجاع الملك إلى عائلته وأخبر صديقه جورج بذلك، فأمده هذا بقدر عظيم من المال، وهداه بمشوراته ودربه الحسنة، إلى أن تم الفوز لبونبرت واسترد التاج والصولجان ، ففرح جورج فرحا شديدا لا يحتمل مزيدا.
Página desconocida