ولما كانت الساعة السابعة جئت القصر، فوقفت على الباب قليلا ريثما يزول خفقان قلبي، ولما قرعت جرس الباب شعرت كأن صوته دوى في رأسي، وكنت أقول في نفسي: إن وراء هذه الجدران لأمرا عظيما لي، وستمثل رواية حياتي، وسأكون منذ هذا المساء موضوع البحث والكلام، ففتح الخادم الباب ودخلت وراءه في مكان مستطيل مبلط بالفسيفساء، وإلى جانبه حيطان البستان يترامى من فوقها الزهر من الأغصان، ولما صرت على مقربة من الباب الداخلي رأيت البارون مقبلا إلي فقال: إن مشيتك كمشية الجندي، ووقفتك كوقفة الممثل، وهذه صفات تحببك إلينا فتعال أقدمك للبارونة.
وكانت البارونة جالسة في غرفتها على مقعد من الحرير الناعم، إحدى يديها مسندة إلى المقعد، والأخرى تلعب بشعرها المنسدل، فقال لها البارون: أقدم لك المسيو مكسيم جوشران ابن أخي عزيزنا فرنسوا جوشران، فقد أتى اليوم من افريه وهو يبلغك سلام عمه، فقالت لي: أهلا ومرحبا، إن عمك ترك عندنا ذكرا حسنا، ويسرني أنك تذكرنا به، فتلعثم لساني عن الكلام ولم أجبها بشيء، وذكرت عندئذ ما قاله لي عمي من أن هذه المرأة جميلة وجمالها خطر، وكأني كنت أرى على جبينها تلك العبارة.
وكانت ريتا جميلة يبرز من كمي مطرفها الأسود زندان، كأنهما من العاج غاية في حسن التكوين، ولم يكن جمالها جمال طفلة لم يتم تكوينها، ولا جمال صورة تقبل التنميق، ولا جمال وردة لم تتفتق أزرارها، بل هو الجمال التام الذي لا جمال فوقه.
أما مقاطع وجهها فنادرة المثل، ومجموعها حسن أيضا بخلاف ما يرى فيمن حسن تكوين مقاطعهم، فإنما هي ملك مرسوم أعارتها الحور معانيها، فلما رأيتها مال قلبي إليها ميلا شديدا، وجعلت أخالسها نظر العاشق الولهان، فسرت مني وأجزلت حركاتها.
لا أعلم كم جلست إليها دون أن أكلمها، ولا أعلم أألفت سكوتي بلها أم احتراما لجمالها، ولو لم يأت الخادم ويدعنا للعشاء لضحكت مني مليا، فقالت: هات يدك يا مكسيم وسر بنا إلى المائدة فأجلستني إلى جنبها، وكانت في حديثها على المائدة تسألني أسئلة تقصد منها اختباري، واكتشاف نياتي، فأجيبها بكل سكينة وحكمة، ورسمت لها عادات أهل بلدتنا الصغيرة رسما حقيقيا، وأضفت إلى كلامي أقاصيص ونوادر راقت لها فقالت: يظهر أنك لم تأت باريس قبل هذه المرة؟ - لا يا سيدتي، وما ذهبت إلى غيرها أيضا؛ ولذلك ترين عاداتي كعادات أهل القرى. - إذن عليك أن تحذر من باريس، فإن فيها خطرا على أمثالك. - شكرا لك يا مولاتي على نصحك! - ولست أشاء لك أن تبالغ في ذلك إلى حد يلحقك معه ضرر، وإنما أعني أن باريس بلدة معشوقة السكنى، تحسدها عواصم الدنيا أجمع؛ لكونها أغنى المدن التي تقدمتها في التاريخ، ولكون الذي يأتي إليها تتغير أخلاقه من الحدة إلى اللين، ومن البلادة إلى الظرف والرقة، وينفسح مجال أفكاره، فيجب على الشاب أن يقتصد في معيشته ... قل لي أين ذهبت اليوم؟ - إلى غابة بولونيا. - لم أشك في ذلك ولو قلت إلى مكان آخر لاستغربت هذا الأمر، ولكن هل رأيت عربة هناك بخيل دهم فيها امرأة مكتحلة قليلة الذكاء تسمى ... نعم، إنها ذات مهارة وذوق في اللبس، لكنها قبيحة تتخطر في الغابة ذهابا وإيابا في الليل والنهار؛ لتصطاد رجلا غنيا مثل فركنباك أم شابا جميلا مثلك، وفي باريس من أمثال هذه نساء لا تحصى.
فقال لها فركنباك: مالك وللخطابة دعيها للقسيسين، أو هل تحسبين الإرادة آلة تدور كيف تشائين؟ إن الأم تقول مرارا لولدها إن النار تحرق وذلك لا يمنع الولد من الاقتراب من النار. - ولكن الشاب غير الكهل فهو كالغصن إذا قومته يتقوم. - لا تصدقي ذلك؛ لأن الفطن يطمع في كل شيء مهما كان أليس كذلك يا مكسيم؟
ثم التفت إليها وقال: إن مكسيم شاب حسن الوجه، ظريف المعشر، متين البنية، فهو قادر على عشق أجمل النساء، وعلى اتباع كل سنن العشق «وأظنه عاشقا».
فخجلت وتوردت وجنتاي؛ إذ مرت في فكري حادثة غرام جرت لي مع امرأة في افريه، فلم أنبس ببنت شفة، ثم قمنا عن المائدة فقال لي همسا: لا تلق بالا لما تقول البارونة؛ لأنها تبالغ في النصح، أنحن قديسون أم آلهة؟ وعندما عدنا إلى القاعة أوقدت لفيفة من التبغ المصري، وجعلت تشرب وتنفخ الدخان من فمها وأنفها بتأوه كالعاشق المستجد، ثم ألقتها في النار وهي تضحك، كمن تقول إنها تشرب الدخان على سبيل التسلية، لا على سبيل العادة، فضحك منها البارون وأخرج من جيبه علبة من تبغ هافاني، وقال لي: إني أقتدي بالبارونة في كل شيء.
فدار الحديث بيننا على أمور شتى كالموسيقى، والروايات، والآداب، والمعاني، والبيان، فسرها اطلاعي على تلك الأشياء، وسرها أكثر من ذلك قوة ذكائي، ونزاهة كلامي.
وسألتني عن كتبة الإنكليز، فأخبرتها عن أشهرهم، وعن مؤلفاتهم المعروفة التي ترجمت والتي لم تترجم، ثم قابلت بين كتبة الإنكليز وكتبة الفرنسويين، وتداولت معها مداولة لا يكون أرق منها.
Página desconocida