الحكم، وبحصوله يستحق هذا الوصف. وقد استقرينا أوصافه الخارجة عنه، وأسبابه النابتة منه، فلم نجد شيئَا منها يثبت على النظر، أو يستقيم فى القياس، ويطَّرد على المعايير، فوجب أَن يكون ذلك المعنى مطلوبًا من ذاته، ومستقصىً من جهة نفسه: فدل النظر وشاهد العِبر على أَن السبب له، والعلة فيه أَن أَجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متابينة غير متساوية؛ فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل؛ ومنها الجائز الطلق الرَّسْلُ. وهذه أَقسام الكلام الفاضل المحمود دون النوع الهجين المذموم، الذي لا يوجد فى القرآن شيء منه أَلبتة.
فَالقسم الأول أَعلى طبقات الكلام وأَرفعه، والقسم الثاني أَوسطه وأَقصده، والقسم الثالث أدناه وأَقربه؛ فحازت بلاغاتُ القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصةً، وأَخذت من كل نوع من أنواع شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة. والجزالة والمتانة تعالجان نوعًا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبوّ كل واحد منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسرها الله بلطيف قدرته من أمره ليكون آية بينة لنبيه، ودلالة له على صحة ما دعا إليه من أمر دينه.
وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور: منها أن علمهم لا يحيط
1 / 26