ذخائر العرب (١٦)
ثلاث رسائل
في إعجاز القرآن
للرماني والخطابي وعبد القاهر الجرجاني
في الدراسات القرآنية والنقد الأدبي
حققها وعلق عليها
محمد خلف الله - عميد معهد الدراسات العربية سابقا
دكتور محمد زغلول سلام - أستاذ اللغة العربية وآدابها بجامعة الإسكندرية
الطبعة الثالثة
دار المعارف بمصر
1 / 1
بيان إعجاز القرآن
لأبي سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي
(٣١٩هـ - ٣٨٨)
1 / 19
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليمًا
القول في بيان إعجاز القرآن
قال أبو سليمان: قد أكثر الناس الكلام في هذا الباب قديمًا وحديثًا، وذهبوا فيه كل مذهب من القول، وما وجدناهم بعد صدروا عن رِي، وذلك لتعذر معرفة وجه الإعجاز في القرآن، ومعرفة الأمر في الوقوف على كيفيته. فأما أن يكون قد يقبت في النفوس نقبة بكونه معجزًا للخلق ممتنعًا عليهم الإتيانُ بمثله على حال فلا موضع لها، والأمر في ذلك أبين من أن نحتاج إلى أن ندل عليه بأكثر من الوجود القائم المستمر على وجه الدهر، من لدن عصر نزوله إلى الزمان الراهن الذي نحن فيه. وذلك أن النبي ﷺ قد تحدى العرب قاطبة بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا عنه وانقطعوا دونه. وقد بقى ﷺ يطالبهم به مدة عشرين سنة، مظهرًا لهم النكير، زاريًا على أديانهم، مسفهًا آراءَهم وأحلامهم، حتى نبذوه وناصبوه الحرب فهلكت فيه النفوس، وأُريقت المهج، وقُطعت الأَرحام، وذهبت الأموال.
ولو كان ذلك في وسعهم وتحت أقدارهم لم يتكلفوا هذه الأمور الخطيرة.
1 / 21
ولم يركبوا تلك الفواقر المبيرة، ولم يكونوا تركوا السهل الدمث من القول إلى الحزن الوعر من الفعل، وهذا ما لا يفعله عاقل ولا يختاره ذولب. وقد كان قومه قريش خاصة موصوفين برزانة الأَحلام، ووفارة العقول والألباب. وقد كان فيهم الخطباء المصاقع والشعراء المفلقون. وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بالجدل واللدد فقال سبحانه: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلًا بل هُمْ قومٌ خَصِمون﴾ وقال سبحانه: ﴿وتُنذِرَ بِه قوما لُدَّا﴾. فكيف كان يجوز - على قول العرب ومجرى العادة مع وقوع الحاجة ولزوم الضرورة - أن يغفلوه ولا يهتبلوا الفرصة فيه، وأن يضربوا صفحًا، ولا يحوزوا الفلح والظفر فيه لولا عدم القدرة عليه والعجز المانع منه. ومعلوم أن رجلا عاقلا لو عطش عطشًا شديدا خاف منه الهلاك على نفسه وبحضرته ماء معرض للشرب فلم يشربه حتى هلك عطشَا [لحكمنا] أنه عاجز عن شربه غير قادر عليه. وهذا بين واضح لا يُشكل على عاقل.
قلت: وهذا - من وجوه ما قيل فيه - أبينها دلالة وأيسرها مؤونة. وهو مقنع لمن تنازعه نفسه مطالعة كيفية وجه الإعجاز فيه.
وذهب قوم إلى أن العلة في إعجازه الصرفة، أَي صرف الهمم عن المعارضة، وإن كانت مقدورًا عليها، وغير معجزة عنها؛ إلا أن العائق من حيث كان أمرًا خارجًا عن مجاري العادات صار كسائر المعجزات. فقالوا: ولو كان الله ﷿ بعث نبيًّا في زمان النبوات، وجعل معجزته في تحريك
1 / 22
يد أَو مد رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه، ثم قيل له: ما آيتك؟ فقال آيتي أَن أحرِّك يدي أَو أَمد رجلي، ولا يمكن أَحدًا منكم أن يفعل مثل فعلي، والقوم أصحاء الأَبدان لا آفة بشيءٍ من جوارحهم، فحرك يده أَو مد رجله، فراموا أَن يفعلوا مثل فعله فلم يقدروا عليه، كان ذلك آية دالة على صدقه. وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما ياتى به النبي ولا إلى فخامة منظره، وإنما تعتبر صحتها بأَن تكون أمرًا خارجًا عن مجاري العادات ناقضًا لها، فمهما كانت بهذا الوصف كانت آية دالة على صدق من جاءَ بها، وهذا أيضًا وجه قريب، إلا أن دلالة الآية تشهد بخلافه وهي قوله سبحانه: ﴿قُل لَئِن اجتمعتِ الإِنْسُ والجنُّ عَلَى أَنْ ياتُوا بِمِثْلِ هذا القُرآنِ لا ياتُون بمثلِهِ ولوْ كانَ بعضُهَمْ لبعْضٍ ظَهِيرًا﴾، فأشار في ذلك إلى أَمر طريقه التكلف والاجتهاد، وسبيله التأَهب والاحتشاد. والمعنى في الصرفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة، فدل على أن المراد غيرها، والله أعلم.
وزعمت طائفة أَن إعجازه إنما هو فيما يتضمنه من الإخبار عن الكوائن في مستقبل الزمان نحو قوله سبحانه: ﴿الم. غُلِبَتِ الرومُ في أَدنَى الأَرْض، وهُمْ من بعْدِ غَلَبِهمْ سَيَغْلِبُون، في بِضْعِ سنين﴾، وكقوله سبحانه: ﴿قُل للمخَلَّفين من الأَعرابِ ستُدعَوْنَ إلى قوم أُولي باس شديدٍ، ونحوهما من الأَخبار التي صدقت أقوالها مواقع أَكوانها. قلت: ولا يشك في أَن هذا وما أَشبهه من أَخباره نوع من أَنواع إعجازه، ولكنه ليس بالأَمر العام الموجود في كل سورة من سور القرآن، وقد جعل سبحانه في صفة كل
1 / 23
سورة أن تكون معجزة بنفسها لا يقدر أَحد من الخلق أَن ياتي بمثلها، فقال: ﴿فاتوا بسورة من مِثْلِهِ وادْعوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إن كُنْتُم صَادِقين﴾ من غير تعيين، فدل على أَن المعنى فيه غير ما ذهبوا إليه. وزعم آخرون أَن إعجازه من جهة البلاغة، وهم الأكثرون من علماءِ أَهل النظر، وفي كيفيتها يعرض لهم الإِشكالُ، ويصعب عليهم منه الانفصال، ووجدت عامة أَهل هذه المقالة قد جروا فب تسليم هذه الصفة للقرآن على نوع من التقليد وضرب من غلبة الظن دون التحقيق له وإحاطة العلم به، ولذلك صاروا إذا سئلوا عن تحديد هذه البلاغة التي اختص بها القرآن، الفائقة في وصفها سائر البلاغات، وعن المعنى الذي يتميز به عن سائر أنواع الكلام الموصوف بالبلاغة، قالوا إنه لا يمكننا تصويره ولا تحديده بأَمر ظاهر نعلم به مباينة القرآن غيره من الكلام، وإنما يعرفه العالمون به عند سماعه ضربًا من المعرفة لا يمكن تحديده، وأحالوا على سائر أجناس الكلام الذى يقع منه التفاضل فتقع في نفوس العلماءِ به عند سماعه معرفة ذلك، ويتميز في أَفهامهم قبيل الفاضل من المفضول منه.
قالوا: وقد يخفى سببه عند البحث ويظهر أَثره في النفس حتى لا يلتبس على ذوي العلم والمعرفة به. قالوا: وقد توجد لبعض الكلام عذوبة في السمع وهشاشة في النفس لا توجد مثلها لغيره منه، والكلامان معًا فصيحان، ثم لا يوقف لشيء من ذلك على علة.
قلت: وهذا لا يقنع في مثل هذا العلم، ولا يشفى من داءِ الجهل به،
1 / 24
وإنما هو إشكال أَحيل به على إبهام، وقد تمثل بعضهم في هذا بأَبيات جرير التي نحلها ذا الرُّمة: ذكرت الرواة أن جريرًا مرّ بذي الرمة وقد عمل قصيدته التي أَولها:
نَبتْ عَيْنَاكَ عن طَلَلٍ بحُزْوى ... عَفَتْهُ الريحُ وامتنح القِطَارَا
فقال: أَلا أُنجدك بأَبيات تزيد فيها! فقال: نعم. فقال:
يعدُّ النَّاسِبُونَ بني تَميمٍ ... بيوت المجْد أربَعَةً كِبَارَا
يعدُّون الرَّباب وآل تَيم ... وسعدًا ثم حنْظَلةَ الخِيارا
ويذهب بينها الْمَرْئِي لغوًا ... كما أَلغيتَ فى الدِّية الحُوارا
فوضعها ذو الرمة في قصيدته ثم مرَّ به الفرزدق فسأَله عما أَحدث من الشعر، فأَنشده القصيدة، فلما بلغ هذه الأَبيات قال: ليس هذا من بحرك، مُضيفها أَشدُّ لَحيين منك! قال: فاستدركها بطبعه، وفطن لها بلطف ذهنه.
قلت: فأَما من لم يرض من المعرفة بظاهر السِّمة دون البحث عن باطن العلة، ولم يقنع في الأًمر بأًوائل البرهان حتى يستشهد لها دلائل الامتحان، فإنه يقول إن الذي يوجد لهذا الكلام من العذوبة في حس السامع، والهشاشة في نفسه، وما يتحلى به من الرونق والبهجة التي يباين بها سائر الكلام حتى يكون له هذا الصنيع في القلوب، والتأثير في النفوس، فتصطلح من أجله الأَلْسُن على أنه كلام لا يشبهه كلام، وتَحْصَرُ الأَقوال عن معارضته، وتنقطع به الأَطماع عنها، أَمر لا بد له من سبب، بوجوده يجب له هذا
1 / 25
الحكم، وبحصوله يستحق هذا الوصف. وقد استقرينا أوصافه الخارجة عنه، وأسبابه النابتة منه، فلم نجد شيئَا منها يثبت على النظر، أو يستقيم فى القياس، ويطَّرد على المعايير، فوجب أَن يكون ذلك المعنى مطلوبًا من ذاته، ومستقصىً من جهة نفسه: فدل النظر وشاهد العِبر على أَن السبب له، والعلة فيه أَن أَجناس الكلام مختلفة، ومراتبها في نسبة التبيان متفاوتة، ودرجاتها في البلاغة متابينة غير متساوية؛ فمنها البليغ الرصين الجزل، ومنها الفصيح القريب السهل؛ ومنها الجائز الطلق الرَّسْلُ. وهذه أَقسام الكلام الفاضل المحمود دون النوع الهجين المذموم، الذي لا يوجد فى القرآن شيء منه أَلبتة.
فَالقسم الأول أَعلى طبقات الكلام وأَرفعه، والقسم الثاني أَوسطه وأَقصده، والقسم الثالث أدناه وأَقربه؛ فحازت بلاغاتُ القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصةً، وأَخذت من كل نوع من أنواع شعبة، فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة، وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة. والجزالة والمتانة تعالجان نوعًا من الوعورة، فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبوّ كل واحد منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن، يسرها الله بلطيف قدرته من أمره ليكون آية بينة لنبيه، ودلالة له على صحة ما دعا إليه من أمر دينه.
وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور: منها أن علمهم لا يحيط
1 / 26
بجميع أسماءِ اللغة العربية [وبألفاظها] التى هى ظروف المعانى والحوامل لها، ولا تدرك أَفهامهم جميع معاني الأَشياء المحمولة على تلك الأَلفاظ، ولا تكمل معرفتهم لاستيفاء جميع وجوه النظوم التى يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض، فيتوصلوا باختيار الأَفضل عن الأَحسن من وجوهها إلى أن ياتوا بكلام مثله، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة: لفظ حامل، ومعنى به قائم، ورباط لهما ناظم. وإذا تأَملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئًا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه، ولا ترى نظمًا أحسن تأليفًا وأشد تلاؤمًا وتشاكلًا من نظمه. وأما المعاني فلا خفاءَ على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها العقول بالتقدم في أبوابها. والترقي إلى أعلى درجات الفضل من نعوتها وصفاتها.
وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام، فأَما أَن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير، الذي أحاط بكل شيء علمًا، وأحصى كل شيء عددًا.
فتفهم الآن واعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأَنه جاءَ بأَفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصح المعاني، من توحيد له عزت قدرته، وتنزيه له فى صفاته، ودعاء إلى طاعته، وبيان بمنهاج عبادته؛ من تحليل وتحريم، وحضر وإباحة، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق، وزجر عن مساوئها، واضعًا كل شيءٍ منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه، ولا يرى في صورة العقل أمر أليق
1 / 27
منه، مودعًا أخبار القرون الماضية وما نزل من مَثُلات الله بمن عصى وعاند منهم، منبئًا عن الكوائن المستقبلة في الأَعصار الباقية من الزمان، جامعًا في ذلك بين الحجة والمحتج له، والدليل والمدلول عليه، ليكون ذلك أوكد للزوم مادعا إليه، وإنباء عن وجوب ما أمر به، ونهى عنه.
ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور، والجمع بين شتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قُوى البشر، ولا تبلغه قدَرهم، فانقطع الخلق دونه، وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته فى شكله. ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه كلامًا منظومًا، ومرة سحر إذ رأوه معجوزًا عنه، غير مقدور عليه، وقد كانوا يجدون له وقعًا في القلوب وقرعًا فى النفوس يُريبهم ويحيرهم، فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعًا من الاعتراف. ولذلك قال قائلهم: إن له حلاوة وإن عليه طلاوة. وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون: ﴿أساطير الأولين اكْتَتَبها فَهى تُمْلَى عليه بُكرةً وأصِيلاَ﴾ مع علمهم أن صاحبه أميُّ وليس بحضرته من يملي أو يكتب، في نحو ذلك من الأمور التي جماعها الجهل والعجز، وقد حكى الله جل وعز عن بعض مردتهم وشياطينهم - ويقال هو الوليد بن المغيرة المخزومي - أنه لما طال فكره في أمر القرآن، وكثر ضجره منه، وضرب له الأخماس من رأيه فى الأسداس، لم يقدر على أكثر من قوله: ﴿إن هذا إلَّا قولُ البَشَرْ﴾ عنادًا للحق وجهلًا به، وذهابًا عن الحجة وانقطاعًا دونها، وقد وصف ذلك من حاله وشدة حيرته فقال سبحانه: ﴿إنه فكَّرَ وقدَّر، فقُتل كيف قدَّرَ، ثم قُتِل كيف قَدَّر. ثم نَظَر. ثم عَبَس وبسَر. ثم أدبر واسْتكبَر. فقال إن هذا إلا سحر يُؤْثَر. إنْ هذا إلَّا قولُ البشَر﴾.
1 / 28
وكيفما كانت الحال ودارت القصة، فقد حصل باعترافهم قولًا، وانقطاعهم عن معارضته فعلًا أنه معجز، وفي ذلك قيام الحجة وثبوت المعجزة، والحمدلله.
ثم اعلم أن عمود هذه البلاغة التي تجمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به، الذي إذا أُبدل مكانه غيره جاء منه: إما تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكلام، وإما ذهاب الرونق الذى يكون معه سقوط البلاغة، ذلك أن فى الكلام ألفاظًا متقاربة في المعاني يحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب؛ كالعلم والمعرفة، والحمد والشكر، والبخل والشح، وكالنعت والصفة، وكقولك: اقعد والجلس، وبَلَى ونعم، وذلك وذاك، ومن وعن، ونحوهما من الأسماء والأفعال والحروف والصفات مما سنذكر تفصيله فيما بعد، والأمر فيها وفي ترتيبها عند علماء أهل اللغة بخلاف ذلك، لأن كل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها وإن كانا قد يشتركان في بعضها. تقول: عرفت. يقتضى مفعولًا واحدًا كقولك: عرفت زيدًا، وعلمت يقتضى مفعولين، كقولك: علمت زيدًا عاقلًا ولذلك صارت المعرفة تستعمل خصوصًا في توحيد الله تعالى وإثبات ذاته، فتقول عرفت الله، ولا تقول علمت الله، إلا أن تضيف إليه صفة من الصفات فتقول: علمت الله عدلًا، وعلمته قادرًا، ونحو ذلك من الصفات. وحقيقة
1 / 29
البيان أن العلم ضده الجهل، والمعرفة ضدها النكرة. والحمد والشكر قد يشتركان أيضًا، والحمد لله على نعمة أي الشكر لله عليها، ثم قد يتميز الشكر عن الحمد في أشياءَ؛ فيكون الحمد ابتداءً بمعنى الثناء، ولا يكون الشكر إلا على الجزاء. تقول: حمدت زيدًا إذا أثنيت عليه فى أخلاقه ومذاهبه وإن لم يكن سبق إليك منه معروف. وشكرت زيدًا إذا أردت جزاءَه على معروف أسداه إليك، ثم قد يكون الشكر قولًا كالحمد، ويكون فعلًا كقوله جل وعز: ﴿اعملوا آل داوود شكرًا﴾. وإذا أردت أن تتبين حقيقة الفرق بينهما اعتبرت كل واحد منهما بضده. وذلك أن ضد الحمد الذم، وضد الشكر الكفران. وقد يكون الحمد على المحبوب والمكروه، ولا يكون الشكر إلا على المحبوب.
وأما الشح والبخل فقد زعم بعضهم أن البخل منع الحق، وهو الظلم والشح ما يجده الشحيح في نفسه من الحزازة عند أداءِ الحق وإخراجه من يده. قال: ولذلك قيل: " الشحيح أعذر من الظالم ". قلت: وقد وجدت هذا المعنى على العكس مما روى عن ابن مسعود: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك قال: نا عمر بن حفص السدوسي قال: نا المسعودي عن جامع بن شداد عن أبى الشعثاء قال: قلت لعبد الله بن مسعود. يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت، قال: ولم ذاك؟ قلت: لأني سمعت الله يقول: ﴿ومَنْ يُوقَ شُحَّ نفسِه فأُولئك هُمُ المفْلِحُون﴾. وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يدي شيء. قال: ليس ذاك الشح الذي ذكره الله في
1 / 30
القرآن ولكن الشح أن تأكل مال أخيك ظلما، ولكن ذاك البخل، وبئس الشيء البخل.
وأما النعت والصفة، فإن الصفة أعم والنعت أخص، وذلك أنك تقول: زيد عاقل وحليم، وعمروا جاهل وسفيه، وكذلك تقول: زيد أسود ودميم، وعمروا أبيض وجميل، فيكون ذلك صفة ونعتًا لهما وأما النعت فلا يكاد يطلق إلا فيما لا يزول ولا يتبدل، كالطول والقصر والسواد والبياض ونحوهما من الأمور اللازمة.
وأما قول القائل لصاحبه: اقعد واجلس، فقد حكى لنا النضر بن شميل أنه دخل على المأمون عند مقدمه من مرو، فمثل بين يديه وسلم؛ فقال له المأمون اجلس، فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا بمضطجع فأجلس، قال: فكيف تقول؟ قال: قل اقعد. فأمر له بجائزة.
قلت: وبيان ما قاله النضر بن شميل إنما يصح إذا اعتبرت إحدى الصفتين بالأخرى عن المقابلة، فقتول: القيام والقعود كما تقول: الحركة والسكون، ولا نسمعهم يقولون القيام والجلوس وإنما يقال قعد الرجل عن قيام، وجلس عن ضجعة واستلقاء، ونحو ذلك.
وأما قولك: بلى ونعم؛ فإن بلى جواب عن استفهام بحرف النفي كقول القائل: ألم تفعل كذا؟، فيقول صاحبه: بلى، كقوله ﷿: ﴿ألست بربكم قالوا بلى﴾. وأما نعم فهو جواب عن الاستفهام نحول هل كقوله سبحانه: ﴿هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا قالوا نعم﴾.
1 / 31
وقال الفراء: بلى لا يكون إلا جوابًا عن مسألة يدخلها طرف من الجحد. وحكى عنه أنه قال: لو قالت الذرية عندما قيل لهم ألست بربكم، نعم، بدل قولهم بلى لكفروا كلهم.
وأما قولك: ذاك وذلك فإن الإشارة بذلك إنما تقع إلى الشيء القريب منك، وذلك إنما يستعمل فيما كان متراخيًا عنك.
وأما من وعن فإنهما يفترقان في مواضع كقولك: أخذت منه مالا، وأخذت عنه علمًا، فإذا قلت: سمعت منه كلامًا أردت سماعه من فيه، وإذا قلت سمعت عنه حديثًا كان ذلك عن بلاغ، وهذا على ظاهر الكلام وغالبه. وقد يتعارفان في مواضع من الكلام. ومما يدخل في هذا الباب ما حدثني محمد بن سعدويه قال: حدثني محمد بن عبد الله بن الجنيد قال: حدثني محمد بن النضر بن مساور قال: حدثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال: جمعنا الحسن لعرض المصاحف أنا وأبا العالية الرياحي ونصر بن عاصم الليثي وعاصمًا الجحدري؛ فقال رجل يا أبا العالية قول الله في كتابه: ﴿فويلٌ للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون﴾ ما هذا السهو؟، قال الذي لا يدري عن كم ينصرف؛ عن شفع أو عن وتر، فقال الحسن: مه يا أبا العالية ليس هذا بل الذين سهوا عن ميقاتهم حتى تفوتهم. قال الحسن: ألا ترى قوله ﷿: (عن صلاتهم)، وناه أبو رجاء الغنوي، نا محمد بن الجهم السجزي،. نا الهيثم بن خالد المنقري
1 / 32
عن أبي عكرمة عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار نحوه. قلت: وإنما أتى أبو العالية في هذا حديث لم يفرق بين حرف عن وفي، فتنبه له الحسن فقال: ألا ترى قوله: ﴿عن صلاتهم﴾ يؤيد أن السهو الذي هو الغلط في العدد إنما هو يعرض في الصلاة بعد ملابستها، فلو كان هو المراد لقيل: في صلاتهم ساهون، فلما قال عن صلاتهم دل على أن المراد به الذهاب عن الوقت. ونظير هذا ما قاله القُتَبي في قوله تعالى: ﴿ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين﴾ زعم أنه من قوله: عشوت إلى النار أعشو إذا نظرت إليها. فغلَّطوه في ذلك وقالوا: إنما معنى قوله: من يعرض عن ذكر الرحمن، ولم يفرق بين عشوت إلى الشيء وعشوت عنه - وهذا الباب عظيم الخطر، وكثيرًا ما يعرض فيه الغلط، وقديمًا عني به العربي الصريح - فلم يحسن ترتيبه وتنزيله.
حدثني عبد العزيز بن محمد المسكني قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم قال حدثني سويد نا ابن المبارك عن عيسى بن عبدالرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب أن أعرابيًا جاء النبي ﷺ فقال: علمني عملًا يدخلني الجنة فقال: اعتق النسمة وفك الرقبة قال: أوليسا واحدًا؟. قال: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها. فتأمل كيف رتب الكلامين
1 / 33
واقتضى من كل واحد منهما أخص البيانين فيما وضع له من المعنى وضمنه من المراد. وحدثني عبد الله بن أسباط عن شيوخه قال جمع هارون الرشيد سيبوبه والكسائي فألقى سيبويه على الكسائي مسألة فقال: هل يجوز قول القائل: كاد الزنبور يكون العقرب فكأنه إياها أو كأنها إياه؟ فجزوه الكسائي على معنى كأنه هي أو كأنها هو، وأباه سيبويه، فأحضر الرشيد جماعة من الأعراب الفصحاء كانوا مقيمين بالباب وسألهم عنها بحضرتهما فصوبوا قول سيبويه ولم يجوزوا ما قاله الكسائي، قيل وذلك أن حرف (إيَّا) إنما يستعمل في موضع النصب، وهي هنا في موضع رفع فلم يجز. ومثل هذا كثير واستقصاؤه يطول.
قلت: ومن هاهنا تهيب كثير من السلف تفسير القرآن، وتركوا القول فيه حذرًا أن يزلوا فيذهبوا عن المراد، وإن كانوا علماء باللسان، فقهاء في الدين؛ فكان الأصمعي - وهو إمام أهل اللغة - لا يفسر شيئًا من غريب القرآن. وحكي عنه أنه سئل عن قوله سبحانه: ﴿قد شغفها حبًا﴾ فسكت وقال: هذا في القرآن، ثم ذكر قولًا لبعض العرب في جارية لقوم أرادوا بيعها: أتبيعونها وهي لكم شغاف؟. ولم يزد على ذلك، أو نحو هذا الكلام.
قلت: ولهذا ما حث النبي ﷺ على تعلم إعراب القرآن وطلب معاني الغريب منه. نا إسماعيل بن محمد الصفار قال: حدثني محمد بن وهب الثقفي، قال حدثني محمد بن سهل العسكري قال حدثني ابن أبي زائدة عن عبدالله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: " أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه ".
1 / 34
قلت: فإذا عرفت هذه الأصول تبينت أن القوم إنما كاعوا وجبنوا عن معارضة القرآن لما قد كان يئودهم ويتصعدهم منه، وقد كانوا بطباعهم يتبينون مواضع تلك الأمور ويعرفون ما يلزمهم من شروطها ومن العهدة فيها، ويعلمون أنهم لا يبلغون شأوها، فتركوا المعارضة لعجزهم، وأقبلوا على المحاربة لجهلهم، فكان حظهم مما فروا إليه حظهم مما فزعوا منه ﴿فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين﴾ والحمد لله رب العالمين.
فإن قيل: إنا إذا تلونا القرآن وتأملناه وجدنا معظم كلامه مبينًا ومؤلفًا من ألفاظ مبتذلة في خطابات العرب المستعملة في محاوراتهم، وحظ الغريب المشكل منه بالإضافة إلى الكثير من واضحه قليل، وعدد الفقر والغرر من ألفاظه بالقياس إلى مباذله ومراسيله عدد يسير، فكيف يتوهم عليهم العجز عن معارضته والإتيان بمثله، وهم عرب فصحاء مقتدرون على التصرف في أودية الكلام، عارفون بنظومه. قصيده ورجزه وسجعه، وسائر فنونه، فلو كانوا أرادوه وقنعوا عن شفاء الأنفس به لسهل ذلك عليهم، وإنما عاقهم عن ذلك رأي آخر كان أقوى في نفوسهم وأجدى عليهم في مبلغ آرائهم وعقولهم، وهو مناجزتهم إياه الحرب ومعالجته بالإهلاك استراحة إلى الخلاص منه، وكراهة لمطاولته على القول ومعارضته بالكلام الذي يقتضي الجواب، فيتمادى بهم الزمان للنظر فيه والانتقاد له، فتكثر الدعاوى، ويخفى موضع الفضل بين الكلامين، فمالوا إلى هذا الرأي قصدًا إلى اجتياحه واستئصاله، إذ كانوا فيما يرونه مستظهرين عليه مستعلين بالقدرة فوقه.
قيل: إنا قدمنا من بيان أوصاف بلاغة القرآن وذكرنا من شرائطها ما أسقطنا به عن أنفسنا هذا السؤال. وزعمنا أنها أمور لا تجتمع لأحد من
1 / 35
البشر ولا يجوز أن تأتي عليها قدرته، وإن كان أفصح الناس وأعرفهم بطرق الكلام وأساليب فنون البيان، وذكرنا العلة في ذلك، وبينا المعنى فيه، ولم نقتصر فيما اعتمدناه من البلاغة لإعجاز القرآن على مفرد الألفاظ التي منها يتركب الكلام دون ما يتضمنه من ودائعه التي هي معانيه، وملابسه التي هي نظوم تأليفه.
وقد قال بعض العلماء في الأسماء اللغوية وهي نوع واحد من الأنواع الثلاثة التي شرطنا أنه لا يجوز أن يحيط بها كلها إلا نبي؛ وقد كان عمر ابن الخطاب ﵁ وهو من الفصاحة في ذروة السنام والغارب - يقرأ قوله ﷿: ﴿وفاكهة وأبَّا﴾ فلا يعرفه فيراجع نفسه ويقول: ما الأبّ؟ ثم يقول: إن هذا تكلف منك يا ابن الخطاب. وكان ابن عباس ﵀ وهو ترجمان القرآن ووارث علمه - يقول: لا أعرف حنانًا ولا غسلين ولا الرقيم. هل في اللغة التفث في شيء من كلام العرب؟ وإنما أخذوه عن أهل التفسير على ما عقلوه من مراد الخطاب.
فأما المعاني التي تحملها الألفاظ فالأمر في معاناتها أشد لأنها نتائج العقول وولائد الأفهام وبنات الأفكار.
وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني وبه تنتظم أجزاء الكلام، ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان.
1 / 36
وإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفناه فقد علم أنه ليس المفرد بذَرَبِ اللسان وطلاقته كافيًا لهذا الشأن، ولا كل من أوتي حظًا من بديهة وعارضة كان ناهضًا بحمله ومضطلعًا بعبئه ما لم يجمع إليها سائر الشرائط التي ذكرناها على الوجه الذي حددناه، وأنى لهم ذلك ومن لهم به؟ و﴿لئن اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضِ ظهيرًا﴾.
وأما ما ذكروه من قلة الغريب في ألفاظ القرآن بالإضافة إلى الواضح منها، فليست الغرابة مما شرطناه في حدود البلاغة، وإنما يكثر وحشي الغريب في كلام الأوحاش من الناس، والأجلاف من جفاة العرب، الذي يذهبون مذهب العنجهية، ولا يعرفون تقطيع الكلام وتنزيله والتخير له، وليس ذلك معدودًا في النوع الأفضل من أنواعه. وإنما المختار منه النمط الأقصد الذي جاء به القرآن، وهو الذي جمع البلاغة والفخامة إلى العذوبة والسهولة. وقد يعد من ألفاظ الغريب في نعوت الطويل نحو من ستين لفظة أكثرها بشع شنع. كالعشنَّق، والعَشَنَّط، والعطنَّط، والشوقب والشوذب والسلهب، والقوق، والقاق، والطوط والطاط. فاصطلح أهل البلاغة على نبذها وترك استعمالها في مرسل الكلام، واستَثْقَلوا الطويل. وهذا يدلك على أن البلاغة لا تعبأُ بالغرابة ولا تعمل بها شيئَا.
فإن قيل: إنا لا نسلم لكم ما ادعيتموه من أن العبارات الواقعة في
1 / 37
القرآن إنما وقعت في أفصح وجوه البيان وأحسنها، لوجودنا أشياء منها بخلاف هذا الوصف عند أصحاب اللغة وأهل المعرفة بها كقوله: ﴿فأكله الذئب﴾ وإنما يستعمل مثل هذا في فعل السباع خصوصًا "الافتراس"، يقال: افترسه السَّبُعُ. هذا هو المختار الفصيح في معناه، فأما الأكل فهو عام لا يختص به نوع من الحيوان دون نوع. وكقوله: ﴿ذلك كيل يسير﴾ قالوا: وما اليسير والعسير من الكيل والاكتيال، وما وجه اختصاصه بهذه وأنت لا تسمع فصيحًا يقول: كِلت لزيد كيلًا يسيرًا إلا أن يعني به أنه يسير العدد والكمية. وكقوله ﴿وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم﴾، والمشي في هذا ليس بأبلغ الكلام، ولو قيل بدل ذلك أن امضوا وانطلقوا لكان أبلغ وأحسن. وكقوله: ﴿هلك عني سلطانية﴾ وإنما يستعمل لفظ الهلاك في الأعيان والأشخاص كقوله: هلك زيد، وهلك مال عمرو ونحوهما، فأما الأمور التي هي معان وليست بأعيان ولا أشخاص فلا يكادون يستعملونه فيها. ولو قال قائل: هلك عن فلان علمه أو هلك جاهه على معنى ذهب علمه وجاهه لكان مستقبحًا غير مستحسن. وكقوله سبحانه: ﴿وإنه لحب الخير لشديد﴾ وأنت لا تسمع فصيحًا يقول: أنا لحب زيد شديد، وإنما وجه الكلام وصحته أن يقال: أنا شديد الحب لزيد، وللمال ونحوه. وكقوله سبحانه: ﴿والذين هم للزكاة فاعلون﴾ ولا يقول أحد من الناس: فعل زيد الزكاة، إنما يقال: زكى الرجل ماله، وأدى زكاة ماله، أو نحو ذلك من الكلام، وكقوله سبحانه: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وُدًا﴾، ومن الذي يقول:
1 / 38