Lo que queda del tiempo es una hora
الباقي من الزمن ساعة
Géneros
وجاء سليمان بهجت في زيارة طوارئ. كان يزورهم من حين لآخر وظلت علاقته بابنيه ودية وسلبية معا، أما منيرة فكانت تعامله معاملة رسمية. استمع لخواطرهم عن الحرب ثم قال بنبرة العالم ببواطن الأمور: لا داعي للقلق ألبتة، وفي اعتقادي أنه لن تقوم حرب.
ثم بعد هنيهة صمت: ولكن مبالغة في الحيطة أود أن تقيموا معنا هذه الأيام في الزمالك فهي آمن من العباسية!
فقالت منيرة بهدوء وبرود: لك الشكر، لكننا لا ننوي هجر مسكننا ولا نجد ضرورة لذلك.
فلم يضايقها بإلحاحه، ولعله لم يتوقع قبولا من الأصل، وقال: روح البلد عالية جدا!
فسأله أمين: ألسنا أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط؟
فأجاب بيقين: هذا مفروغ منه، ولكني لا أتوقع حربا على الإطلاق!
وقضي الأمر. في الساعة التاسعة من صباح الاثنين 5 يونيو 1967 دوت صفارة الإنذار وقضي الأمر. بدا كل شيء هادئا في القاهرة عدا جموع تجمهرت حول الراديو تتلقى أنباء عن انتصارات وطنية خارقة! وتابعت منيرة الأنباء فازدادت قلقا، وساءلت نفسها: ما لنا لا نسمع عن هجوم؟!
ومرق محمد وألفت إلى محطة لندن وصوت أمريكا فدهمتهما أخبار أخرى، وتساءلت ألفت: ماذا يجري؟ .. أتصدق هذا؟!
فقال محمد وعواطف متضاربة تتنازع قلبه: أصدقه تماما، ما هو إلا بناء من الورق يقوم على الكفر والفساد!
وأخيرا أعلن عن بيان سيذيعه الرئيس على الشعب. استقر الكبار في البيوت وانتشر الشباب في الشوارع والمقاهي. انتظر الجميع - ملهوفين - البيان متوترين بانفعالات محتدمة. منقبة أعينهم في الظلمات عن بارقة أمل؛ أليس ثمة رابطة وثيقة بين لسان الرئيس والأمل؟ أجل إنه لا ينطق إلا مرسلا باقات من الآمال المنعشة. لكنه - ذلك المساء - طالعهم بوجه جديد، وصوت جديد، وروح جديدة. اندثر رجل وحل محله رجل آخر؛ رجل آخر يحدث عن نكسة، يشهر إفلاسا، يندب حظا، يحني قامته العملاقة لواقع صارم عار عن الأحلام والأمجاد، ويلتمس مخرجا بائسا في التنحي، مخليا مكانه الشامخ المتهدم لخليفة أراد له أن يرث تركته المثقلة باللامعقول والعار. خرقت الحقيقة الوحشية القلوب الملتاعة وتردت بأصحابها إلى قاع الهاوية؛ فاندفعت دموع من الأعماق الجريحة إلى الأبصار الزائغة؛ بكت سنية وكوثر أيضا بكت، بكت ألفت وسهام على حين تحجرت عين محمد، أما منيرة فغشيها بكاء طويل. واندفع شفيق وأمين وعلي وعزيز في طوفان الجموع الصاخبة الغاضبة المحتجة يخوضون ظلاما دامسا، يتحدى صراخهم أزيز الطيارات وطلقات المدافع المضادة، وتطالب بالتنحي عن التنحي. وتتابعت أيام محمومة جنونية مليئة بالانفعالات والتحرشات والاعتقالات والانتحار . وبقي الرئيس وانتحر القائد، وفرغ الناس من متابعة الأحداث السياسية ليفتحوا قلوبهم لهلوسة تاريخية فريدة وليشاركوا بلذة جنونية معذبة في حفلة زار عصرية شاملة. ماذا حصل؟ كيف حصل؟ لماذا حصل؟ وأمطرت السماء شائعات، وسخريات، ونكاتا، ونوادر، ودموعا. وتفشت أعراض مرض مجهول، فبدا وكأنه لا شفاء منه. وشهد اجتماع الأسرة جميع الأجيال كالماضي البعيد. بدا الكبار محزونين والصغار حيارى مبهوتين. وحزنت سنية لنفسها كما حزنت لأولادها وأحفادها، تذكرت حلمها الكئيب، تذكرت حامد برهان وجهاده الصغير الذي عاش تياها به، استرقت إلى محمد نظرة إشفاق، رنت إلى الأحفاد بشوق وعطف، وأصغت إلى صوت خفي تردد في أعماقها يطالبها بأن تيئس تماما من تجديد بيتها وحديقته. من يفكر في هذا الترف وهو في جوف النيران المؤججة؟ وتمتمت: يا لها من أحزان!
Página desconocida