Lo que queda del tiempo es una hora
الباقي من الزمن ساعة
Géneros
الباقي من الزمن ساعة
الباقي من الزمن ساعة
الباقي من الزمن ساعة
الباقي من الزمن ساعة
تأليف
نجيب محفوظ
الباقي من الزمن ساعة
للصورة التذكارية تعود كلما نبض قلبها بالحنين. حجرة المعيشة تزدان جدرانها الخضراء بثلاث لوحات في أطر مموهة بالذهب. البسملة في الصدر، الشهادة الابتدائية القديمة بالجناح الأيمن، صورة الرحلة التذكارية بالجناح الأيسر. نسيت أشياء وأشياء ولكنها لم تنس عام 1936 تاريخ الصورة، ففي ذلك التاريخ كتب الخلود للحظة زمانية من تاريخ أسرتها وهي تمرح فوق كليم مفروش فوق الأعشاب بحديقة القناطر الخيرية. في الوسط جلس حامد برهان رب الأسرة، ممدود الساقين، ممتلئا بالعافية، بدينا، وسيم الوجه ذا سمرة عميقة، وإلى يمينه جلست هي - سنية المهدي - متربعة مغطية حجرها وساقيها بشال عريض متألقة الوجه بملامحها الدقيقة الصغيرة، أما إلى يساره فجلست كوثر البكرية، بجمالها المتواضع ونظرتها الوديعة، يليها محمد في الجلسة كما يليها في العمر، مثل أبيه في التكوين والشكل، تليه منيرة بجمالها الفائق ونظرتها المتوهجة. كان الأب في الخمسين والأم في الأربعين والإخوة يناهزون البلوغ، وكان الجميع يبتسمون، تحبو فوق وجوههم فرحة الرحلة والسلام، وبين أيديهم تقوم قوارير المياه الغازية وأطباق ورقية ملئت بالسندوتشات والموز والبرتقال، على حين نهضت في الخلفية هضبة متدرجة معشوشبة وأشجار منثورة، تنطلق فيما وراءها منارات القناطر وجماعات من المتنزهين. تجللتها - الصورة - عذوبة شاملة ولم يظهر فيها أثر للزمن. غير أن الزمن لم يتوقف لحظة واحدة خارج الصورة، ومن ضمن ما قضى به ألا يبقى في بيت الأسرة اليوم إلا مالكته سنية المهدي وكبرى ذريتها كوثر. وهو بيت فسيح، مكون من دور واحد يعلو فوق الأرض بدرجات خمس، وحديقته تمتد من جانبه الجنوبي، مساحتها نصف فدان، تغنت عهدا بالازدهار، وكابدت عهودا من الاضمحلال والوحشة. وضخامة البيت والحديقة أثر من آثار حلوان القديمة، الرخيصة النائية، المغموسة في السكينة والتأمل، التياهة بمياهها المعدنية وحماماتها الكبريتية وحديقتها اليابانية، مصحة الأعصاب المتوترة والمفاصل المتوعكة والصدور المتهرئة والعزلة الغافية. وجميع الدور بشارع ابن حوقل متشابهة - ما عدا البيت المواجه لبيت الأسرة الذي بيع في أثناء الحرب العظمى الثانية لتشيد مكانه عمارة جديدة - ولكن بيت المهدية يتميز بطلائه الأخضر، وهو طلاء أغلب حجراته ذوات الأسقف العالية، وهو لون أغطية المقاعد بحجرة المعيشة، والإصرار عليه يعكس ولع المرأة به، ويشير أيضا إلى ولعها بالبيت نفسه الذي وثقت بينهما محبة خلقت للأبناء والأحفاد مشكلة تعذر حلها في حينها. ومشيد البيت أبوها عبد الله المهدي، وكان في آخر أطوار حياته فلاحا من الملاك المتوسطين، ولما اجتاحه الروماتزم نصح بالإقامة في حلوان مدينة الصحة والجفاف؛ فابتاع أرضا وأقام البيت تاركا أرضه لابنه البكري، مهاجرا بزوجته ووليدته سنية، ووزع الرجل أملاكه بالتراضي بين ابنه وابنته جاعلا البيت في حصتها فلعب دورا ذا شأن في حياتها؛ إذ نوهت به الخاطبة وهي تزكي سنية عند أم حامد برهان فكان ضمن مغريات اختيارها. لكن سنية كانت على درجة من الوسامة المقبولة، ونالت أيضا الابتدائية، واعترف لها بالذكاء وبأنها كانت خليقة بإتمام تعليمها لولا إصرار الأب على حجبها. وكم حزنت لقراره! وكم سفحت من دموع احتجاجا عليه! ولذلك، فرغم مهمتها كربة بيت وأم، واظبت على قراءة الصحف والمجلات ووسعت مداركها حتى بلغت درجة من النضج غير معهودة سندت بها حدسها الروحي وأحلامها العجيبة. ولعلها كانت المرأة الوحيدة في شارع ابن حوقل التي تمسك دفتر حسابات لميزانية الأسرة، كما كانت ترسل أخاها بالخطابات المطولة، ربما رغبة في التعبير وإثباتا لقدرتها عليه. وعلى حبها القديم العميق لزوجها حامد برهان شعرت في أعماقها بتفوقها عليه، ذكاء وعقلا، فضلا عن أنه لم يحصل إلا على الابتدائية وإن التحق بعد ذلك بمدرسة التلغراف وتخرج فيها. يضاف إلى ذلك أنه لا يعرف عن سلسلته العائلية إلا جدا واحدا ولا يكاد يعرف عنه أكثر من اسمه، أما هي فتعرف كثرة من الجدود وإن لم تشر إليهم إلا إشارات عابرة وفي مناسبات نادرة. وكبر حظ جدها لأبيها من الذكر بسبب نقطة التحول التي أحدثها في حياته عندما دخل الإسلام بعدما كان قبطيا من صلب أقباط، وفي ذلك قالت سنية ذات يوم لحامد برهان ضاحكة: تاريخي غير راكد.
وكان حامد برهان - مثل زوجه - محبا للفخر؛ فجرى وراء المتاح من أسبابه في حياته البسيطة المتواضعة، ملحا على إثبات رجولته، ودون إغفال للحقيقة الساطعة وهي أنها مالكة البيت، وأنها مدبرته الحكيمة، وأنها مربية الأبناء الرشيدة الواعية، فضلا عن أنها خالقة الجو السعيد الذي نعم به طويلا. ومن آي حبه للفخر أيضا حومانه المصر حول الإنجاز السياسي الوحيد في حياته، وهو تحريضه على إضراب الموظفين في مطلع ثورة 1919؛ فهو يرويه بتفاصيله كلما سنحت فرصة، علما بأنه الفعل الوحيد في حياته السياسية التي لم يبق له منها سوى حب قلبي عميق للوفد لا يتجلى بصورة عملية إلا في الظروف النادرة التي يسمح فيها بإجراء انتخابات حرة بين الأحزاب. وكان زوجا مثاليا في أكثر من ناحية، فهو مولع بزوجه وأبنائه، وهو فحل في الرجال، وهو بريء من الأدواء التي تتطفل على ميزانية موظف صغير مثله؛ فلا يسكر ولا يدخن ولا يفسق بعينيه، حتى سهرته يمضيها مع إخوانه في حجرة الاستقبال شتاء أو الفراندا بقية العام، وهم من أهل حلوان مثله؛ جعفر إبراهيم ناظر على المعاش، خليل الدرس وكيل أعمال الوجيه نعمان الرشيدي، حسن علما مهندس مبان، راضي أبو العزم مدرس علوم. تنطوي لياليهم في السمر ولعب الطاولة وحديث السياسة مرددين نغمة واحدة صادرة عن لحن وفدي أصيل؛ فلا نزاع ولا خصام. وعرف حامد برهان بالنظافة والأناقة والتدين السمح اليسير الذي يعبق به جو الأسرة. وجبر الله خاطر الوالدين بمحمد ومنيرة فشقا طريقهما في التعليم بنجاح واعد، خاصة منيرة التي اختصت بالذكاء والجمال معا، إلا أن كوثر تمخضت عن مشكلة مثيرة للقلق، فهي لم تظهر ميلا للتعليم ولا توفيقا فيه، وانجذبت بطبعها نحو التدين وشئون البيت، فاضطرت إلى ملازمة البيت بعد سقوط عامين متتاليين في المرحلة الثانوية، يومها قالت سنية لحامد: ست البيت غير مطلوبة في هذا الزمان.
وتذكر الرجل حظها المتواضع من الجمال فغلبه الأسى، ولكنه قال: يوجد أيضا الحظ وهو لا قانون له !
Página desconocida
وكان للأسرة حياتها الاجتماعية المشتركة، تجد في الرحلة سرورها، فيوم للحديقة اليابانية، ويوم للقناطر الخيرية، ويوم لدار الآثار، رغم أنها كانت أيام أزمة عالمية طاحنة، غير أن الموظفين ذوي المرتبات الثابتة وجدوا يسرا في ظل الكساد وهبوط الأسعار؛ فاقتلعت العاصفة الهوجاء كل قائم، ولاذت الأعشاب بالأمان فمرحت وهزجت بالأغاني. وكان حامد برهان يمضي بأسرته دون حجاب، غير مبال بالقيل والقال، فلم يمل إلى التزمت أبدا، وكانت وراءه امرأة تحسن التربية، وتعطي مثالا في أداء الفرائض والسلوك الطيب. وتمضي الأيام فلا يتقدم أحد لطلب يد كوثر وهي الوحيدة التي لا غاية لها إلا الزواج. وتبسط سنية راحتيها بالدعاء عقب كل صلاة، أو يتهلل وجهها بالبشر أحيانا وهي تقول لحامد: رأيت حلما سيكون له شأن!
أو تكلف أم سيد بقراءة الفنجان وتصغي إلى تأويلاتها الوردية؛ فينتعش حامد بالأمل يهدهد همه المطارد. وما يلبث أن ينسى همه إلى حين وهو يتابع أنباء المظاهرات، والصراع حول دستور 1923، والسعي نحو إيجاد وحدة قومية لمواجهة الموقف. ويتمخض الجهد والدم عن حدث غير عادي فتعقد معاهدة 1936. ليلتها ثمل حامد برهان بالنصر وقال للسمار: كلل جهاد الوفد أخيرا بالفوز المبين. •••
أجل كان ثمة آراء معارضة رددها الأستاذ راضي أبو العزم مدرس العلوم معتذرا بقوله «ناقل الكفر ليس بكافر.» وكانت وردت قبل ذلك على لسان محمد ومنيرة نقلا عما يسمعان في المدرسة. غير أنه لم يكن لها أثر يذكر في الأسرة؛ فسنية وفدية مثل زوجها ومحمد وفدي أيضا، حتى منيرة تعد وفدية بلا حماس، أما كوثر فلا تهتم إلا بما يدور في باطنها. أما في جلسة السمر فكان الوفد متسلطا دون شريك، فتساءل جعفر إبراهيم: كيف يتوقعون نتيجة أفضل من هذه؟
فقال حسن علما: المعاهدة ثمرة صراع مرير بين إمبراطورية طاغية من ناحية وبلد أعزل من ناحية أخرى، فهي مشرفة لا ريب في ذلك.
فقال حامد برهان: على من لا يقتنع أن يزحف على العدو بجيشه!
فقال خليل الدرس وكيل أعمال الوجيه نعمان الرشيدي: انتهت أيام اللعنات وسوف يحكم الوفد إلى الأبد!
ولكن بدا أن أيام اللعنات لا تريد أن تنتهي؛ فقد انفجر صراع جديد بين الوفد والملك الجديد، حول المعركة من معركة موجهة نحو الفقر والجهل والمرض إلى المعركة التقليدية حول الدستور والحكم الديمقراطي، وإذا بالوفد يطرد والأقليات تلعب دورا ديمقراطيا زائفا كغطاء متهتك للاستبداد الملكي. تبادل الأصدقاء نظرات أسى مشتعل بالغضب. أملوا أن يغضب الشعب غضبة من غضباته الماضية، ولكنه آثر أن ينتقل من مكانه العريق فوق خشبة المسرح إلى مقاعد المتفرجين، حتى تساءل حامد برهان: من أين جاءنا هذا الحظ الأسود؟!
واسترقت سنية نظرة إلى كوثر وقالت لنفسها: مثل حظك تماما يا ابنتي!
واكفهر جو العالم كله وتطاير منه الشرر، ثم انحسر قناعه الأصفر عن حرب عالمية جديدة. وأكثر من صوت قال: إيطاليا في ليبيا على بعد شبر منا!
وكان محمد قد التحق بكلية الحقوق، ومنيرة على وشك الالتحاق بالآداب، أما كوثر فما زالت تنتظر. ومحمد - مثل أبيه - انصهر بهزيمة الوفد وأنباء المعارك، وجذبت نظره ذات يوم لافتة مثبتة على قضبان شرفة شقة بشارع سعفان مسجل عليها بالخط الفارسي «الإخوان المسلمون» فدعاه حب الاستطلاع والتوتر إلى اقتحام الشقة. ومضى يختلف إليها من حين إلى حين، وينوه بما يلقى عليه فيها بين أسرته، حتى قال له حامد برهان: حسبك، إني غير مرتاح لذلك!
Página desconocida
فدافع الشاب عن وجهة نظره دفاعا بريئا ولكن أباه قال: أنت وفدي، وأي تجمع آخر ما هو إلا منافس للوفد!
فقال محمد بإصرار: إنها مفتوحة للجميع!
ولم يطرأ عليه في تلك الفترة من تغيير إلا أن أضاف إلى مجال اطلاعه بعض الكتب الدينية، على أن كوثر استغرقتها العبادة أكثر منه وإن عكست عيناها الوديعتان نظرة أسى دائم. وضاعف من حرج الأسرة أن منيرة - وهي تشرئب للجامعة - تقدم لطلب يدها مدير عام بالسكة الحديد في الخامسة والأربعين من عمره. لا شك أن «درجته» فتنت حامد برهان، ولكنه - مثل سنية - توجع لحال كوثر. غير أنه لم يكن بد من عرض الموضوع على منيرة التي أدهشتهم بقولها الحاسم: لا أوافق!
فقال لها محمد: يستحسن أن يسبق أي قرار بالتفكير المناسب.
فقالت بصراحة: لا داعي لذلك على الإطلاق.
وارتاح الوالدان في أعماقهما وإن تظاهرا بغير ذلك. ولم يكن القهر يلعب دورا في الأسرة، وكان الأبناء يحظون بنعمة غير معهودة من الحرية والصراحة. على أن منيرة لم ترفض الرجل لفارق السن فقط، فالحقيقة أنها كانت واقعة في حب. لم يفطن أحد إلى حبها، ولا أمها التي ترى بروحها أحيانا بالإضافة إلى عينيها، وكان حبها مشكلة. أحبت شابا من حلوان تبين لها أنها تكبره بسبعة أعوام! كان طالبا بالمرحلة الثانوية، كثير السقوط ولكنه ذو مظهر خادع. رأته أول ما رأته في الحديقة اليابانية فاتسعت عيناه مرسلة دهشة ذاهلة باسمة تحية للحسن الرائق، وجلس قبالتها في القطار أو لعله تعمد الجلوس قبالتها، وراح يسترق النظر طيلة الطريق إلى القاهرة. كان ذا مظهر يكبر سنه بكثير، مترامي الأبعاد مبادرا للرجولة قبل أوانها؛ فظنته موظفا أو طالبا في القمة، وكان إلى ذلك فحل الملامح والصوت. وراح يتابعها بإصرار وشغف حتى غزاها بلطف وثبات. وجد قلبا يخفق بنظرة متوثبة، متعطشة لأول قطرة ماء كي تتفتح أكمامها وتنبثق ألوانها الضاحكة. هكذا تسلط على فؤادها فاستسلمت للنداء المطرب حالمة بسعادة مشرقة. وعند لحظة فريدة يتصارع فيها الحياء والمغامرة ردت آخر تحياته أمام تمثال بوذا الغافي في سلام بالحديقة اليابانية، فقال متنهدا: أخيرا! .. سامحك الله!
وفي ارتباكها سألته متلعثمة: ماذا تريد؟
فقال بهدوء مغتصب: ليس عندي أكثر مما يدل عليه حالي.
فعضت على شفتيها لتئد ابتسامة خائنة، فقال برقة: ليس وراء الحب شيء.
قالت لنفسها ما أصدقه! وتلاقيا مرات في الجنفواز على مبعدة يسيرة من الجامعة ليزدادا ببعضهما تعارفا. كان ثمة تشابه بين أسرتيهما؛ فأبوه ناظر مدرسة ابتدائي، له أخت متزوجة وأخ ضابط بالجيش، اسمه سليمان بهجت. ولما عالنها بسنه وصفه المدرسي تلقت لطمة مباغتة لم تتوقعها. كانت تشارف مرحلتها الجامعية بقسم اللغة الإنجليزية، وربما توظفت وهو يلتحق بالجامعة؛ فأي مهزلة وأي خدعة! اضطرب ميزان عقلها ولكن قلبها صمد صمود العاشقين، طرحا العواقب جانبا. ولاحظ سليمان وجومها ولم تغب عنه أسبابه، فقال: في الحب لا أهمية للمشكلات السطحية.
Página desconocida
فتساءلت بحيرة: أهي سطحية حقا؟ - بلا شك، علينا أن نصر على حبنا حتى نتزوج.
فقالت بسرور خفي: إنك جاد ولي فيك كل الثقة، ولكني أسألك مهلة للتفكير لصالح كلينا.
فقال بيقين: إني أعرف صالحي تماما (ثم ضاحكا) ولن أسمح لك بالتراجع.
ولم تجد في أسرتها من تفضي إليه بسرها سوى أمها. اقتحمت غرفتها الخضراء عقب صلاة العصر رادة الباب وراءها وجلست قائلة: إليك حكايتي يا ماما ...
لما أدركت أنها حكاية خطوبة نور قلبها بالسرور، ولكنه سرعان ما انطفأ لدى طرح المشكلة. وتفرست في وجهها فاستشفت ميلها الدفين وراء قناع الحيرة فأدركها الجزع. قالت لنفسها إن حظ كوثر سيئ، أما جوهرة الأسرة فلا يجوز أن يسوء لها حظ. قالت بثبات: مشروع فاشل ولا خير فيه.
فرمقتها منيرة بنظرة كئيبة، فواصلت: الرجل الأكبر في السن مقبول ألف مرة أكثر من المرأة الأكبر، حذار يا منيرة! ما هو إلا عبث صبي لا يوثق به، وأنت رشيدة مثقفة.
فلاذت بالصمت الذي أدركت الأم معناه، فقالت بقلق: الناس يحبون ليسعدوا لا ليجعلوا من حياتهم نادرة يتندر بها، لن يمنعك أحد مما تريدين، أنت حرة تماما في اتخاذ قرارك، ولكني أحذرك؛ فالمرأة تمضي إلى الشيخوخة أسرع من الرجل.
فتمتمت بغموض: أشكرك يا ماما!
فقالت برجاء: لا داعي للعجلة، فكري على مهل، دعي الأمر معلقا حتى يئون أوان الزواج ثم انظري ماذا يبقى منه.
فقالت منيرة وهي مستغرقة بالحيرة: حل موفق يا ماما. - عظيم، وليكن الأمر سرا حرصا على الكرامة!
Página desconocida
ولكنها لم تعتد أن تخفي عن حامد برهان أمرا ذا بال؛ فأشركته في همها قبل انتقاله إلى مجلس السمار. وفاق تأثره بالسر تأثرها؛ إذ كان عاطفيا أكثر منها، أو كان دونها في ضبط النفس، قال بنبرة المتشكي: أي حظ يا ابنتي! .. إنك درة التاج فلم تبتلين بهذه التجربة؟
وتفكر مليا ثم قال: إنه مشروع فاشل، ولكنه خليق بأن يقوم عثرة في سبيل من يطلب يدها!
ولم تر سنية حلما ذا معنى، وضربت تأويلات أم سيد للفنجان في آفاق بعيدة عن الموضوع. أما سليمان بهجت فقد عدل عن رغبته الملحة في إعلان الخطوبة، قانعا بعلاقة أقرب إلى الصداقة مورست في مودة وتحفظ وصينت بالصبر الطويل. على أن سرا بهذه الخطورة لا يمكن أن يبقى سرا طويلا؛ فما دام توجد رائحة نفاذة وجو ذو قابلية لسريان الرائحة فلا بد للرائحة من أن تنتشر. انكشف في بيت سليمان بهجت وقال له أخوه الضابط: أحسنت الاختيار.
وكثرة من زميلات منيرة بالكلية عرفنه، وزحف أخيرا على شارع ابن حوقل فنوقش في مجلس السمار، وبذلك عرف القاصي والداني أن كريمة حامد برهان الجميلة «محجوزة» فلم يتقدم أحد ليخطبها، مثلها مثل أختها كوثر التي طال بها الانتظار وتقدم بها العمر. وكانت أيام حرب وبلاء، واحتلت الوفيات الصفحات الأولى من الصحف ولكن على نطاق العالم، والتهم الخراب العواصم الزاهرة، ودنا الخطر من مصر حتى ترددت أنفاسه في القاهرة والإسكندرية، فقال حامد برهان: من راقب بلوى العالم هانت عليه بلواه!
واختل ميزان المعيشة؛ فتوارت الأسعار القديمة إلى الأبد، وانهمرت الثروات على أناس، فلم يبق في القعر إلا الموظفون، فتساءلت سنية: ما جدوى إمساك دفتر لميزانية وهمية؟!
ولولا عودة الوفد للحكم عقب أزمة خطيرة وتقريره علاوة الغلاء لهلك الموظفون. ولم يزعزع الحدث إيمان حامد برهان بوفديته، بل رقص السمار فرحا وشماتة بالملك. وقالت منيرة: إنه شيء بشع لا يصدق.
وقال محمد لأبيه: ما أفظع ما يقال!
فقال حامد برهان بثقة: كل قول جدير أن يتحطم على صخرة صلدة هي وطنية مصطفى النحاس.
فهزت سنية رأسها باسمة وتمتمت: نطقت بالحق.
وتمضي الأحداث، ويميل مؤشر النصر إلى الناحية الأخرى، ويقال الوفد كالعادة من الحكم، وبعد عامين يحال حامد برهان إلى المعاش لبلوغه السن القانونية، شد ما انقبض صدره حتى ساوره شعور بأنه يموت قبل الموت. لدى رجوعه إلى حلوان نازعا معطف الوظيفة لأول مرة اجتاحته كآبة ثقيلة، وداخله إحساس بالخجل كأنما ارتكب إثما. قال لنفسه: ما زلت في تمام الصحة والعافية.
Página desconocida
ورسم لنفسه - وهو قابع في قطار حلوان - خطة يتحدى بها قرار الحكومة؛ أن يستيقظ في ميعاده المبكر، أن يتمشى ما بين الصحراء والحديقة اليابانية كل صباح مغترفا من هواء حلوان الجاف، أن يواظب على الارتواء من المياه المعدنية، أن يعنى بحديقة البيت ما وسعته طاقته المالية المحدودة. وتلقته سنية باسمة، دعت له بطول العمر، مطاردة أفكارا كئيبة تطن في باطنها كالذباب. عطفت عليه، رأت وجومه وراء ضحكته المفتعلة، قاسمته الانفعال بالزمن والخوف من المجهول، بالإضافة إلى همومها كربة بيت تفعل المستحيل للاحتفاظ بالحد الأدنى في مواجهة حياة يشتد عسرها في بطء وثبات. وحمدت الله على الفرج المنتظر بتخرج محمد ثم منيرة. قالت في لحظة تأمل: أشعلوا الحرب وذهبوا، وعلينا أن ندفع الثمن!
واستوعب الغذاء والكساء كل شيء، ولكن ألا يحتاج هذا البيت الكبير إلى ترميم وطلاء؟ .. وهذه الحديقة التي عقمت أشجارها الباقية، وذبلت شجيرات أزهارها، وشغلت الأرض الرملية أكثر سطحها ألا تحتاج إلى بعث؟ .. أين هي من ذلك كله؟! وهي حتى متى تحمل أعباء البيت ولا معين لها إلا فتاة منكسرة القلب، وخادم تماثلها في السن ضئيلة المهارة لا تحسن إلا قراءة الفنجان ونادرا ما تصدق لها قراءة؟ ولكن الهموم تتداوى بالهموم أحيانا؛ فقد اقتحم البيت هم في صورة فرح باسم. أجل أخيرا جاء رجل يطلب يد كوثر! كان خليل الدرس - أحد السمار - وهو الخاطبة! وكان العريس الوجيه نعمان الرشيدي الذي يعمل الرجل وكيلا لدائرته. قال خليل الدرس لحامد برهان: رجل ولا كل الرجال.
ثم مبادرا قبل أن تلعب الآمال بقلب حامد: حقا لم يتعلم ولكن ما حاجته إلى التعليم؟ وهو في الستين ولكنه يحظى بصحة ابن الثلاثين، له أبناء ثلاثة ولكنهم موظفون ومتزوجون، يملك أرضا وعمارات وأموالا سائلة، يقيم في فيلا أنيقة بشارع الزقازيق بمصر الجديدة، ولما ماتت زوجه منذ عام غشيته وحدة لم يألفها، فضاق بها وغمرته كآبة ثقيلة حتى اقترحت عليه فكرة الزواج فرحب بها بحماس فاق تقديري بكثير، فطلبت إلى زوجتي أن تدعو ست سنية وكوثر لزيارة، ودعوته من ناحيتي، ويسرت له رؤيتها في الحضور والانصراف فسر جدا وأمرني أن أتم السعي، وها أنا أفي بما تعهدت به.
هكذا ذابت هموم الحياة اليومية واستأثر المشروع الجديد بالأفئدة. أسكتوا الراديو في حجرة المعيشة، وأفضى حامد برهان بما لديه، ثم قال: هذا هو العريس فما الرأي؟
همت كوثر بالانسحاب ولكن حامد برهان أمسك بساعدها وجذبها إلى جانبه بحنان قائلا: هنا مكانك.
فقال محمد ضاحكا: من حسن الحظ أن الحكومة لا تتدخل في هذه الشئون.
وساءلت سنية نفسها لم يتعثر حظ ابنتيها فلا يعرف الطريق المألوف؟ وقالت: لنترك الأمر لصاحبة الشأن!
فقال حامد برهان: طبعا طبعا .. ولكن لا بأس من إبداء الرأي مساعدة لها، الرجل ثري، والمال زينة الحياة الدنيا!
وهم محمد بتكملة الآية ولكنه عدل عن ذلك. كان ينظر إلى بقاء أخته في البيت الكبير بلا زواج ولا علم ولا عمل بقلق شديد. قال: فرصة لا يصح الاستهانة بها.
فقالت منيرة: أوافق على رأي كوثر دون قيد أو شرط.
Página desconocida
فقال لها أبوها: لم تقولي شيئا!
فقالت بإصرار: قلت كل شيء.
ونظر حامد برهان نحو سنية وهي متربعة فوق الكنبة فتمتمت: رجل مقبول من بعض النواحي ولكني تمنيت لها حظا أفضل .. وهربت بوجهها من نظرتهم فاستقرت عيناها على الصورة التذكارية. وقالت كوثر لنفسها إنهم يميلون للموافقة. وهي أيضا مالت إليها منذ اللحظة الأولى؛ فهذا الرجل هو أول رجل يتقدم، وهي تغوص في السادسة والعشرين تكتنفها أحوال تدعو إلى اليأس، وهي تثير العطف حتى كرهته، وباتت تخجل من لقاء الزائرات. ولما مسها أبوها برقة متسائلا: وأنت يا كوثر؟
أحنت رأسها وغمغمت بصوت لم يسمع: موافقة.
وانتهت الجلسة بسلام ولكن ثمة شعور بالذنب طاردهم قاوموه بالشعارات الطيبة. وعندما خلا حامد برهان بسنية عقب انصراف السمار قال: بارك الجميع قرارنا.
نظرت إليه فهالها أن ترى عينيه دامعتين، لم تدهش لما تعلمه من سخاء عينيه إذا مس وتر حميم في قلبه، أما هي فتبكي في الداخل. وسألته بأسى: لم تبكي يا رجل؟
فتنهد قائلا: من العجز وسوء الحظ.
عنى عجزه المالي وسوء حظ ابنته. وهو كان يرى أكثر مما يتصور من حوله. لاحظ بقلب متغضن انزواء كوثر، أسى نظرتها، معاناتها للمراهقة، إغراقها اليائس في العبادة، تطوعها لخدمة إخوتها في استسلام كامل، فدفعه ذلك كله إلى مواجهة عجزه. ماذا فعل من أجلها؟ ماذا يملك من المغريات؟ وكم قسا عليها أيام الدراسة مصرا على تحميلها ما يفوق طاقتها رغم أنه كان مثلها في معاناة التعليم، وإلا لشق لنفسه طريقا آخر أبعث للآمال له ولذريته. وسأل زوجته ومرشدته: ما العمل الآن؟
استخرجت من الجملة القصيرة مضمونها الخفي فقالت: عندي مجوهرات لا بأس بها!
فقال بذل: أحاول أن أقترض أيضا؟
Página desconocida
فقالت بضيق: لن تجد ضامنا، ولا ضرورة لذلك.
على أن السيد الوجيه نعمان الرشيدي جعل من العسر يسرا؛ نشط نشاطا كبيرا فأهدى أثاث فيلته إلى أبنائه، وأعاد تأثيثها على أحدث طراز، وفي مقابل ذلك اتفق على صداق ومؤخر صداق رمزيين. وارتاحت الأسرة في الأعماق لذلك ولكن تجلى طفحه في الوجوه في صورة كبرياء جريح. لذلك غالت الأم في تزويد كريمتها بالثياب أشكالا وألوانا، وأغدقت عليها هدايا ثمينة؛ أساور ذهبية وقرطا ماسيا وساعة أثرية. وبدا الوجيه حريصا على الوقت فتحدد يوم لكتب الكتاب في البيت الكبير شهده الأصدقاء ولم يحضره أحد من أبناء الوجيه، معلنين بذلك مقاطعتهم التي تواصلت إلى الأبد. ومضى الوجيه بعروسه في سيارته المرسيدس البيضاء مودعا ببسمات متلألئة بالدموع كرمز للفرح والأسى معا. وعقب الزيارة الأولى التي قامت بها الأسرة لفيلا شارع الزقازيق قال حامد برهان: كوثر سعيدة والحمد لله.
كانت سعيدة حقا، وسرعان ما بادلت زوجها حبا بحب. كان حبا حييا هادئا ولكن بالقياس إليها كان الحب كله. وما لبثت أن بشرتهم بمقدم مخلوق مجهول من الغيب؛ فانغرست البشاشة في قلب سنية المهدي طارحة ورودا وأزهارا. وأضفت التسريحة الجديدة على وجه كوثر أنوثة، وأكسبها الزواق ملاحة، وأسبغت عليها الثياب الفاخرة جلالا وسؤددا وإن لم تهمل يوما سجادة الصلاة. وأخفت عن أمها هموما صغيرة تسللت إلى وجدانها من جراء محاولات مستميتة بذلها نعمان الرشيدي ليقنعها باحتساء القليل من الويسكي، لاجئا إلى إصدار فتاوى شخصية لا أساس لها بأن الشرب الشرعي حلال، حتى يئس فقنع بالمتاح. وما إن رفع حامد برهان رأسه عن هم كوثر حتى ركز عينيه على العمارة الجديدة التي استوت قائمة في مواجهة بيته. وبدأ الهدم ورمي الأساس من سنوات، وتوقف العمل وقتا غير قصير لأسباب مجهولة، ثم استؤنف حتى اكتملت بقاعدتها الواسعة وقامتها المديدة. أسف حامد لذلك غاية الأسف، وتحسر على زوال حديقة البيت الأصلي وأن يقوم مقامها بناء فيحجب ما يحجب من منظر مأنوس ويمنع ما يمنع من هواء طلق. وانقض على العمارة سكان جدد فاق عددهم سكان «ابن حوقل» جميعا، لا يعرف بعضهم بعضا ولا يتحمسون لمعرفة أحد. قال جعفر إبراهيم: هذا مصير بيوتنا الكبيرة القديمة!
فتساءل حامد برهان: ولكن ما حلوان إذا اغتصب هدوءها الأبدي؟!
وخيل إليه أن بوذا سينتبه من تأملاته العميقة محتجا ثم يرحل وراء الهدوء إلى أعماق الصحراء.
ولم تكن العمارة بالهم الوحيد الذي طرأ؛ فقد تدفق طوفان في ميدان السياسة دافعا بين يديه مظاهرات من الطلبة والعمال مطالبين باستقلال حقيقي يكافئ ما بذلته مصر من تضحيات وخدمات في أثناء الحرب. وكالعادة غلبت السياسة على السمر وانهمك حامد برهان الوفدي العريق في همومها، وقال: لو بقي مصطفى النحاس في الحكم لطالب الإنجليز بجزاء تأييده لهم في وقت الهزيمة.
غير أن همومه لم تحل بينه وبين رؤية ساكنة جديدة في الدور الرابع من العمارة الجديدة. كان يتمشى في حديقته الموحشة مصارعا الفراغ الجديد المهيمن على حياته فحانت منه التفاتة فرآها تتمشى في مطلع خريف. لعلها تماثل سنية في العمر - في الخمسين - ولكنها رشيقة مزخرفة ذات شعر ذهبي وعرق أجنبي. استقبل من ناحيتها تيارا مثيرا، هو الذي لم يهتم بالنظر إلى امرأة منذ تزوج من سنية المهدي. عاش حياته زوجا مثاليا لا يزهد ولا يتغير ولا يحلم حتى لفت الأنظار بطبعه العجيب. ولا يذكر أحد من معارفه أنه سمعه يحدث عن عالم المرأة، حتى قال صاحبه راضي أبو العزم مدرس العلوم: حامد متخصص في زوجته.
وبدا أن المرأة هيجت اهتمامات الجيران بفرنجتها وعصريتها وملابسها، فانتشر من نافورتها الشادية رذاذ المعلومات. قيل إن أمها إفرنجية - وإن لم يحدد الجنس - وإنها أرملة للمدعو حسن كمال الذي كان مدرسا بمدرسة الفنون وعضو بعثة في الخارج. وقيل إن لها ابنة وحيدة مترجمة بوزارة الخارجية، ثم صحح الخبر فيما بعد فقيل إنها ابنة زوجها من زوجة سابقة متوفية وإن المرأة تبنتها لعقمها؛ فعد ذلك حسنة تحسب لها. ثم عرف أن اسم المرأة - بعد إسلامها - ميرفت وأن البنت اسمها ألفت. وكانت المرأة تسلي وحدتها بالمشي في شوارع حلوان وزيارة الحديقة اليابانية، تمضي رشيقة براقة مثيرة داعية - دون مبالاة - لشتى الظنون، باسمة متحدية، بخلاف ألفت المواظبة على عملها والمتسمة بالجدية والحياد أيضا. وبالقياس إلى حامد برهان لم تكن ميرفت مجرد امرأة مثيرة تسعى، ولكنها كانت غزوة اقتحمت حصنه المنيع، ونارا أشعلت هشيم خياله، وسيلا جرف سده العالي. وعجب الرجل لحاله مغمغما: أعوذ بالله.
وذكره ذلك بما جرى في الحرم الجامعي وفوق كوبري عباس من مظاهرات وسفك دماء فقال: هذا يثبت أن الأرض تدور على قرن ثور! - وعم البلاء عندما وهبته المرأة انتباهها ولم يعد ثمة شك في أنها تشجعه! وذات يوم تلاقت أعينهما في نظرة آسرة فابتسمت إليه. تناثرت إرادته وانفجرت غرائزه، وتمخض جسده البدين عن جنون أحمر. تناسى واقعه وسنية وكوثر ومحمد ومنيرة فمضى وراءها إلى الحديقة اليابانية، ولم يكن يدري شيئا عن الغزل ولا حتى عما يجب أن يقال فسلم نفسه في براءة طفل، وتواعدا على اللقاء في القاهرة مختارا اليوم الذي يتسلم فيه معاشه على سبيل الحذر. وبهذه العلاقة استوى في مقام الحيرة. أدرك من أول وهلة أن «مصروفه» لا يسمح له بعلاقة غير مشروعة، فضلا عن أنهما لا يجدان عشا مناسبا. وقالت له: إني سيدة محترمة!
فقال - وكانا يجلسان في محل باليرمو بالهرم - بصراحة مؤثرة: وأنا كما ترين فقير!
Página desconocida
فقالت بجرأة غريبة: لدي إيراد خاص لا بأس به.
فقال بسذاجة: ممكن أحتفظ بنصف معاشي إذا توظف ابني وابنتي في القريب العاجل.
هكذا انحرف الحديث إلى «الشرع» وقذف بحامد برهان إلى حياة جديدة لم تجر له في خاطر، ورجع إلى حلوان وهو يقول لنفسه: أدرك الآن معنى أن يغلب إنسان على أمره!
أي قنبلة انفجرت في صدر سنية المهدي والزوج المستأنس المحب البكاء يقف بين يديها حاني الظهر مغروز العينين في البساط القديم المنجرد وهو يقول: إنه أمر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله!
استيقظت من كهفها على صدمة كهربائية مزلزلة: ماذا يقول الرجل الممسوس؟ - تزوجت، إنها محنة، ولكنك ستظلين الزوجة والأم!
إذن فأي شيء يمكن أن يحدث. - إنك مجنون ولا شك!
وكعادته عند غلبة الانفعال دمعت عيناه. استمسكت هي بمظهرها الرزين المجلل بذهول غامض. كرهت دموعه واحتقرتها وتردت بيقين في هاوية. وثبت بها دفعة مباغتة لصفعه ولكنها لم تفعل. كظمت دوامتها بسلك صلب. أمرت قلبها بأن ينكسر وحده وفي صمت جليل وبأن يتشرب أشنع الآلام كما لو كانت ماء عذبا. قال بصوت رجل آخر: لن يفصل بيننا شيء.
عند ذاك هتفت به: لا ترني وجهك أبدا.
وتلقى محمد ومنيرة الخبر، فصاح محمد: يا خبر أسود!
أما منيرة فلم تنبس ثم أفحمت في البكاء. وقف قلباهما وراء أمهما وأدانا أباهما دون قيد أو شرط.
Página desconocida
وقالت منيرة لمحمد وهما في الفراندا وحيدين: أنا لا أفهم شيئا!
فقال بامتعاض شديد: إنها مأساة ألقيت على بابا لتلقى بعد ذلك على ماما ثم تطوقنا جميعا.
ودفع الزواج الجديد الزوجين إلى ضربين من الجنون؛ جنون صمت وكبرياء غزا الأم، صممت على ممارسة حياتها اليومية وكأنها لا تبالي، بيد أنها كانت مشتعلة القلب والعقل طيلة الوقت؛ فراحت ترى وراء الأحداث اليومية - المسموعة والمقروءة - شبح مأساة كونية غامضة، وأن حماقة الإنسان داء متأصل لن يشفى منه إلا بمتناقضات شتى كالعنف والحكمة والرحمة! وبذهاب «العجوز المتصابي » أتيح لها فراغ لم تعهده من قبل فتعلق اهتمامها بالبيت، وشعرت أكثر من أي وقت مضى بأنه ليس على ما يرام؛ إنه يطعن في القدم دون رعاية ولا عناية، ها هي تتجول بين الحجرات والحديقة، تنظر وتتفحص، بهتت الألوان، تقشرت الأركان، تشقق خشب الأرضية وفقد مرونته، ذبلت الحديقة وملأتها الوحشة وتراكمت في أجزاء منها الأوراق الجافة، وقالت: العين بصيرة واليد قصيرة.
وتابعها محمد مرة بعينيه ثم همس في أذن منيرة: إني قلق.
فهمست له بدورها: ليتها تروح عن نفسها ولو بالدموع؟
أما حامد برهان فلم يبق له إلا أن يغمض عينيه ويصم أذنيه حيال الماضي، وأن يرمي بنفسه في بحر العسل. انقلب إلى مراهق ذي رأس أبيض وجسم مليء بعنفوان لا يدري من أين جاء. ووجد في ميرفت امرأة فائقة المقدرة، متقنة لفنون من العشق لم يعرفها من قبل. وبادلته هياما بهيام، ولولا دعمها المالي لحياتهما المشتركة ما أمكن لها دوام. وبمضي الأيام انتقل مجلس السمار إلى الشقة الجديدة، وأضافوا إلى أحاديثهم المألوفة موضوعات جديدة عن وصفات ناجعة لتجديد الشباب. وفي أثناء ذلك ولد رشاد ابن كوثر، وتخرج محمد، ثم لحقت به منيرة، وهي أحداث خليقة ببعث السرور الشامل ولكنها لم تحظ إلا بفرحات سريعة الزوال كانفراج السحب عن شروق الشمس دقائق في يوم مطير عاصف. وزاد من تجهم الجو اشتعال حرب فلسطين، فعلا صوت المعركة المبهم المشحون بالقلق على معارك حامد برهان الجنسية الظافرة، وشد سنية المهدي من حال سيئة إلى أخرى، كمن يفلت من قبضة صداع ليقع فريسة لروماتيزم، على حين تابعت منيرة الأنباء من موقع وظيفتها الجديدة كمدرسة للغة الإنجليزية بمدرسة البنات بالعباسية، أما محمد فوجد عملا في مكتب الأستاذ عبد القادر قدري المحامي الوفدي المعروف، وكان موصولا بصداقته من عهد وفديته الخالصة فلم ينقطع عنه بعد أن مازجت وفديته «إخوانية» متصاعدة. وبذل محمد جهدا صادقا في عمله حاز به ثقة أستاذه، غير أن الحرب انتهت بهزيمة العرب، ومقتل النقراشي، وإعلان حرب داخلية لا هوادة فيها ضد الإخوان، فقبض على محمد فيمن قبض عليهم ضمن شعبة حلوان. وهز النبأ الأسرة هزة فاقت أحزانها الخاصة والعامة. واستقبل البيت القديم بحلوان الوجيه نعمان الرشيدي وكوثر، بل جاء حامد برهان نفسه. وتجاهلت سنية زوجها تماما فتجنب إزعاجها ومضى يوجه حديثه إلى نعمان أو منيرة. ولم يكن دون سنية قلقا حتى قال الوجيه نعمان: مؤكد أنه لم يتورط في جريمة فلا خوف عليه.
فقالت منيرة: أخشى ألا يفرقوا بين البريء وغيره في حومة الانتقام.
فقال حامد برهان: لم يرتح قلبي قط لانضمامه إلى الإخوان، وكلنا مسلمون والحمد لله!
وشعر نعمان الرشيدي بأنه مطالب بأكثر من الكلام لعلاقته الوثيقة بالمسئولين من جميع الأحزاب فقال: سأبذل ما في وسعي رغم أن الدفاع عن إخواني في هذه الظروف تصرف مرعب!
كان حريصا على علاقاته الودية بجميع الأحزاب؛ لذلك ساءه أن يكون أخو زوجته إخوانيا، فكيف يسعى بنفسه إلى الكشف عن هذه الحقيقة الفاضحة؟! وجعلوا يواسون سنية باعتبارها المحور الأول للحزن، فقالت بأسى: ثقتي بالله لا تتزعزع.
Página desconocida
غير أن الحزن قطع قلبها فساء نومها، وكانت تنام إذا نامت وقلبها مسهد، وتحلم بالعذاب. وجاءها خطاب من أخيها ينعى إليها بكريه الذي استشهد في الحرب بعد أن ظن أنه مفقود، فسرعان ما سافرت إلى بني سويف للعزاء. على أنه أفرج عن محمد بعد فترة غير قصيرة فرجع ذات يوم وألقى بنفسه في حضن أمه. وتظاهر - رغم شحوبه وذبوله - بالسرور مخفيا عن أمه الأخبار المحزنة. ورجع إلى عمله بمكتب الأستاذ عبد القادر قدري مصمما على الاجتهاد، ولما سأله الأستاذ: هل شبعت من الإخوانية.
أجابه ضاحكا: العكس هو ما حصل!
فقال الأستاذ عبد القادر: افهم معنى الوفد قبل فوات الأوان، إنه ليس حزبا ولكنه قاعدة الأساس المتماسك، هو بكل إيجاز «مصر».
فتساءل محمد: هل ندور على مدى العمر حول الاستقلال والدستور؟! - جدد ما تشاء ولكن فوق القاعدة المتماسكة، وإلا وجدت نفسك في عهد ما قبل الأسر!
ولما انفرد محمد بأخته منيرة قالت له برثاء: شد ما هزلت!
فقال متجهما : لن تنزع من روحي آلام الضرب الذي انهمر على جسدي كالمطر!
وأدركت سنية ذلك بحدسها، وبتأويل أحلامها، ولكنها صممت على الصبر مع الحياة الجديدة. لفظت حامد برهان من ضميرها كما يبصق الإنسان حلوى فضح الريق فسادها، ولكنه بقي جرحا مفتوحا ينعى الحب والوفاء. وقالت إنها ستنسى تماما وتسلو، بل وتسعد، لو أمكنها ذات يوم أن تعيد إلى البيت شبابه الغض. لديها نصف معاش «الخائن» ومرتب منيرة ومحمد، ولكن الغلاء يمضي في سبيله في بطء وثبات، ثم إن لمحمد ومنيرة آمالهما الخاصة! لم يبق لها إلا الحلم؛ هو الذي يرمم ويطلي ويبيع الأثاث القديم ويشتري أثاثا جديدا، هو الذي يشذب الأعشاب، ويغذي الجذور، ويسمد الأرض، ويغرس أشجار الورد. إنها تحلم وتناجي أرواح الأولياء والجدود، وتقاوم في مجرى ذلك ذاكرتها التي تخون الإرادة فتقذف بشهاب خاطف لذكرى جميلة ما كان ينبغي أن تبرق في الأفق، وتقول لنفسها: لا تطمئني لشيء طيب.
وتغدق على منيرة تساؤلاتها القلقة، فتعلم أن بهجت سليمان توظف بشهادة زراعية متوسطة في وزارة الزراعة، وأنهما ما زالا مقيمين على العهد؛ فتغمغم لذاتها: الأمر لله!
أما محمد فهو آخذ في استرداد صحته وشق طريقه. لم تعد توجد شعب إخوانية ولكن الدين أصبح على رأس مطالعاته، واكتسب عنه رؤية جديدة مختلفة عن دين أسرته المتسم بالسماحة والبساطة. وقد استأذن أمه في زيارة أبيه عقب الإفراج عنه فأمضى ساعة طويلة معه شهدتها ميرفت هانم وآنسة ألفت. رأى ألفت لأول مرة بتمعن وعن قرب فتحرك قلبه البريء، واصطحبها معه في عباءة خياله عند انصرافه. ورآها في القطار، بل وجالسها فيه أحيانا وتبادلا الحديث. وتسلطت بعد ذلك على ذاكرته وخياله؛ فلزمته في البيت والمكتب والمحكمة، على حين وهبته - في واقع الحياة - استجابة طيبة. وخفق قلبه بسعادة الحب حتى تساءل بقلق: ولكن ماما؟!
وإذا بالحياة العامة تباغته بفرحة غير متوقعة فتستقيل الوزارة ويبشر الأفق بانتخابات حرة. صرخ محمد: اللهم لا شماتة!
Página desconocida
أما حامد برهان فرقص طربا. والتقى مع محمد في دائرة انتخابية واحدة فهمس في أذن ابنه: الشكر لله على أنك ما زلت في الأعماق وفديا.
فقال له محمد باسما: الإخوان معكم في هذه الانتخابات.
ورجع الوفد إلى الحكم فصعد حامد برهان إلى العرش من جديد وهو يقول: الخلود ممكن في هذه الحياة.
وأقبلت أيام وردية فآمن الناس بأن أيام المحن قد ولت. وراحت منيرة تفكر في مستقبلها من موقع حبها العتيد، كما ربط الحب بين محمد وألفت فتعاهدا على الزواج والانتظار مع تأجيل إعلان الخطوبة لفرصة طيبة. ثم تعثرت مفاوضات تعديل المعاهدة وتفشى القلق حتى جلجل صوت مصطفى النحاس بإلغاء المعاهدة. وبلغ الحماس مداه في مجلس السمار بشقة ميرفت هانم. وتذكر حامد برهان حماسه يوم عقدت المعاهدة على ضوء حماسه الجديد لإلغائها فقال: من تكون عروسا في 1936 فكيف تصير في 1951؟!
فقال خليل الدرس: إنه زمن سريع وقلب!
فقال حامد برهان: لا يقدر على إلغائها إلا من قدر على عقدها، هو الوفد دائما وأبدا!
وتتابع الفداء والعنف حتى اشتعلت النيران في جنبات القاهرة. قال حامد برهان لميرفت: الويل للخونة!
فقالت وهي بعيدة عن مشاركته: حلوان بمأمن من ذلك.
ووقفت سنية فوق السطح تنظر صوب القاهرة من خلال منظار مكبر ربحه محمد في صباه في نصيب سينما أوليمبيا وهي تردد بقلق بالغ: ارفع يا رب غضبك ومقتك عنا!
ولما أربد وجه القاهرة بالغضب وأنذر بأوخم العواقب مضى محمد إلى وزارة الخارجية فاصطحب ألفت إلى محطة باب اللوق قائلا: أخاف أن تنقطع المواصلات!
Página desconocida
رجعا قبل أن يقدرا مدى الخطر الحقيقي الزاحف لالتهام صفحة كاملة من تاريخ دام. وهوى رد فعل عنيف كالصاعقة. وقال حامد برهان لسماره: المجرمون يقهقهون!
غير أن القهقهة انقطعت حال ارتفاع صوت جديد في الصباح الباكر من 23 يوليو 1952. تبادلت الأسرة النظرات حول مائدة الإفطار، وتكلم محمد قائلا: فلنستبشر خيرا؛ فأي شيء خير مما كان.
وتساءلت منيرة: والإنجليز؟!
فقالت سنية: أمل مجهول خير من يأس راهن!
وتابع حامد برهان سيل الأخبار المتدفق بذهول. كان - كوفدي - يشارك في الأحداث إيجابا أو سلبا عندما كانت الحلبة خالية للوفد وأعدائه، أما هذه المرة فالقوة الفعالة غريبة وطارئة ومبهمة. ورأى العدو التقليدي - الملك - يرحل إلى الأبد؛ فلم يدر أيعتبر ذلك نصرا أم هزيمة، وهيمن عليه فتور فتوجس خيفة غامضة. ولما رأى ميرفت دامعة العين لذهاب الملك تمتم بميكانيكية: هذا جزاء العبث!
فتساءلت ميرفت: ألا ترى أن السلطة آلت إلى رجل وضع نفسه فوق القانون؟!
فقال وهو لا يصدق حرفا مما يقول: إنهم يعدون بتقديس الدستور.
ومثل ميرفت بكت كوثر وهي تستمع إلى نبأ طرد الملك، واستشهد الوجيه نعمان الرشيدي بالقرآن لأول مرة في حياته فقال:
إذا زلزلت الأرض زلزالها ... وقال الإنسان ما لها .
وتحمست منيرة للحركة بلا تحفظ وبتلقائية، وأيضا متأثرة بحماس حبيبها سليمان بهجت الذي وضح أن أخاه ضمن الضباط الأحرار. ولحق بها محمد عندما آمن بأن الحركة «إخوانية» بل قد دعا إلى بعث النشاط من جديد في شعبة حلوان. ودعا حامد برهان ابنه محمد إلى مقابلة عاجلة وكان على علم بما بينه وبين ألفت، وقال له: ابعد عن الإخوان، حسبك ما أصابك نتيجة لانضمامك البريء إليهم!
Página desconocida
فقال محمد بدهشة: كيف أهجرهم بعد أن توج كفاحهم بالفوز المبين؟
فقال الأب كاظما غيظه: ما هي إلا حركة بلا جذور شعبية فلا تعرض نفسك لغضب الشعب كما تعرضت سابقا لغضب الحكومة!
فابتسم محمد ثقة وقال: الماضي مات قبل أن تمتد يد لقتله!
واعتبرت الأسرة أن لها في الحركة الجديدة عضوا، وأنها تتحول به من أسرة مغمورة إلى أسرة حاكمة أو مشاركة في الحكم، واعتبرت منيرة أن لها عضوين؛ أخاها وحبيبها، وانشرح صدر سنية وخيل إليها أن حلم تجديد البيت سيتحقق في وقت قريب، وأن متاعب المعيشة ستخف يوما بعد يوم، حتى أحزانها الخاصة ستذوب في النشوة الشاملة. وتطور محمد في أحاديثه من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم؛ فبات يقول سنفعل كذا وكذا، وتمنت ألفت أن يلمع كالآخرين وأن يذلل العقبات المعترضة لزواجها. ودون أن تدري مضت تهتم بالسياسة وبالدين متخذة من محمد مرجعا ومرشدا؛ حتى قال محمد لنفسه: إنها مختلفة تماما عن أمها التافهة.
وذات يوم سأل منيرة: كيف تتصورين موقف ماما مني إذا كاشفتها بعلاقتي بألفت؟
ففاجأته منيرة قائلة: أخبرتها رحمة بها!
فهتف: لكني لم أشعر بأي تغير من ناحيتها! - ألا تعرف ماما؟!
وكانت سنية قد رأت ألفت مرارا من نافذة حجرة نومها الخضراء، وكالعادة تنبأت بما سيحدث فوطنت النفس على التسليم به. وقالت إن حظها على أي حال أحسن من حظ ملكة مصر الضائعة، وإنه من الحماقة أن تتحدى أحداثا تحمل فوق جبينها طابع القدر. ولكن كيف يستعيد البيت شبابه؟ سيمسي ذلك حلما لا يتحقق إلا بحلم ولا يبقى لها إلا أن تعبد الله. وذات مساء راح حامد برهان يشرح خبايا الموقف السياسي لسماره قائلا: ما الحركة إلا مؤامرة أمريكية للقضاء على الوفد!
وأراد أن يحلل رؤيته ولكن حماسه فتر فجأة، وصمت، وشحب لونه وتفصد جبينه عرقا رغم برودة الجو، وطرح جسمه البدين على ظهر الفوتيل الكموني؛ فسأله حسن علما المهندس بقلق: مالك؟
حاول أن يبتسم فعجز، خانته قواه، لاح له وجه بوذا، ثم أسبل جفنيه. وحملوه إلى فراشه، استدعت ميرفت طبيب الضاحية فشخص الحال بأنه هبوط في القلب وأمره بالراحة التامة. انزعج الأهل والسمار، وذهبوا في تفسير الحال مذاهب شتى، قالوا إنها الانفعال السياسي المستمر، وقالوا إنه الزواج دون غيره، حتى قال جعفر إبراهيم: إنها مشيئة الله.
Página desconocida
ولما عرف الخبر خارج شقة ميرفت عاده محمد ومنيرة وكوثر ونعمان الرشيدي، وعادته أيضا سنية المهدي خاصة وأنه لم ينتزع من نفسها تماما رغم كل شيء. أجل ضاق صدرها لدى اقتحامها لحصن ضرتها ولكنها صافحت لأول مرة ميرفت وألفت، وانحنت فوقه متمتمة: شد حيلك!
ابتسم معلنا امتنانه، وتأزم الجو بتوتر خفي، وتضاربت شعارات المجاملة مع الانفعالات العدوانية الباطنة. وعلمت ميرفت بأنه لن يخلو يوم من أيامها من التنغيص لرؤية الوجوه التي لا تطيقها. وطال الرقاد، وعرف أنه سيطول أكثر، بل عرف أن حامد برهان لن يرجع إلى سابق عهده أبدا. وأصبح تمريضه عبئا على امرأة صاحبة مزاج كميرفت. ولم يفقد المرض حامد برهان حساسيته فسرعان ما شعر بأنه غريب في مرقده، وضاق بموقعه. ووجد في قهر المرض ما شجعه يوما على أن يهمس لمحمد ابنه: أريد أن أرقد عندكم!
وفي الحال قال محمد على مسمع من ميرفت مخاطبا أباه: لو رقدت عندنا لأعفيتنا من زيارات لا نهاية لها!
وأدركت ميرفت مغزى قوله فقالت مدارية ارتياحها: إني في خدمته مهما طال الزمن!
فقال محمد بشجاعة رجل شارع في الزواج من ابنتها: هذا لا شك فيه .. ولكن يوجد عندنا كثيرون وأنت وحيدة!
فقالت بلباقة وهي في الواقع تختم علاقتها بالرجل: إني راضية بما يريحه!
ولم تعارض سنية، وخالط حزنها على حامد ارتياح لاعترافه بأنها رفيقة المرض وأن بيتها هو المأوى. هكذا رجع حامد برهان إلى فراشه القديم بالحجرة الخضراء فاستقر السلام في عينيه الجميلتين. ولم يكن بقي من جسمه الهائل شيء يذكر، وتجسدت الشيخوخة في وجهه كأنما ألقيت عليه في لحظة خاطفة. ونظر فيما حوله بسرور طارئ وقال بصوت متهدج: أوحشتموني يا أولاد!
ولم يوجه كلمة إلى سنية قانعا بأن رجوعه يغني عن أي قول. والحق أنه عندما جفت ينابيع شهوته لم يجد في قلبه سوى حبها القديم كالكنز المدفون عندما تزاح عنه طبقة الأرض. وأن روحه - إذا حان الأجل - يجب أن تصعد من هذا المكان العتيق المبارك المعبق بأطيب الذكريات. وجعلت كوثر تنظر إليه طويلا ثم خانها صبرها فدمعت عيناها وقالت: تغيرت كثيرا يا بابا!
فوجم الحاضرون ولكن حامد برهان ابتسم وقال بلسان مضي يثقل: وأنت يا بنت ألم تصيري أما؟!
ولكنه سر الجميع بطمأنينته وأنسه بالمكان وأصحابه. وجاء يوم في مطلع الربيع شديد الحرارة فقال: لم أستحم منذ عهد طويل!
Página desconocida
فقالت منيرة بإشفاق: نرجع إلى الطبيب.
فقال بمرح: الإنسان طبيب نفسه!
وذهب إلى الحمام معتمدا على سنية ومحمد، وجرى الماء على جسده فاجتاحته فرحة شخص اعتاد طيلة حياته النظافة والأناقة، وعاد إلى فراشه سعيدا وهو يقول: الإنسان بلا صحة أقل من حشرة.
ولما جاء الليل لم ينم. تدهور بسرعة مذهلة حتى صار شحوبا مركبا على هزال. وأرق الليل كله يتأوه وجسمه يكاد يتقصف. وجيء بالطبيب فاحتج على الحمام بلا تحفظ، ولكنه حرر روشتة على أي حال، وعند منتصف الليل، وأهله محدقون به، أسلم الروح دون جهد كأنما غلبه نعاس مفاجئ ... ودل الحزن الشديد عليه على تعلق الجميع به، سنية فاق حزنها كل تقدير. ولما لم يكن يملك مدفنا فقد دفن في مدفن آل المهدي بالإمام. وأنكرت سنية حال المدفن التي آل إليها، ورأت أنه أصبح في حاجة إلى تجديد كالبيت القديم، فانضاف ذلك إلى الهموم التي استأثرت بها في الزمن الأخير. ولعل كوثر كانت أحزن الإخوة عليه لطبعها الذي يستجيب للحزن بقوة غير عادية، ولأنها أحبت الرجل لدرجة العبادة حتى إنها غفرت له زواجه من ميرفت قبل محمد ومنيرة بزمن غير قصير. وعند مطلع الصيف رجع الموت لزيارة الأسرة فأخذ نعمان الرشيدي زوج كوثر متسمما بالباولينا عقب تدهور الكلى، ولعل الموت أراحه من رعبه الذي لم يكف عن مطاردته مذ جاءت الثورة. أجل لم تكد تمسه قوانين الإصلاح الزراعي؛ إذ إن مصادر ثروته ترجع إلى العمارات والأموال السائلة، ولكنه اعتقد بأن دوره حتم مؤجل، وأنه آت لا ريب فيه. وبكته كوثر بحرارة وصدق ولكن سرعان ما أفاقت على تحرش أبنائه، فخف محمد إلى جانبها بأخوته وخبرته كمحام ولكنها قالت له من أول يوم: أبعدني عن التحديات فلا شيء في الدنيا يساوي الشقاء.
فقال بتصميم: حقك تأخذينه لآخر مليم.
فقالت بضراعة: حقي مكفول بالقانون، ولكنهم ينظرون بطمع إلى الفيلا، وهي كبيرة ولا أطمئن فيها وحدي وأريد أن أعود إلى ماما في حلوان!
ورجعت كوثر إلى حلوان حاضنة رشاد، وانهمك محمد في فرز إرثها هي وابنها من الأرض والعمارات والأموال السائلة ثم انقطعت الصلة بآل الرشيدي إلى الأبد. ورحبت الأسرة في باطنها الخفي بثروة كوثر. وانبعثت في صدورهم آمال لما هو معروف عنها من طيبة واستكانة فاعتبروها هدية مرسلة من السماء حاملة الفرج لأزماتهم المستعصية. منيرة توغلت في العمر حتى قاربت الثلاثين وهي ملهوفة على الزواج، ومحمد يشعر بأن عهد خطوبته طال أكثر مما ينبغي، حتى سنية تتوق بكل قواها لتجديد البيت والمدفن. تربصوا جميعا بأيام الحداد، ولما خفت الغيوم وواصل الراديو أغانيه تشجعت سنية فقالت في حياء مخاطبة كوثر: حبيبتي ألا ترين معي أن البيت في حاجة إلى تجديد؟!
سرعان ما شعر محمد بالخطر يهدد مشاريعه فتبادل مع منيرة نظرة سريعة جمعتهما في وجدان مشترك فقال: البيت لا يعيبه شيء وهو يستطيع أن ينتظر.
فقالت سنية محتجة: إنه مأوانا على مدى العمر!
فقال بخبرة اكتسبها في المحكمة: نحن في حاجة إلى المعونة لا البيت!
Página desconocida
وأشار إلى منيرة وإلى ذاته ثم واصل ليخفف وقع كلامه: ولو على سبيل القرض!
فسرعان ما انهزمت سنية أمام رغبة محمد ومنيرة مؤجلة أحلامها إلى مستقبل مجهول، على حين تمتمت منيرة ضاحكة: ولو على سبيل الاقتراض.
ولكن كوثر على طيبتها كانت متمرسة بواجبات ست البيت مذ عملت مساعدة لأمها، وتعلمت منها مسك الدفاتر والحرص الحكيم وكراهة الإسراف، فكانت طيبة وحكيمة. وقد شاركت في ميزانية البيت منذ أول يوم لها فيه؛ مما يسر العسر وأضفى على البيت سلاما. ولم تغب عنها أزمة محمد ومنيرة، فمالت إلى إسداء المعونة ووعدت بها. وحدث أن جاءتها خاطبة عقب وفاة زوجها بثلاثة شهور بعريس محترم يماثلها في السن فانقبض صدر محمد ومنيرة، وقال محمد بنبرة الناصح: علينا أن نتأكد من إخلاصه.
ولكن من حسن حظهما أن كوثر أعلنت زهدها في الزواج مرة أخرى، واهبة نفسها لرشاد الذي يملأ دنياها، ومتشجعة بطبع هادئ يوشك أن يكون برودا. وعلى أي حال فبفضلها أمكن أن تتزوج منيرة من بهجت سليمان، وأن يتزوج محمد من ألفت. تزوجت منيرة بعد أن صار حبها حكاية واختارت عشها شقة جديدة بالعباسية على مقربة من مدرستها، أما محمد فزف في شقة بعمارة نصف جديدة بباب اللوق ليكون على مقربة من المكتب من ناحية وليمارس نشاطه السياسي في مجاله المركزي. وخلا البيت القديم لسنية وكوثر ورشاد وأم سيد. ورثت كوثر لنظرة أمها المتطلعة وأشواقها الدفينة فأمرت بطلاء الحجرات بالزيت وتنظيف الحديقة وشراء بعض أصص القرنفل، ورغم أن ذلك لم يحقق من الحلم عشره إلا أن سنية سعدت به ولم تيئس من هطول الرحمة ذات يوم، خاصة عندما يكبر رشاد الوسيم ويدعو الأصدقاء للزيارة كما كان يفعل جده حامد برهان. وفي سكرة الفوز الطارئة أشارت بحياء شديد إلى المدفن، ولكن كوثر قالت: ماما .. إني أتشاءم من هذه السيرة!
فلم تلح، وأسفت، وقالت لنفسها «ما هو إلا البيت الباقي.» غير أن قلبها فاض بالشكر. فلو أنها لقيت الحياة وحيدة بعد زواج منيرة ومحمد لاضطرت إلى استجداء أبنائها، ولتجهمتها الحياة كما تتجهمها الأحلام؛ فالحمد لله على أي حال. وسعدت سنية أيضا لتوفيق منيرة ومحمد في زواجهما كما استشعر ذلك قلبها في زياراتها لباب اللوق والعباسية. قالت يوما لكوثر: بهجت أثبت إخلاصه بصبره الطويل ولكني غير مطمئنة لربيبة ميرفت!
فقالت كوثر بهدوء: محمد يعرف كيف يتصرف.
وبرزت منيرة في عملها التربوي أكثر بعد أن شملتها سكينة الحب، ودعا الأستاذ عبد القادر قدري «محمد» إلى مشاركته في مكتبه بعدما اعتقل أكثر من مرة لوفديته. قال يوما لمحمد: الوفدية أصبحت تهمة فانظر وتأمل!
وكاد محمد أن يجزع وهو ينتظر أن تسفر الثورة عن وجهها فتعلن حكم الإسلام ليحتل هو مكانته المشروعة. ولم يكن طموحه شخصيا فقط، فقد ملكته التجربة الدينية التي انساق إليها قديما هاويا وبمحض المصادفة، فبات يحلم بحكم الإسلام كأنه غاية من الغايات. وأنجب محمد شفيق وسهام، كما أنجبت منيرة أمين وعلي وتورد الأفق. وإذا بأزمة تعترض سبيل الثورة، وصراع عنيف يقوم بين رئيسها الأول ورئيسها الثاني، وبين شد كادت تصفى به الثورة وجذب رجعت به إلى قواعدها انقض طوفان الإخوان! وبدلا من أن يجد محمد نفسه على رأس مؤسسة أو وزارة ألقي به في أعماق سجن رهيب. وبالرغم من أنه لم تثبت عليه تهمة إلا أنه قضى في الاعتقال عامين، وخرج منه بعين واحدة وساق عرجاء. وهرع الجميع إلى شقة باب اللوق، واجتمعت للمرة الرابعة سنية وميرفت حتى قالت سنية لنفسها «قضي علي ألا أراها إلا عند حلول المصائب!» وضمت محمد إلى صدرها وهي تبكي وهتفت: عند الله الحساب يا ابني!
وتقنع محمد بوجه جديد خبر الموت والعذاب، ولكنه تجلد أمام الأعين، وقال: إني أحسن حظا ممن أهلكتهم المشانق أو غيبتهم السجون إلى الأبد.
وحاول أن يبتسم ثم قال بإصرار حقيقي: بقي لي إيمان لا يتزعزع.
Página desconocida
وكان إصراره أقوى من صوته. الآن عرف الحياة والناس كما عرف الوحشية والعذاب. واستمد من أهله قوة أشعل بها شمعة في عالم يموج بالظلام. وحانت منه التفاتة إلى ألفت فقبض على يدها ورفعها كأنما يقدمها إلى الجمهور في حفل عام وقال: إليكم أفضل زوجة على وجه الأرض!
أجل، لقد صمدت في المحنة؛ قامت بواجبها كمترجمة وربة بيت، وحضنت شفيق وسهام بالرعاية متحدية النبذ والتحقيق والرزق المحدود. أثبتت أنها أقوى مما توقع محمد أو تصورت ميرفت، وأقامت على حب الزوج الغائب بتفان، وتحمست أكثر لمبدئه، ولما رجع شبحا محطما غمرته بالحب والحنان راشقة في سمائه السوداء نجمة ماسية. وكانت كوثر تزورها كثيرا طيلة العامين، وعرضت عليها معونة ولكن ألفت اعتذرت شاكرة وإن قبلت الهدايا لشفيق وسهام. في تلك الأيام الحزينة قالت كوثر لأمها: ألفت هدية نادرة المثال.
فأحبتها سنية - ربما لأول مرة - وقالت: الشكر لله على أنها لم تعجن بطينة أمها.
ولم يكن تعريضها لميرفت من أجل مأساة الماضي وحدها ولكن لرعونتها - عقب وفاة حامد برهان - التي صارت حديث حلوان؛ برزت كامرأة متصابية في الخامسة والخمسين، متبهرجة، تنطلق بمفردها إلى الحديقة اليابانية أو السينما كأنما تعرض نفسها على الرائح والجائي. وجرى الهمس عن علاقة جديدة تتخلق بينها وبين حسن علما مهندس المباني - أحد سمار مجلس المرحوم حامد برهان - ولما شاع ما يقال وملأ الأسماع تحولت العلاقة إلى خطوبة، وطلق المهندس امرأته، ولكن الزواج تأجل إكراما لزوج ألفت السجين، وإن مورس بالفعل بصفة غير رسمية، وكانت كوثر تعلم بما يعلمه الناس جميعا ولكنها قالت: ألفت معدن آخر والحمد لله!
وأخفي الخبر عن محمد فأمضى فترة نقاهة قصيرة ثم رجع إلى مكتبه بعين واحدة وأخرى زجاجية وقلب متوثب للعمل. وغشي المحاكم وهو يعرج متأبطا حقيبته بذراع متوكئا بالأخرى على عصا غليظة. وانهمك في عمله انهماك مؤمن معذب يحلم بطوفان نوح من جديد. ومضت سنية في معاشرة آلامها التي لا شفاء منها، وأحلامها المعاندة المستعصية، مستوصية بالهدوء والصبر والرنو من حين إلى حين إلى الصورة التذكارية. ولكي تعفيها كوثر من بعض متاعبها استخدمت امرأة جديدة «أم جابر» كطاهية بعد أن اقتربت أم سيد - مثل أمها - من الستين، ولكي تستثمر جل وقتها في رعاية رشاد الذي ألحقته بروضة الأطفال سابقا ابني خاله شفيق وسهام وابني خالته أمين وعلي. هكذا بدأ جيل الأحفاد، أبناء العشق والآلام، والوطن تتجاذبه عوامل الصراع الخفية من ناحية وأحداث البطولات من ناحية أخرى. وعرفت منيرة زوجها أكثر وأكثر، زوجا عاشقا وفحلا عملاقا، وساذجا فيما يتعلق بالثقافة أو الحياة العامة، ولم يخدعها اهتمامه المباغت بالسياسة عقب اكتشافه أخاه ضمن الضباط الأحرار، وابتسمت في باطنها لأحاديثه عن الثورة ورجالها، ولحملته على الماضي ومخازيه، ومرة قال لمنيرة مفاخرا: نحن نعتبر من الأسرة المالكة الجديدة.
فضحكت قائلة: على مهلك يا أمير!
رغم حماسها للثورة منذ ساعتها الأولى، والتي لم تتغير تغيرا يذكر بمأساة أخيها التي هزتها من الأعماق. على أن قلقا ساورها مذ طعنت فيما بعد الثلاثين. إنها تمضي وحدها مخلفة وراءها زوجها يزداد تألقا وفحولة، وجعلت تطارد كلمات أمها القديمة كلما نبضت في خواطرها. واحتل سليمان بهجت مركزا ممتازا بقسم الخبرة بالزراعة بدفعة قوية من أخيه، وبدلا من أن يزيد من إسهامه في ميزانية البيت ابتاع سيارة بالتقسيط رغم التحاق أمين وعلي بالروضة وارتفاع الأسعار ببطء ماكر. وذات مساء انفجرت قنبلة تأميم قناة السويس مبشرة بميلاد زعيم جديد. ليلتها قال بهجت لمنيرة: سمعت من مخضرم أن استقبال جمال في عودته إلى القاهرة فاق استقبال سعد زغلول حين رجوعه من المنفى!
فوافقته منيرة رغم أنها لا تكاد تعرف عن سعد شيئا يذكر. ولم يستطع محمد أن يتذوق المغامرة بفمه المليء بالمرارة. واتفقت ألفت معه قائلة: معاملة إنسانية شريفة خير من بناء هرم.
فقال محمد: النبي عليه الصلاة والسلام أنشأ دولة إنسانية ولم يشيد هرما.
واستمع البيت القديم في حلوان إلى النبأ العظيم. لم تفهم أم سيد ولا أم جابر شيئا، وتوقفت كوثر عن تعليم رشاد دقيقة ثم واصلت عملها بحماس، أما سنية التي لم تشغلها آلامها وأحلامها عن قراءة الجريدة والاستماع إلى الراديو فقد خفق قلبها، واقتنعت - رغم مأساة محمد - بأن زعيما جديدا يتخذ موضعه في لوحة الزعماء الذين أحبتهم كما أحبهم زوجها الراحل. وسكر البلد بالنصر والعظمة، وانطلقت من صوت العرب زعامة عربية جديدة، وتضاربت الأنباء، واستفحلت الشائعات، حتى تجسدت الحقيقة في صورة عدوان ثلاثي، ومرحت طائرات العدو في سماء القاهرة ليلا ونهارا، تمطر قنابلها على المطارات والمواقع العسكرية. ومع أن الدبابات لاذت بأفنية العمائر إلا أن انتصارات وطنية ملأت الجو كالعاصفة وتمزق الناس بين الحماس والترقب. وتابع محمد وألفت الإذاعات الأجنبية حتى قال الرجل: انتهت حركة المجرمين، ولكن ما أفدح الثمن!
Página desconocida
وقالت سنية لكوثر: أذني سعيدة وقلبي كئيب!
فقالت كوثر مدفوعة بالخوف الذي ركبها: البلد خرب يا ماما.
فأشارت سنية إلى فوق متمتمة: لكنه موجود.
وآنست منيرة من سليمان بهجت ذعرا كأنه فأر مطارد. ودعا ربه قائلا بحرارة: اللهم لا تشمت بنا الأعداء!
وكانا يستمعان إلى صوت أمريكا بوجوم، ويغوصان في هوة خطوة فخطوة. ولكن هبت رياح شرقية وغربية فتناغمتا معا لأول مرة. احتجت أمريكا بجدية وصرامة. وتتابعت الإنذارات الروسية كالصواريخ حتى أجبر الغزاة على تصفية نصرهم بأنفسهم في إذلال لا نظير له في التاريخ. وتجلى نصر عجيب كما تتجلى فتاة الساحر من الصندوق - بعد غرز سيوفه فيه من جميع النواحي أمام المشاهدين - وهي تبسم في مرح وأمان وثقة! وسرعان ما آمن الحي والجماد بأن الزعيم حقق ظفرا كالمعجزة وبأنه عملاق بين أقزام. وصادر أموال الإنجليز والفرنسيين، ضاربا للمضطهدين مثلا أعلى، واهبا للعرب زعامة جبارة، وانتفخ بالتالي كل مواطن نافضا عن كاهله ذل العصور، وأوى الخصوم إلى الجحور ولا مطمع لهم أكثر من النسيان. ودخل الأحفاد المرحلة الابتدائية وهم يتغنون بالزعامة والنصر. سبحوا في بحيرة ناصرية صافية متطلعين إلى صورته الشامخة بانبهار وحب؛ ذلك البطل الذي بدأ به تاريخ مصر في أعقاب جاهلية ترامى ظلامها آلاف السنين. أجل حفلت المدارس الجديدة بمنغصات - كالكثرة العددية وندرة المدرسين المؤهلين وقصور البرامج - ولكن التلاميذ الجدد لم يشعروا بها، فعاناه أولياء الأمور وحدهم. أما كوثر فحلت المشكلة بمالها فكلفت الأستاذ جعفر إبراهيم - ناظر مدرسة على المعاش ومن سمار المرحوم حامد برهان - بإعطاء رشاد دروسا خصوصية في العربية والجغرافيا والتاريخ، كما كلفت الأستاذ راضي أبو العزم - من السمار أيضا - بإعطائه دروسا في العلوم والرياضة. وانتزع محمد وألفت من وقتهما المشحون بالعمل ساعات لمساعدة شفيق وسهام، على حين نهضت منيرة بعبء التدريس لأمين وعلي وحدها. وامتعضت مدام ميرفت من الحال من ناحية أخرى، فقالت لألفت: كيف ترضين لشفيق وسهام بالجلوس جنبا إلى جنب مع أبناء البوابين والخدم؟!
فقالت ألفت: مدارس اللغات والمدارس الخاصة باهظة التكاليف.
واستاء محمد لأسباب أخرى وهو يراجع كتب التاريخ والتربية الوطنية فضرب كفا بكف وقال لألفت: إنهم يحشون عقول الأولاد بالأكاذيب!
وتضاعف استياؤه وهو يشاهد حماس شفيق وسهام وتغنيهما بالزعيم على مسمع منه، وهو لا يملك إزاءهما أية مراجعة، حرصا على سلامتهما، وسلامته أيضا أن يرددا أقواله في المدرسة فيحدث ما لا تحمد عقباه؛ من أجل ذلك أخفى عنهما سر عوره وعرجه، وراح يغمغم: نحن في زمن القهر والصمت!
ونشأ رشاد وسيما، ذا طول ورشاقة، أنيقا، مغرما بأمه وجدته، مغرما بالسباحة، مع اعتدال في تحصيل العلم حتى ساواه أبناء خاله وخالته. وأحبته جدته أكثر من شفيق وسهام وأمين وعلي، لقربه من القلب والعين، ولأفضال أمه المحبوبة، ولأنها عقدت به تحقيق آمالها في تجديد البيت والمدفن. أجل بدا لعيني جدته - مثل شفيق وسهام وأمين وعلي - كأنه مخلوق بلا جذور، وكأنه لا يتنفس في جو بيتها القديم. من ذلك أنه سمع مرة اسم سعد زغلول يتردد في حديث فسأل أمه ببراءة: سعد زغلول حي يا ماما؟
وانزعجت سنية رغم أنها بررت جهله بشتى الأعذار. ومن ذلك أيضا بروده إزاء أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وولعه بعبد الحليم حافظ والأغاني الإفرنجية، وتساءلت كيف دهمه هذا التمرد على تقاليد أسرته وذوقها؟! وأخيرا قالت بتسليم: إنهم مزعجون ولكن لكل جيل شأنه!
Página desconocida
ومن شدة حبها لرشاد قالت أيضا: التنوع له جماله أيضا!
أما شفيق فكان أشبه الأحفاد بحامد برهان، فاق والده محمد في ذلك، وكان ذا صوت مقبول يحاكي به الأغاني الخفيفة، وبشر اجتهاده بحياة مدرسية ناجحة، وكان يغالي في عواطفه حتى يضيق به أبوه أحيانا، ويحول بينه وبين محاولة التسلط على أخته سهام. وكانت سهام صورة من عمتها منيرة في جمالها البراق وذكائها اللامع فسر محمد بذلك سرورا لا مزيد عليه. وأما ابنا منيرة فقد عرف أمين بالاجتهاد كما عرف علي بالعناد، واتفقا معا في طول غير عادي، حتى قال سليمان بهجت: هكذا كان والدي.
واعتاد محمد ومنيرة - وأفراد أسرتيهما - أن يتناولوا الغداء كل جمعة في البيت القديم مع سنية وكوثر ورشاد. توثقت الصلات بين الصغار، ووضح الخلاف بجلاء بينهم وبين آبائهم. وسعدت سنية بالزيارة الدورية سعادة خففت من وطأة آلامها الدفينة وأحلامها الملحة. وبإزاء تعنت أحلامها تحول اهتمامها مؤقتا إلى ذاتها، ند ذلك عنها دون شعور أو تخطيط ولكنها انساقت إليه خطوة بعد خطوة، كأنما قررت أن تصون نفسها من شوائب الزمن؛ مرة لا تعجبها أسنانها فتمضي إلى طبيب الأسنان للتنظيف أو الحشو أو الوقاية، ومرة تتوعك عيناها وهي تقرأ فتذهب إلى طبيب العيون فيعد لها نظارة طبية. وعلى حين أن كوثر تتوارى في زهد وتكبر قبل الأوان وتتعبد في حماس فإن سنية - على تدينها وتقواها - ضاقت بأول شعرة بيضاء تحبو وسط شعرها الفاحم، كرهت منظر الشيب ووجدته متنافرا مع ما تحظى به من صحة جيدة. وفي الحال أحيت تقليدا كانت أمها تتبعه في حياتها وهو صبغ شعر رأسها بالحناء فتحل الحمرة الداكنة المتفردة محل السواد التليد والبياض الوليد. وترى كوثر وهي ترمقها باسمة فتقول بوقار متغلبة على حيائها: إنها وصية جدتك يا بنت!
وهي فخور بنفسها، بذكائها واطلاعها الدائب، وتضع نفسها في موضع أعلى من محمد ومنيرة المتعلمين في إدراك أبعاد الحياة المعاصرة، بالإضافة إلى موهبة الحلم والحدس التي لم ينعم الله عليهما بشيء منها، ولكنها كانت تكره الشيخوخة ومظاهرها وترنو إلى شباب دائم مازجة ذلك بحب صاف للحياة ولله خالق كل شيء. وفي لقاءات الجمعة لمست تطلع محمد ومنيرة لإعداد أبنائهما للطب أو الهندسة فخامرها قلق من ناحية حبيبها رشاد وما يستطيع أن يحققه لمستقبله. وتملت جمال سهام بنت محمد فرأت أنه سيكون هدفا يدور حوله رشاد وأمين وعلي، وأنه سيثير متاعب عاطفية في أسرتها الممتحنة بعواطفها دائما وأبدا؛ فسألت الله السلامة، وعزت نفسها متنبئة بأن صاحب القسمة والنصيب سيفور بها قبل أن يقع أحد أقربائها في حبها. وفي حماية العلاقة الأسرية نشبت مناقشات صريحة بين محمد وسليمان بهجت، تبدأ عادة عندما يذهب الأحفاد للعب في الحديقة أو للمشي في شوارع حلوان الهادئة المترعة بالنقاء والجفاف. يقول محمد متأسفا: حتى أمام الابن لا يأمن الأب أن يفضي بذات نفسه!
فيقول سليمان ومنيرة تضحك منه في سرها: ملايين الفقراء لا يعرفون الخوف، إنه عهد الفقراء!
فيقول محمد: خير من ذلك أن يكون عهد الفقراء والأغنياء على السواء فالله خالق الجميع ومدبر لكل عملا صالحا يرضاه!
ومضت الزعامة الجديدة تتوطد وتعلو من سماء إلى سماء حتى وحد سحرها المتطاير ما بين مصر وسوريا في وحدة باهرة. تجسدت القومية العربية كحقيقة زاحفة مثلما تتجسد في الخيال كحقيقة تاريخية. وعبده الأحباب، وسلم به الأعداء مقرين بأنه ليس ابنا للمصادفات أو المؤامرات الأجنبية ولكنه ابن القدر المنذور لتغيير مجرى التاريخ. وانقلبت الرعية إلى نسور ودناصير، وتعملقت الدولة الجديدة، وألقت السماء بلسما ليداوي جرح أمة تمرغت في التراب قرونا تحت أقدام القهر والعدوان. وما مضى وقت يذكر في تاريخ الأمم حتى انتبه السعداء على جعجعة نيزك داهم على الوحدة فيفتتها في لحظة مهداة للأحزان. أي رد فعل عنيف هز الناس المتزاحمين حول الراديو في شتى المواقع! قال كل إنسان ما يشتهي، وانتفضت من جديد أصوات الشماتة والسخرية. وتلقى الزعيم الضربة بغضب، ثم ردها بعنف نحو مرمى جديد فانفجرت القرارات الاشتراكية، وحقق الفقراء نصرا تاريخيا من خلال معركة لم يقتربوا خطوة من ميدانها. وقال الأستاذ عبد القادر قدري لمحمد: لم يعد للمحاماة وزن! - كان الرجل في الأربعينيات عضوا بمجلس النواب، وعين في الخمسينيات عضوا بمجلس الشيوخ، وكان خطيبا ذا شأن وبرلمانيا ممتازا، وهو اليوم يبدو شاحبا هرما دائم الامتعاض، معدا حقيبته لأي اعتقال محتمل. وأدرك محمد أبعاد الموقف فأفضى به لألفت، ثم قال: ستزداد الحياة عسرا.
واهتمت كوثر لأول مرة بما يجري حولها. لم تمسها الإقرارات في شيء ولكنها شعرت بأن فوهة المدفع مسددة نحو القلعة التي تنتمي إليها، وسألت أمها: ماذا يخبئ لنا الغد؟
فقالت سنية: المخبأ في الغد مكتوب قبل أن تخلق السماوات والأرض!
فقالت كوثر بإشفاق: إني أفكر في رشاد، وفيك أيضا يا ماما!
Página desconocida