Lamentaciones: Seis lágrimas por un alma árabe
بكائيات: ست دمعات على نفس عربية
Géneros
يذبح كالكبش!
مد الكبير ذراعه، دون أن يلتفت نحوي. قبض على شعري فصرخت، ضحك ورنت ضحكته عالية الصوت، صاح كذئب يصرع شاة، يغرز فيها الناب، ويلقمها حجر الموت:
رأس هش! رأس هش!
الموت على بابا اليمن وكسر المرآة
أبدا لن أنظر ليلا في مرآة.
فقد وجدتني واقفا على باب اليمن، شغلتني طلعته المجيدة الراسخة عما حولي. رحت أتأمل الأثر البديع الذي أطفأ الزمن أنواره : عمودان ضخمان يقفان على الجانبين كشجرتين عظيمتين غرستهما يد الماضي، ضيقتين في أعلاهما، منحدرتين بميل لطيف إلى أسفل، كتمثال ملكة بضة بلا رأس ولا أذرع. تفتح ساقيها الممتلئتين بذكريات التاريخ، فتمر منها مواكب غزاة، وطغاة، وأمواج حفاة وعراة، نبهني صوت يهتف: سيمر الموكب بعد قليل. ولكزني صاحب الصوت في صدري ومد لي حزمة ورق أخضر يقطف منه ويمضغ. التفت إليه، هل هذا وجه بشري أم وجه جرادة ملتحية؟ وعبرته العين إلى وجوه أخرى متحلقة في دائرة متسعة، نفس الوجوه الذابلة الصفراء، نفس العيون الجاحظة المتعبة، والأرجل الناحلة الحافية السمراء. وازدادت الحركة في الميدان الصغير، بشر وحمر وجمال ترتع حرة، كأنها في مهرجان يمتطي صهواتها شيوخ وقضاة وحراس. وطبول تدوي من بعيد وأصداء أبواق. قلت لجاري: اليوم يتم الإعدام؟ انفتح فمه الساخر عن أسنان صفراء: وهل اليوم هو الجمعة؟ أسرعت أقول: غدا الجمعة. فلماذا هذا الجمع الحاشد؟ افتر فمه ووجهه الضامر عن بسمة ماكرة: غريب أنت؟ قلت: إنسان مثلك، وأوحد بالله. قال: لكنك من بلد آخر؟ قلت: من دار الإسلام المصحف واحد، والهم كذلك واحد. بالله عليك، ماذا يجري اليوم؟ قال بعد أن اطمأن قليلا: غدا بعد صلاة الجمعة يقطع سيف الجبار رقاب الكفرة. أما اليوم فيلقى الجبار رعاياه. سألت: مجلس القضاء الأسبوعي؟ تدخل جار: بل يعرض معجزة وكرامة. لم يترك لي وقتا للتعبير عن الدهشة؛ فقد لسعته ولسعتني في وقت واحد لطمة سوط مفاجئة من «عكفة» الإمام. لقد أخذوا يقطعون الساحة الصغيرة وأيديهم تلوح بالسياط، وتضرب بها الوجوه، فتستقيم الصفوف، وتشهق الصدور، وتتعلق العيون بالموكب المنتظر.
أخيرا ظهرت طلائعه، وأخذت تقترب، يتقدمها فرسان الإمام وحراسه، جراد آخر بلحى سوداء، يزحف على أقدام حافية، تبرق في وجه الظهيرة عيونهم المحمرة، وحناجرهم الحادة، وسيوفهم الطويلة المدلاة من خصورهم، وبنادقهم العتيقة المصوبة إلى الصدور. كانوا يسيرون على أقدامهم، أو من فوق بغالهم وجمالهم فيهشون الحشود ويصيحون: الإمام! الإمام! ثم يتراجعون ويتحلقون حول محفة كبيرة محمولة فوق أعناق عبيد سود، تتدلى ضفائر شعرهم الأجعد من جانبي رءوسهم الصغيرة. وأخذت المحفة تتمايل، حتى توسطت الدائرة المرصوصة كالسور الطيني. أرسلت عيني إلى وجه الإمام، مستدير أبيض تحوطه لحية اختلط فيها الشعر الأسود بالأبيض والعينان متسعتان ينفذ منها بريق كحد السيف. أزرار بيض بأزرار سوداء، حوله حزام عريض أخضر يلمع فيه الزمرد والياقوت، ويرقد في جرابه خنجر ظهر مقبضه الفضي الموشى بالذهب.
تفرست العينان السوداوان الواسعتان في الجموع، دوت الطبول والأبواق وصرخ العكفة: مولانا آمين، مولانا آمين. وطلع خلفه شيخ قصير في ثياب فقيه أو قاضي الشرع: اليوم ترون كرامة الإمام. هل توضأتم أيها الناس؟ تردد صوت واحد: نعم آمين! رن صوت الفقيه: ستصلون وراء الإمام، وتصلي معكم القطط والكلاب. خيم الصمت على الجموع، نظروا إلى الفقيه، وهو ينحني أمام الإمام، كأنه عابد يقدم البخور للصنم المعبود. مد ذراعيه إلى أحد الحراس الذي ناوله كلبا كبيرا كان يحمله على كتفيه. وضع الكلب خلف الإمام الذي وقف وقفة الصلاة، ورفع ذراعيه بالشهادة. صاح الفقيه: انظروا! حتى الكلاب تأتم بسيدنا الإمام، حتى الحيوان الأعجم يركع ويسجد وراءه فحذار حذار!
سرت همهمة بين الناس، لكنهم كتموها وهم يبصرون الكلب يرفع ساقيه الأماميتين، ويحاكي فعل الإمام، رفع الجميع أذرعهم. دوت الشهادة كموج البحر، وانحنى الإمام راكعا، فركع الكلب وراءه، وخفضت العيون المتعجبة أبصارها، ومالت جذوعها راكعة، وسجد الإمام فسجد الكلب، وخرت الجباه على الأرض، كما خر رأس الإمام وكلبه الضخم، ونفذت صيحة الفقيه: كرامة الإمام! معجزة الإمام!
اندفعت أشق الزحام، حتى توسطت الساحة، وقفت تحت المحفة العالية التي تتم عليها المهزلة. ارتعشت عيون العبيد، واهتزت ضفائر شعرهم، وأنا أهتف: دجال! دجال! دجال!
Página desconocida