وتنعش مجاري الحياة الاقتصادية والحروب وتنافس الأمم مدن الساحل كما تعين الرياح حال الجو، وإذ إن للبحر المتوسط طبيعة بحيرة تقريبا فإن هذه الطبيعة تجعل ذلك الاصطراع منوعا أكثر مما في أي مكان آخر، وما يتصف به من كثافة ماء واختلاف مستوى وحرارة وكثرة جزر وفرض يمأى
32
الجريانات التي تعين حيوان البحر ونباته، وكذلك تعين حياة الأنام على الشاطئ بفوران الجريانات الذهنية الدائم.
وتنظم المضايق تلك الجريانات على وجوه مختلفة، وهكذا يمثل الدردنيل دور ترعة عظيمة بين بحرين، ويكثر ما يرسله البحر الأسود من ماء ما دام بخره أضعف من اندفاع نهره الكبرى ومع بطوء ما يأتي من البحر المتوسط، ويعرف «البحر الأحمق» في ساحل صقلية بأنه يبتلع البواخر الكبيرة فضلا عن الزوارق، ولا غرو، فهو جريان يدور من فوره.
وبجانب القوى المقدرة التي تصدر عن تلك الأعماق بغتة، يبدو ذلك البحر الملغز كبعض العظماء الذين ينطوي ابتسامهم على وعيد فيستطيع أن يجيء بمفاجآت ناعمة، ومن ذلك جريانات مائه العذب التي لا تختلط بماء البحر، وكان معظم هذه الينابيع مألوفا لدى القدماء، ومن هذه الينابيع واحد في خليج سبيزية وآخر في ترانت، فيمكن صيادي السمك عند العطش أن يستخرجوا من كل منهما ماء صالحا للشرب في وسط الخليج، ومثل ذينك الينبوعين ينبوع أريتوز الواقع بالقرب من سرقوسة والذي تغنى به الشعراء. وفوق تلك الجهات شبه الرعائية يشتد اعتراك الأرض والبحر، وعملت الرياح والجريانات عملا مضاعفا في الشواطئ فأدت هجمات البحر إلى سقوط طرائد
33
كبيرة من الأرض إلى الماء في أزمنة ما قبل التاريخ غالبا، غير أن الغرين الذي كشفت عنه المستحاثات البحرية، وركم في غضون الزمن، كان قد حمل القدماء على تغيير مرافئهم التي تملأ رملا.
وهنالك، على مستوى الشواطئ، يوجد الميدان الأكبر للصراع بين الأرض والبحر اللذين يتقاتلان ويدافع كل منهما عن الآخر مناوبة، والبحر يناطح الصخور القاسية على غير جدوى، ولكن كل ما ينفصل عنه يسقط في قعر الماء، والبحر يقرض رواسب الطين على مهل، ولكن سيلا جبليا يكون كالمحارب الشاب الذي يلبي نداء فيعوض في بضع ساعات من المكاسب التي نالها البحر في أشهر تولج بطيء. وفي البحر المتوسط يعقب خط الساحل الصخري المفرض، مناوبة، ما في الشواطئ الرملية من منحنيات طويلة، بيضية على العموم، ويكتب الفوز للبحر في أسفل الأودية الخسف وفي دلتات الأنهار عندما تنثني المجاري الرئيسة باحثة عن مصاب أخرى.
وفي هذا الصراع بين البحر والأرض، تكون الأرض خاسرة على الدوام، وذلك بتواريها تحت الأمواج كسرة بعد كسرة، أو بانضمام رواسب غرينية إليها، وفي كلتا الحالين يسيطر عليها العنصر المعاكس، وليس في سوى الزمن الحديث ما استطاع الإنسان بحذقه أن يحمي الأرض من البحر، وما وجده المهندسون المعاصرون من فائدة في تجفيف بعض أجزاء البحر في هولندة وما أراده أولياء الأمور ومحبو الإنسانية من اقتطاع أرضين جديدة من البحر أسفر عن تحقيق المتعذر، غير أن الماء في حوض البحر المتوسط ما انفك، في جو ملائم لعمله، يدرس الساحل منذ القديم.
وأول ما نرى الأب الشائب النيل الذي بلغ غرينه من رمل الساحل السوري ما غدا معه المرفآن، صور وصيداء، واقعين داخل الأرضين في الوقت الحاضر. وكان الإسكندر قد أقام سدا يصل جزيرة صور بالشاطئ، فجعل الغرين هذا السد عريضا كما لو كانت العناصر قد وافقت على فكرة العاهل.
Página desconocida