أو مطبخه، أن يكون ذا خطو خفيف ووجه طليق كأهل البحر المتوسط الذين يكادون يقضون جميع أوقاتهم في الخارج؟ ومع ذلك لا يقتطف فلاح البحر المتوسط ثماره بسهولة كما يفعل زنجي أوغندة، وما يؤدي إليه عدم المطر من عيشه في الهواء الطلق يحمله على أعمال الري، وليست حياته أطول من حياة الجرماني ولكنها خير من هذه، وله وقاية بالحر من غير إرهاق، وهو لا يحتاج إلى العمل الشاق، وما يناله من محصول عادي يكفيه، وكل ما يحتاج إليه هو الحبوب والزيتون والخمر والتبغ تقريبا، أجل، لا يعيش عاريا كالزنجي، وهو يقدر الزخارف، غير أنه يكتفي عادة بدراعة
30
وبعمرة،
31
وقد تعودت رجلاه الأرض الحجرية بالوراثة.
وهكذا ظهر في إقليمه نوع من الحياة يتعاقب من غير تحول في غضون الأجيال ويتكرر برجوع الأوضاع نفسها مع الأدوار والحدود التي لا تستطيع الطائرة ولا الإذاعة أن تغيرها. وذلك لأنه حينما يجلس للشرب تحت عريشه فيلف سغاير ويبصق وينتقد حكومته تكفيه نظرة إلى السماء الصافية وإلى البحر الأزرق لتطمئن نفسه وتقر عينه.
5
يمس البحر المتوسط ثلاث قارات، ولكنه يجمعها بدلا من أن يفرق بينها، ولو كان من هوى إله قديم أن يجري هذا البحر من مضيق جبل طارق وأن يخصب بقوة سحرية حوضه الذي يجف وأن يغدو حوضه هذا معمورا لأصاب العالم القديم وصب، وهل كان العالم الحاضر يصير أكثر ثراء لو كان قد خلف الآلهة مهندس فأزال مياه تلك المساحة العظيمة بعمل أسطوري وأضافها إلى أوروبة الزاخرة بالسكان؟ ما كانت أوروبة، أو هذا الرأس الآسيوي الصغير، لتكون لو تألفت منها ومن أفريقية الثابتة كتلة واحدة، والبحر المتوسط وحده هو الذي أوجب الحركة التي سما بها العالم الغربي إلى نور الفكر. وإذا كانت ذات العبقرية الجامحة أوروبة الصغيرة قد استطاعت أن تتخلص من آسية وأفريقية، من هذين التمثالين الثقيلين، فإنها مدينة بذلك للبحر المتوسط الذي فصلها عنهما والذي تشق عبابه ألوف السفن ذهابا وإيابا كرسائل الغرام بعد الفراق.
وتكفي نظرة واحدة على الخرائط العجيبة التي تعرض علينا رموز العالم لإثبات تحويل البحر المتوسط لذينك الغولين الراقدين، ولم تعتم جموعهما الناقصة؛ أي جزرهما وسلاسل جبالهما وجحفل جزائرهما حول الخلجان، أن أخذت تنتظم، وما كان من اختلاط الأرض والماء الذي نجم عن ذلك، ومن سخاء السعاة الذين ظهروا لاختصار المساوف يلوح أنه نتيجة لإرادة القارات الثلاث التي سلمت أمرها إلى البحر لتبادل حضاراتها، ومن الصحارى والجبال ما يفصل بلاد الساحل عن الجنوب والشرق فيؤلف وحدة لها في حياتها الخاصة، واليوم تشتمل منطقة البحر المتوسط على ثلاثة أرباع أوروبة وعلى ثلاثة أرباع تاريخها، ومن البحر المتوسط أخذت أوروبة كل شيء تقريبا، وذلك من غير أن تأتيه بشيء، وعكس ذلك ما اتفق لآسية.
وهنا نرد بمباحثنا إلى العناصر، فنرى أن الطبيعة هي التي تعين تاريخ الأمم أو أنه يتأثر بها تأثرا عميقا على الأقل، وما في الأمواج من جريان، وما في اصطراع الأرض والماء من تبدل، وما في عالم الأسماك والأشجار من تغير، ذو انعكاس على النمو البدني والاتجاه الروحي لكل واحد، ولو من غير شعور بذلك، ولو مع محاولة الابتعاد عن ذلك، ومن تندر دراسته للطبيعة أو إدراكه لأمرها فيقضي العجب من تدخلها في الغالب ولكن بعد الأوان. وقد قال نابليون إن العناصر، لا الأسلحة، هي التي قهرته، وإنه لم يقدر ثلوج روسية تقديرا مضبوطا، ولا نستطيع أن نفقه ما نرى تكاثره على شواطئ بحرنا ما لم يكن لدينا سابق عرفان بما يعمل ويعيش في الأمواج وما ينبت على طول الساحل.
Página desconocida