وذلك أن الصبي أمانة عند والديه ، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ، خالية من كل نقش ، ومائلة عن كل ما ميل به إليه ، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه ، وسعد في الدنيا والآخرة ، ويشارك في ثوابه أبواه ، وكل معلم له ومؤدب ، ، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك ، وكان الوزر في رقبة القيم عليه ، والوالي له ، لتضييعهم أمانتهم ، وتركهم أمر ربهم في قوله عز من قائل : (( قوا أنفسكم وأهليكم نارا )) ومهما كان الأب يصونه عن نار الآخرة أولى ، وصيانته أن يؤدبه ويهذبه ، ويعلمه محاسن الأخلاق ، ويعلمه من القرآن ، ولا يعوده التنعم ، ولا يحبب إليه الزينة وأسباب الرفاهية ، فيضيع عمره في طلبها إذا كبر ، فيهلك هلاك الأبد ، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره ، فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة صالحة متدينة ، تأكل الحلال ، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه ، فإذا وقع عليه نشوء الصبي ، انعجنت طينته من الخبث فيميل بطبعه إلى ما يناسب الخبائث ، ومهما رأى فيه مخايل التمييز ، فينبغي أن يحسن مراقبته ، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ، ويترك بعض الأفعال ، فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه ، حتى يرى بعض الأشياء قبيحا ومخالفا للبعض ، فصار يستحي من شيء دون شيء ، وهذه هدية من الله تعالى إليه وبشارة تدل على اعتدال الأخلاق ، وصفاء القلب ، وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ ، الصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل ، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه ، ثم يشغل في المكتب ، فيتعلم القرآن وأحاديث الأخيار ، وحكايات الأبرار وأحوالهم ، لينغرس في قلبه حب الصالحين ، ويمنع من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله ، ومن مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع ، فإن ذلك من لغو الكلام وفحشه ومن اللعن والسب ، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك ، فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء ، ومهما بلغ سن التمييز ، فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاة ، ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان ، ويجنب لبس الحرير والديباج والذهب ، ويعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع ، ويخوف من السرقة وأكل الحرام ، ومن الخيانة والكذب والفحش ، وكل ما يغلب على الصبيان فإذا وقع نشوة كذلك في الصبا فمهما قارب البلوغ ، أمكن أن يعرف أسرار هذه الأمور ، فيذكر له أن الأطعمة أدوية ، وإنما المقصود منها أن يقوى الإنسان بها على طاعة الله عز وجل ، وأن الدنيا كلها لا أصل لها ، إذ لا بقاء لها ، وأن الموت يقطع نعيمها ، وأنها دار ممر لا دار مقر ، والآخرة دار مقر لا دار ممر ، وأن الموت منتظر في كل ساعة ، وأن الكيس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة ، حتى تعظم درجته عند الله تعالى ، ويتسع نعيمه في الجنان ، فإذا كان النشء صالحا ، كان هذا الكلام عند البلوغ واقعا مؤثرا ناجعا ، يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر ، وان وقع النشء بخلاف ذلك ، حتى ألف الصبي اللعب ، والفحش والوقاحة ، وشر الطعام واللباس ، والتزين والتفاخر ، نبا قلبه عن قبول الحق نبوة الحائط على التراب اليابس .
Página 62