وكان هناك بريطاني في سراويله الكاكية القصيرة، واقفا على مقربة منهم في كوخ من الطين ذي سقف من القش؛ هذا الكوخ هو مركز الانتخاب، وتردد الناخبون الشلوك وهم يتقدمون نحوه، وراحوا يلعبون بأصابعهم في خرزات اللحم التي برزت من جباههم، والتي صبغوها بصبغة حمراء؛ وجعلوا ينظرون إلى صف من صفائح البنزين الفارغة - وهذه الصفائح هي صناديق الانتخاب ... وأخيرا وجه أحدهم سؤاله للرجل الأبيض: في أي الصفائح نضع هذه الورقة المسحورة؟ فأجابه الرجل الأبيض: لكم أن تختاروا ... فانطلق الشلوك يلقون بأوراق انتخابهم في الصفائح جزافا ...»
لو كان نصيب الإنجليز - والأمريكيين المتعصبين للإنجليز - هو هذه المرارة، ونصيبنا قلوب السودانيين، فلنا الكسب وعليهم الخسران.
اجتمع عدد كبير من أساتذة الجامعة في الغداء، وخطب فيهم بعد الغداء الدكتور فرانسز كوكر أستاذ النظريات السياسية في جامعة ييل، والذي دعوه أستاذا زائرا هنا ... وموضوع خطبته هو واجب الأستاذ الجامعي إزاء لجنة التحقيقات ... وهي لجنة يؤلفها الكونجرس للتحقيق مع المتهمين بالشيوعية، وبناء على الدستور الأمريكي يجوز للمسئول أمام أي لجنة للتحقيق ألا يجيب حتى لا تكون إجابته سببا في إدانته؛ فكثيرون ممن تناديهم لجنة التحقيق المذكورة يسكت عن الإجابة، والدكتور كوكر في كلمته اليوم يقول: إن واجب الأستاذ الجامعي أن يعين لجنة التحقيق على أداء عملها بأن يجيب عن أسئلتها ...
إنني في الحق لفي دهشة لا تنقضي من هذا الذعر الذي رأيته يملأ الناس هنا من الشيوعية! إنه يستحيل على أحد خارج الولايات المتحدة أن يتصور مدى فزعهم إلا إذا جاء هنا ليعيش بينهم حينا، فيقرأ الجرائد ويسمع الراديو ويتحدث إلى الناس، فعندئذ يلمس في قوة كم يعيش الناس في هلع وفزع من الشيوعية ... إنني الآن لا أستطيع أن أتصور أمريكيا واحدا - مهما بلغت جرأته - يستطيع أن يعتنق شيئا من المذهب الشيوعي في صراحة؛ فكيف إذا لا أسأل نفسي: ما الفرق بين هذا الجو الفكري وبين ما يقولونه عن الروسيا من إرغامها الناس على قبول مبدأ واحد، ثم تكم الأفواه عن نقد ذلك المبدأ والخروج عليه؟ ستظل الدنيا إلى أبد الآبدين في هذا الضلال العقلي، وهو أن تظن كل جماعة أن دينها خير دين، ومذهبها السياسي خير مذهب، وأصلها أشرف الأصول!
من الملاحظات التي تبرز لعين الرائي بروزا واضحا جهل الأمريكيين بالعالم الخارجي جهلا عجيبا، وقد عثرت اليوم في مجلة «تايم» على ما يؤيد هذا؛ إذ أجرى معهد الصحافة الدولي هنا بحثا علميا نشره هذا الأسبوع في 266 صفحة، وهو بحث خاص بكيفية تلقي الأمريكيين للأنباء الخارجية ومدى اهتمامهم بها، وقد تناول البحث 177 صحيفة يومية، وخمسا وأربعين شركة من شركات الأنباء، ومئات من المراسلين والمحررين ... إلخ؛ ونتيجة البحث هي أن القارئ الذي ينفق في قراءة صحيفته اليومية ثماني عشرة دقيقة في اليوم، يخصص من هذه المدة دقيقة للأنباء الخارجية؛ ولذلك يجهل القراء شئون الخارج جهلا شديدا؛ فأكثر من 56٪ لم يعرف من هو «سنجمان ري»، و40٪ لم يعرفوا من الذي خلف ستالين في روسيا، و27٪ فقط هم الذين عرفوا أي حزب يحكم الآن في بريطانيا ... ومن المصادفات أن من بين العنوانات الصحفية التي عرضت للبحث العنوان الآتي الذي نشر حين نشر بالخط العريض: «إسرائيل تدرس الاقتراحات التي قدمتها مصر»، فوجد أنه لم يقرأ هذا النبأ في الجريدة قارئ واحد!
ويقول التقرير إن الدراسة قد دلت على أن اهتمام القراء في أمريكا مقصور إلى حد كبير جدا على البيئة المحلية القريبة؛ فيعنى القارئ أكثر ما يعنى بشئون الولاية التي يعيش فيها، وحسبه ذلك في معظم الأحيان.
وهذا ما قلته مرارا للذين أتحدث إليهم هنا؛ إذ عبرت عن دهشتي من مدى النزعة الإقليمية بين الناس؛ ففي كولمبيا مثلا لا يكاد يقرأ قارئ واحد أي صحيفة غير الصحيفة المحلية التي تصدر في كولمبيا؛ فإذا حللت هذه الصحيفة وجدت تسعة أعشارها عن ولاية كارولاينا الجنوبية نفسها من تجارة ومشروعات وسياسة وتعليم وزواج ووفيات.
الجمعة 4 ديسمبر
المجلات الأدبية كلها تعلق في استفاضة على كاتبهم المسرحي «يوجين أونيل» بمناسبة موته منذ أيام؛ كان أكبر كاتب مسرحي عندهم، وهو الذي ظفر بجائزة نوبل عام 1936م، وله ثمان وأربعون مسرحية ... وقد أردت أن أحييه عند رحيله فقرأت له ثالوثه المسرحي «إلكترا».
كان أرسطو قد رأى أن يكون بطل المأساة ذا هيبة وجلال ومكانة عالية، ثم يهبط إلى هوة يتناسب سحقها مع الرفعة الأولى، وبهذا الانتقال من القمة إلى الحضيض تتألف المأساة في صميمها ... لكن هذا الرأي في المأساة لم يكن ليتفق مع فن يوجين أونيل؛ لأنه لا يتفق ووجهة النظر الأمريكية إلى أفراد الناس والحياة، فليس بين الأمريكيين من ينظر إليه الناس وأعناقهم مشرئبة؛ إذ ليس فيهم من يعلو على بقية الشعب علوا يجعله في رفعة ويجعلهم في حضيض؛ فالأمريكيون من أشد شعوب الأرض اعترافا بقيم الأفراد وبالمساواة بين الرءوس؛ فأعظم عظيم فيهم قد يخاطبه الناس بالجزء الأول من اسمه حتى لا يبقوا له على وقار خاص، وقد تنشر له الصحف صورا في حياته الخاصة، يأكل أو يلعب بحيث يبدو للناس على حقيقته بشرا، وإذا فيستحيل على مسرحي في أمريكا أن يجعل مأساته قائمة على سقوط العظيم كما أراد أرسطو وكما كانت السنة عند رجال المسرحية فيما مضى من زمن ... وقد قيل في إحدى مسرحيات «أونيل» إن الشخصيات تبدأ مجموعة من سكارى وتنتهي كما بدأت مجموعة من سكارى؛ أي إنه لا ارتفاع ولا هبوط.
Página desconocida