وإني الآن لأطبق هذه القصة على نفسي، وعلى القلق الذي ألم بي وغمني، فأقول: إنني كلما ازددت معرفة بنفسي ازددت يقينا بما يملؤها من عقد، وكلما أدركت أنها نفس مريضة ازددت قلقا بل ازددت خجلا، قلت لنفسي إنك لم تكن بهذا العجز كله فيما مضى، وأخذت أتذكر أيام طفولتي وشبابي، فلم أتذكر إلا جرأة على المجتمع ... والآن قد عرفت لماذا يزداد ارتباكي كلما كبرت، وكان العكس أحق أن يقع؛ فالسبب هو أني عرفت نفسي حين ألقت بها الظروف في أوساط مختلفة ... أتكون معرفة الإنسان لنفسه وتحليلها مصدرا لشقائه، كما كانت معرفة آدم للخير والشر بداية لعنائه؟!
الثلاثاء أول ديسمبر
قرأت في مجلة «لايف» موضوعا شائقا بالصور الجميلة عن الحيوانات البحرية كيف تعيش في جوف المحيط: كيف تعيش في ظلام القاع الذي لا ينفذ إليه شعاع من ضوء؟ كيف يفتك بعضها ببعض؟ كيف أعد كل نوع منها بطرائق التخفي وأساليب الهجوم والدفاع؟ ... كل ذلك معروض عرضا يجعله أقرب إلى القصص الممتع منه إلى الوصف الطبيعي الصادق.
ويكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا، ماذا صنعت المجلة لتجمع مادته، ثم أسأل نفسي: ماذا تفعل مجلة مصرية في الموضوع نفسه إذا أرادت أن تنشر عنه شيئا؟ أقول إنه يكفي أن أفكر في موضوع واحد كهذا في مجلاتهم ومجلاتنا لأدرك لب الفرق بين شعب وشعب؛ فمجلة «لايف» هي التي أرسلت المصورين، وهي التي جمعت المختصين بدراسة الحيوانات البحرية، ولبث عملاؤها ثلاثة أعوام في رحلات بحرية، يغوصون في قاع المحيط ويلاحظون ويصورون ويصفون ... فالمسألة كلها من أولها إلى آخرها من تدبير المجلة، تفكير وابتكار ومغامرات وعلم وكتابة وتأليف وتنسيق ... أما المجلة المصرية فماذا تصنع؟ تنقل عن مجلة «لايف» ما كتبته وصورته، ثم يقول لك الناقل بعد ذلك إنه أديب! خلط وجهل وادعاء ... ها هنا كل الفرق بيننا وبينهم؛ فليس الفرق المهم هو ثراءهم وفقرنا، بل هو ابتكارهم وعجزنا ... يستحيل أن نتقدم تقدما حقيقيا إلا إذا كان لنا ابتكار، إلا إذا بدأت الأفكار من عندنا أحيانا، أما أن يبتكروا هم الطيارة ونحن ننقلها ونقول إن لدينا مهندسين كمهندسيهم، وأن يبحث علماؤهم في الطب والفيزيقا والنفس وما إلى ذلك، فنحفظ ما كتبوا ثم نقول إن منا العلماء في الطب والفيزيقا والنفس؛ فإغماض لأعيننا عن سر التقدم وسر المدنية كلها، بل سر الإنسان وهو الابتكار؛ يعوزنا إدراك هذه الحقيقة في وضوح، وهي أن الفرق بعيد بعد ما بين الأرض والسماء، بين المبدع الخلاق المبتكر وبين من يسير بعد ذلك في الطريق، وقد شق وعبد بمغامرات المغامرين وتفكير المفكرين، الفرق بين هذا وذاك هو نفسه الفرق بيني في رحلتي إلى أمريكا وبين كولمبس حين ارتحل مخاطرا مغامرا مفكرا مدبرا.
الأربعاء 2 ديسمبر
ذهبت مع الدكتور «ف» إلى ناد هو عضو فيه: «نادي الكتاب الخالد»، وأعضاؤه جماعة تجتمع مرة كل أسبوعين، وهي تقرر في كل مرة كتابا من الكتب الخالدة العظيمة يقرؤه الأعضاء ثم يجتمعون للمناقشة فيه؛ وقد علمت منهم الليلة أن مثل هذه الجمعية موجود في كل أنحاء الولايات المتحدة؛ والكتاب الذي قرأه الأعضاء وناقشوه في هذه الجلسة كتاب للأديب الفيلسوف الروماني «لوسيان» ... وعند انصرافهم قرروا للجلسة الآتية كتابا لتوماس الأكويني.
ولما عدت إلى غرفتي في المساء، قرأت في مجلة «بوست» أولى مقالتين عن الرحلة التي قام بها بعض الرحالة محاولين بها الصعود إلى قمة جبل قره قورم في باكستان؛ وهي القمة التي تتلو قمة إفرست ارتفاعا ... وصف الرحلة دقيق مليء بالحياة والحركة، ولا يسعك وأنت تقرأ إلا أن تشارك الكاتبين (فقد اشترك في المقالة كاتبان من بين الرحالة أنفسهم) في الصعود وفي الصعاب التي لاقاها الرحالة، وفي الفرح الذي شعروا به كلما حققوا شيئا في رحلتهم.
ومرة أخرى أسأل نفسي: ما الفرق بين هذا الموضوع يكتب في مجلة أمريكية وبينه هو نفسه يكتب في مجلة مصرية؟ والجواب هو: إن الذي يكتب هنا هما كاتبان اشتركا فعلا في هذه الرحلة؛ فهما يكتبان خبرات خاصة، ويصفان جهدا خاصا نبض له قلباهما ... وأما إذا كتبته مجلة مصرية فلا حيلة لها سوى أن تلخص ما كتبته المجلة الأمريكية - وأقول «تلخص» ولا أقول، «تنقل»؛ لأن من يقوى على متابعة التفصيلات بين قرائنا يعدون على أصابع اليدين - والمصيبة الكبرى أن من يلخص عن المجلة الأمريكية سرعان ما يقول عن نفسه - وقد يقول عنه الناس - إنه أديب! ... وأعود فأقول يائسا ألا فائدة من هذه الحال ولو قضينا ألف ألف عام! فستظل المدنية مدنيتهم، والجهد جهدهم، والتفكير تفكيرهم، وأما نحن فسننقل من هذا كله لمحات عابرة، وكفى الله المؤمنين شر المغامرة والمخاطرة والجهد والتفكير!
الخميس 3 ديسمبر
عرفت مدى حبي لمصر حين رأيت كيف أخذتني النشوة عندما قرأت هذا الصباح لأول مرة نتيجة الانتخابات في السودان التي جاءت مشرفة باهرة؛ نشوة كأنما هبطت علي ثروة مفاجئة، فنبض قلبي وقمت عن مقعدي لأجلس مرة أخرى، ثم قمت لأجلس على الكنبة، ثم قمت فأعددت فنجانا من القهوة ... قلقت قلق المسرور الفرح ... وكتبت مجلة «تايم» في ذلك متهكمة ساخرة؛ إذ قالت في أول مقالها: «في الجنوب الاستوائي - وعلى الضفة اليسرى من النيل الأبيض - جلس ملك الشلوك تحت شجرة من أشجار المانجو مرتديا ثوبا أبيض، وماسحا بكفه على لحيته الخشنة، وجاء رعايا جلالته الأميون فقبلوا قدميه السوداوين، وسألوه: لمن نعطي أصواتنا؟ فأجاب الملك: اسألوا الرجل الأبيض.»
Página desconocida