فقرأت ما ترجمته: قال أحد السياسيين اليابانيين: لما كانت اليابان لا تهتم إلا بالصناعات القيمة، والفنون الجميلة، والأعمال الشريفة، كانت أوروبا تعدهم نصف متوحشين، وتسومهم سوء الذم والمقت أجمعين، فلما أن أهلكوا خميسا عرمرما من الروس، وأزاحوا عن أبدانهم الرءوس. قالت أوروبا: إنهم قوم متمدينون، وأناسي صادقون. ثم تناول مني الكتاب، وقال: وهل تريد برهانا على ضعف قواكم العقلية، وملكاتكم الإنسانية أقوى من هذا البرهان.
مساكين يا أهل الأرض، إذا رجعت إلى قومك أيها الإنسي فخبرهم أنهم للعذاب معرضون، وللهوان مسارعون، إذا داموا على ضلالهم المبين فتلق نصيحة السيد «جامون» بقلب واع، وفؤاد حافظ، وبلغها لأهل الأرض لعلهم يعلمون.
فرجعت إذا السيد «جامون» متربص قدومي، منتظر رجوعي، فلما رآني واستقر بنا الجلوس. قال: يا ابن آدم الأرضي لا تحزن، فسألقي عليك درسا فانشره بين الأمم، وقل لهم ينعموا النظر وليشرحوه، وليفكروا فيه بعقولهم، ولترسله إلى مشارق الأرض ومغاربها. فقلت: لك الشكر، وعلي السمع والطاعة. فقال: وإني سائلك قبل نصيحتي عن أممكم العظيمة، هل داووا جراح الحرب؟ فقلت: نعم، بمحكمة «لاهاي» يحكمون فيما اختلفت فيه الأمم من صغائر الأمور. فقال: وهل هذا دواء ؟
ألا إنما مثلهم مثل الطبيب المأجور الذي لا يبالي بالمريض، إذا آنس فيه أمراضا ظاهرة، لها أصل خفي في الأعضاء الباطنة، داوى القروح بالمراهم، وترك الباطن، فلم يستأصل داءه، ولم يستقص أصله، ويقطع جذوره من أعماق الجسم، ذلك مثلكم.
فقلت: هناك أطباء يداوون الجرحى، من وخز الأسنة، وطعن الرماح، وفتك المدافع. فقال: وما منعهم أن يقتلعوا المرض بالحكمة، والفلسفة، وهلا دعت أمة منهم العلماء المغرمين بمنفعة النوع الإنساني، فاصطفت من كل أمة رجلا، سواء في ذلك أمم المشارق والمغارب، لينظروا في التحاب والتواد، والتعليم العام بين الأمم. وإني سأضع لكم مباحث، تدور عليها محاور أبحاثكم وآساسا تبنون عليها قصور علمكم، وتشيدون حصون حكمتكم، وترفعون بنيان مجدكم، ولا أدعكم على غير هدى، وإننا الآن بما وصفنا وما سنصف نريد من الأمم أن تكون كالرجل الذي يحفظ صحته بقانون حفظ الصحة، بالسير على منواله، وإقامة وزن حياته، حتى لا يقع في التهلكة المرضية ولا تنتابه الأسقام، إلا مما يفاجئه من حوادث الجو، فيلجأ إذن للدواء.
وخير الأطباء من نصح بحفظ صحة الأصحاء، وشرهم من تركهم وشأنهم، بحيث يتخبطون في أمراضهم، حتى يدوم احتياجهم لدوائه، أكثر أيام حياتهم. ثم قال: وقد آن أن أوجز لك ما أردت في مقال، أخاطب به أمم الأرض أجمعين.
الفصل العشرون
وهو خلاصة الكتاب
في بيان استخراج السلام العام في الأمم من النواميس الطبيعية، والنظامات الفلكية والفطر الإنسانية، وبنيان السياسة على أساس الطبيعة، وأن مدنية اليوم حيوانية، ودعوة الناس للإنسانية الحقيقية، وبيان أن الإنسان لم يفهم إنسانيته، وخطاب موجه لفلاسفة الأمم، ثم نوابها وملوكها، يدعو الأولين لبحث هذا الموضوع، والآخرين للتعاون على العمل.
قال السيد جامون: «النوع الإنساني أرقى أنواع الحيوان بعقله، أفلا يحب أن يكون أرقاها نظاما، وأعدلها دستورا، وأعمها مدنية، ولكنا وجدناه لم يزل في طفوليته في النظام، ولم يرتق عن النمل في السياسة ففيه السادة والعبيد. وأرقى الأمم في المدنية بحسب عرفكم اليوم تضارع أنواع السباع والصقور في سيطرتها القهرية، بسلاحها لا صلاحها. مجموع النوع الإنساني اليوم قسمان: سادة كالحيوانات المفترسة، وعبيد كأكالة الكلأ والحشيش، وأهم نظريات أكابر الأمم القائدين لغيرهم أربع: (1) العقول الإنسانية يجب أن تخدم القوة الغضبية. (2) بالقوة الغضبية والسلاح يقهرون غيرهم. (3) ثم يربونهم كالأنعام يتخذون أصوافها وألبانها. (4) الشهوات تغشي على العقول فتسلبها الشفقة والرحمة على الضعفاء كما سلبها ذابح الحيوان لأكله.»
Página desconocida