دخلا معا إلى دهليز غير قصير يفضي في نهايته إلى حجرة مغلقة، على حين قامت على الجانبين حجرتان مغلقتان. وأردف البلقيطي وهو يشير إلى الحجرة المواجهة للداخل: في هذه الحجرة توجد أدوات العمل، الحي منها والجامد، لا تخش شيئا فبابها محكم الإغلاق، أؤكد لك أن الثعابين أصلح للمعاشرة من أناس كثيرين، كالذين فررت منهم مثلا!
ثم ضحك كاشفا عن فيه الخرب وقال: الناس تخاف الثعابين، حتى الفتوات تخافها، أما أنا فأدين لها برزقي، وبفضلها أقمت هذا البيت.
وأشار إلى الحجرة اليمنى وهو يقول: هنا تنام ابنتاي، ماتت أمهما من زمن تاركة إياي لشيخوخة لا تصلح للزواج من جديد. (ثم أشار إلى اليسرى) وهنا سننام معا.
وترامى صوت الفتاة القصيرة من سلم جانبي يصعد إلى السطح وهي تنادي: شفيقة ساعديني في الغسيل ولا تقفي هكذا كالحجر بلا عمل.
فصاح البلقيطي: يا سيدة! صوتك سيوقظ الثعابين، وأنت يا شفيقة لا تقفي كالحجر!
اسمها شفيقة؟! ما أبدع المليحة! وزجرها غير الجارح. والشكر الصامت في عينيها السوداوين. من يخبرها بأنه ما قبل هذه الضيافة الخطيرة إلا من أجل عينيها؟
ودفع البلقيطي باب الحجرة اليسرى وأوسع لجبل حتى دخل ثم تبعه ورد الباب. ومضى الرجل إلى كنبة تمتد بطول الحجرة الصغيرة في جانبها الأيمن، متأبطا ذراع جبل حتى جلسا معا. وأحاط جبل بالحجرة بنظرة واحدة، فرأى فراشا في الجانب الآخر مغطى ببطانية ترابية اللون، وفي أرض الحجرة فيما بين الفراش والكنبة حصيرة مزركشة تتوسطها صينية نحاس حال لونها من كثرة البقع، ويرقد وسطها موقد هرمي الرماد، مركونة إلى قائمه جوزة، وعلى مسطح حافته سيخ وكماشة وحفنة من معسل جاف. ولم يكن يرى من النافذة الوحيدة المفتوحة إلا الخلاء والسماء الشاحبة وجدارا شاهقا داكنا عن بعد من جدران المقطم، على حين ورد منها خلال الصمت المخيم زعيق راعية ونسائم مشبعة بحرارة الشمس الساطعة. وكان البلقيطي يتفحصه لحد المضايقة ففكر في أن يشغله عن نفسه بالحديث ولكن السقف فوقهما اهتز لوقع أقدام تمشي فوق السطح فاهتز قلب جبل. تخيل أول ما تخيل قدميها ففاض قلبه برغبة كريمة في أن تحل السعادة بالبيت ولو انطلقت ثعابينه، وقال لنفسه: «قد يغتالني هذا الرجل ويدفنني في الخلاء كما دفنت قدرة دون أن تدري فتاتي أني ضحيتها هي.»
وأيقظه صوت البلقيطي وهو يسأله: هل لك عمل؟
فأجابه وهو يتذكر آخر نقود يملكها في جيبه: سأجد عملا، أي عمل. - لعلك في غير حاجة عاجلة إلى عمل؟
فداخله شيء من القلق لهذا السؤال وقال: بل يحسن بي أن أبحث عن عمل اليوم قبل الغد؟ - لك جسم فتوات! - لكني أكره العدوان!
Página desconocida