Secretos de los palacios: políticos, históricos, amorosos, literarios
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
Géneros
فابتعد صلاح الدين قليلا احتراما، وإذا بالباب قد فتح، وخرجت منه مهرى يتبعها الخصي ثم أقفل على مهل ريثما تمكن صلاح الدين من النظر إلى عائشة قليلا، ووقفت هي تبسم له ابتسامة الممازحة، فتظاهر هو بأنه عابر طريق، فأخذ في مسيره قليلا، ولكنه عوض أن ينحدر إلى القرية كما كان عزمه صعد إلى الأكمة ثانية، ومنعا للريبة عرج إلى طريق ضيقة محاذية لسياج البستان، ولما ابتعد عن الطريق العامة تسلق شجرة توت كبيرة ملتفة الأغصان، فجعلها مرصدا له يترقب من خلالها الشارد والوارد في الداخل والخارج.
والحب أول ما يكون مجانة
فإذا تمكن صار شغلا شاغلا
دفعت الرغبة صلاح الدين إلى معرفة تلك الغادة الفتانة التي جذبت فؤاده من أول نظرة «وما الحب إلا نظرة بعد نظرة»، وقد أحس في الحال بشعور غريب وعاطفة جديدة لم يلامسا بعد قلبه الخالي.
ولما صار في أعلى الشجرة رأى أن عائشة ليست وحدها في البستان، بل يصحبها أربع من رفيقاتها السراري، وقد جلسن جميعا أمام جدول ماء نمير تحف به أشجار بديعة الائتلاف والاصطفاف مكللة بآلاف من الفاكهة المتنوعة الأصناف، والنهر بفرط صفائه ورقة مائه ينم عما بأسفله من رمله وحصبائه، وكلهن يدخن التبغ اللذيذ، ويأكلن أنواع الفاكهة النادرة، ورأى في آخر الحديقة بيتا خشبيا صغيرا قد أخفته الأشجار الملتفة.
فرأى صلاح الدين من مرصده أن الغادة التي جذبت قلبه واختلبت لبه كانت تقف من حين إلى آخر على طرفي قدميها، فترمي بنظرها إلى الطريق الصاعدة أو تتطلع من خلال السياج كأنها تنتظر مرور شخص، ثم تعود فتجلس مقطبة الوجه، فعرف صلاح الدين أنه هو الشخص المنتظر، وكان يسر كلما رآها جلست عابسة الوجه مقطبة الجبين، ثم تولتها السآمة فقامت وتركت رفيقاتها لتجمع باقة زهر ، وبدأت تتوغل في البستان تقتطف أنواع الزهور حتى وصلت إلى أسفل الشجرة التي كان مختبئا فيها صلاح الدين، فأخذ للحال أثمار الخوخ التي التقطها من الطريق، ورمى بها أمام عائشة، فدهشت لما رأت أن التوت قد أثمر خوخا يتساقط على قدميها، فرفعت نظرها إلى الشجرة، فذعرت مبهوتة لما رأت صلاح الدين جاثما كالطير في أغصان الشجرة، وصاحت صوتا يتخلله الخوف والفرح اهتز له قلب صلاح الدين طربا، فقفز من أعلى الشجرة، وصار في أقل من لمح البصر أمام قدميها، فصاحت به الفتاة: ما هذه الجسارة بك أفندي؟
ثم أخذت منديلها ولفت وجهها الجميل، ثم قالت: أمن أجل ابتسامة تقتحم حدائق الناس وتتسلق الأشجار ...؟ ابتعد حالا وإلا ناديت والدتي ... تأديبا لك. - مهلا هانم أفندي ... إني أعجب كيف يخرج هذا الكلام القاسي من هذا الفم الجميل ... وليس مولاتي الذنب ذنبي؛ فإن جمالك الفتان هو الذي دفعني إلى هذه الجسارة، وإذا كان في وسعك منعي من العود إلى هذا المكان فليس في طاقتك منع قلبي من أن يهواك، وأن يكون بكليته لك. - لا أفهم ما تقول ... ولكن أرى أنك واهم ... لست بجارية لأرضى بمثل هذا الحب. - أصبت فيما قلت، وإنما أرجوك المعذرة؛ لأن جمالك قد أضاع صوابي، واسمحي لي أن أعرفك بنفسي ... إنني أدعى صلاح الدين، وحميد باشا المقيم في «أورطه كي» والدي، وشقيق مهرى هانم صديقتك يخبرك عني طويلا إذا رغبت المزيد، وأعلل النفس برؤيتك مرة أخرى.
فلم تجب الفتاة ببنت شفة، ولكن لمح صلاح الدين أن عينيها تضحكان سرا ... فحياها التحية التركية قائلا: أي والله هانم أفندي. - أي والله.
ثم تسلق الحاجز وقفز إلى الطريق وهو يقول: لله درها ما أفتن جمالها! وأكملت عائشة مسيرها تقول في نفسها لله دره ما أنضر شبابه وأرشق عبارته!
وعاد صلاح الدين عند ذلك إلى القهوة فوجد صديقه حسنا بانتظاره، فلما رآه ابتسم له قائلا: قد رأتك شقيقتي الساعة. - وكيف عرفتني؟ - كنت أريتها رسمك؟ وقلت لها: انظري هذا الأخ اللطيف الذي لي، وقد أعجبها جمالك وشبابك. - هذا ولا شك لطف منها. - وأنت هل رأيتها؟ - كلا لم أتجاسر على رفع نظري إليها؛ فضلا عن أنها كانت محجبة بيشمق كثيف. - نعم، هذه إرادة السلطانة؟ إذ لا يخفاك أنها معاكسة للأفكار الجديدة. - وهي أفكار السلطان أيضا، فإنه عاد من رحلته الأوروبية أكثر تعصبا من ذي قبل، وأشد استبدادا.
Página desconocida