وسواء أكان هذا الفن النثري مشروعا كما يقول أصحاب القانون، أم غير مشروع، فإنه موجود وموجود في الآداب الكبرى كلها قديمها وحديثها.
والباحث المنصف يجب عليه أن يأخذ الظواهر كما يريد أن تكون، ومن الظواهر الأدبية الواقعة المحققة أن الشعراء قد يقصدون إلى المعاني ويتخذون الألفاظ وسائل إليها، وأن الكتاب قد يعنون بالألفاظ ويتخذونها في أنفسها مادة للفن.
فإذا كان الالتزام واحتمال التبعات منوطا باعتبار الألفاظ وسائل والمعاني غايات، فأصحاب المعاني من الشعراء والكتاب سواء في الالتزام، وأصحاب الألفاظ من الشعراء والكتاب سواء في التحرر من هذا الالتزام.
والنتيجة البسيطة الواضحة التي ننتهي إليها، هو: أن كاتبنا الوجودي العظيم قد يكون موفقا في الفلسفة، وإن كان الفلاسفة لا يعترفون له بهذا التوفيق، ولكن المحقق أنه ليس موفقا في الأدب، وأن أحكامه على الشعر والنثر والفنون الرفيعة حين تتصل بقضية الالتزام هذه تقوم على التحكم أكثر مما تقوم على أي شيء آخر.
وقد رأيت أن المصورين والمثالين والبنائين والموسيقيين يمكن أن يلتزموا ويحتملوا التبعات، وقد التزموا بالفعل واحتملوا التبعات، وأن الشعراء يمكن أن يلتزموا ويحتملوا التبعات، وقد التزموا بالفعل واحتملوا التبعات قبل أن يوجد النثر، وبعد أن وجد النثر، وفي العصر الذي نعيش فيه، وفي البيئة التي يعيش فيها جان بول سارتر نفسه.
فشعراء المقاومة الفرنسية قد التزموا بشعرهم، وعرضوا أنفسهم بهذا الشعر لأخطار هائلة، فاحتملوا من التبعات المعنوية والمادية ما يعرفه جان بول سارتر حق المعرفة، ولست أدري أيكون هؤلاء الشعراء منتمين إلى أحزابهم السياسية اليسارية لأنهم التزموا بشعرهم ففرض عليهم هذا الشعر أن يكونوا يساريين، أم يكون هؤلاء الشعراء شعراء ملتزمين محتملين للتبعات لأنهم يساريون دفعتهم تبعات أحزابهم إلى أن يقولوا ما قالوا من الشعر.
ولكني حسن الظن بالإنسانية، وبالإنسانية المثقفة الممتازة، وأنا أرى من أجل ذلك أن أراجون مثلا شيوعي؛ لأن شعره دفعه إلى الشيوعية، لا أنه شاعر لأن شيوعيته دفعته إلى الشعر أو فرضت عليه الشعر فرضا.
فالفن الرفيع سواء أكان أدبا منثورا أم منظوما أم شيئا آخر غير الأدب أوسع جوا من هذه الأغراض الضئيلة التي يختصم حولها الناس؛ فأراجون مثلا له شعره السياسي، ولكن له أيضا شعره الخالص الذي لا يتصل بالسياسة من قريب أو بعيد، ولا يمس الإصلاح الاجتماعي أو النظام السياسي، وهو ملتزم دائما، ملتزم حين يمس السياسة والاجتماع أمام الفن أولا وأمام الجماعة ثانيا، وملتزم حين لا يمس السياسة ولا الاجتماع أمام الفن نفسه، وحسبك بالفن محاسبا عسيرا يعرف كيف يأخذ الفنانين بما يجب أن يحتملوا من التبعات.
وملاحظة أخرى لجان بول سارتر لم يوفق فيها للصواب كله، وإنما وفق فيها لسخرية ظريفة طريفة لعلها أن تعفيه من تبعات الخطأ الذي تورط فيه؛ فهو قد عرض للنقد والنقاد عرضا رائعا حقا، ولكنه بعيد عن الإنصاف أيضا.
وأكبر الظن أن مصدر جوره على النقاد أنهم لا يرفقون به ولا يرقون له ولا يعطفون عليه؛ فهو يزعم أن النقاد إنما يعنون بالموت أكثر مما يعنون بالحياة، وبالأموات أكثر مما يعنون بالأحياء.
Página desconocida