الأدب العربي بين أمسه وغده
الحياة الأدبية في جزيرة العرب
بول ڤاليري
شاعر الحب والبغض والحرية
صور من المرأة في قصص ڤولتير
في الحب
الساحرة المسحورة
الأمل اليائس
قصة فيلسوف عاشق
ثورتان
Página desconocida
الأدب بين الاتصال والانفصال
الأدب المظلم
بين العدل والحرية
فرانز كفكا
ملاحظات
إجازة
في الأدب الأمريكي
في الأدب الفرنسي (1)
في الأدب الفرنسي (2)
حول رسائل سيسرون
Página desconocida
الأدب العربي بين أمسه وغده
الحياة الأدبية في جزيرة العرب
بول ڤاليري
شاعر الحب والبغض والحرية
صور من المرأة في قصص ڤولتير
في الحب
الساحرة المسحورة
الأمل اليائس
قصة فيلسوف عاشق
ثورتان
Página desconocida
الأدب بين الاتصال والانفصال
الأدب المظلم
بين العدل والحرية
فرانز كفكا
ملاحظات
إجازة
في الأدب الأمريكي
في الأدب الفرنسي (1)
في الأدب الفرنسي (2)
حول رسائل سيسرون
Página desconocida
ألوان
ألوان
تأليف
طه حسين
الأدب العربي بين أمسه وغده
لست أدري أكان الناس يلقون على أنفسهم في أعقاب الحروب الماضية مثل ما أخذوا يلقونه على أنفسهم من الأسئلة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، فلم تكد الحرب العالمية الأولى تدنو من غايتها حتى أخذ الناس يتساءلون عما يمكن أن يكون لها من أثر في الحياة الأدبية، وفيما ينتج الأدباء من شعر ونثر، ثم لم تكد الحرب العالمية الثانية ترسل نذرها إلى الأرض حتى أعاد الناس إلقاء هذه الأسئلة على أنفسهم، ولكل سؤال جواب، كما يقول جميل لصاحبته بثينة، ومن أجل هذا أخذ الناس يتنبئون بما ستصير إليه الحياة الأدبية من قوة أو ضعف، ومن رقي أو انحطاط، ومن تطور في بعض فنونها ينتهي به إلى النمو أو ينتهي به إلى الانقراض، أو ينتهي به إلى تحول خطير أو يسير.
وقد كذبت الحوادث كثيرا من هذه النبوءات وصدقت منها كثيرا، وانتهى بعض الأدباء الفرنسيين الممتازين إلى أن يجيب عن سؤال من هذه الأسئلة ألقي عليه في أثناء الحرب العالمية الثانية، بأنه لا يعلم أن للحرب أثرا في الأدب أو أن للأدب أثرا في الحرب، وليس هذا الجواب إلا نوعا من أنواع الشك وفنا من فنون التردد الذي يقضي به الاحتياط على من يريد أن تكون أحكامه صائبة غير مسرفة في تجاوز الحق، فليس من سبيل إلى أن ننكر أن للأحداث الجسام والخطوب العظام أثرها البعيد في حياة الناس، ومتى تأثرت حياة الناس فقد تأثرت آدابهم؛ لأن هذه الآداب آخر الأمر ليست إلا تعبيرا عن هذه الحياة وتصويرا لها، فإذا تغير الأصل تغيرت الصورة، وإذا تغير المعنى تغيرت العبارة التي تؤديه.
ولو أن اليونان بلغوا من التعمق ما بلغنا والتمسوا من العلم ما نلتمس، لجاز أن يسأل بعضهم بعضا عما كان يمكن أن تحدثه الحرب الميدية من الأثر في آدابهم، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأنها ستحدث آثارا بعيدة جدا لا في الأدب اليوناني وحده ولكن في أكثر الآداب التي سينتجها الناس على اختلاف العصور وتباين الظروف، ولكان من الممكن أن يتنبأ بعض الفقهاء من أدبائهم بأن هذه الحرب الميدية ستدفع الشعر التمثيلي إلى التطور دفعا عنيفا، وستنتج للإنسانية كلها آيات إيسكولوس وسوفوكل وأوريبيد، وبأنها ستدفع أحاديث القصاص دفعا عنيفا إلى التطور، فتنتج لهم تاريخ هيرودوت، وتنشئ للإنسانية فنا من أجل الفنون الأدبية خطرا وهو فن التاريخ، وتنشئ لليونان أنفسهم نثرهم الفني البديع، وتضع لهم أصول الفلسفة اليونانية الرائعة التي أنتجت سقراط ومن جاء بعده من تلاميذه النابهين، ولو كان اليونان يبحثون عن مثل ما نبحث عنه ويتقصون من الأمر مثل ما نتقصى، لجاز أن يتساءلوا عما سيكون لحرب البيلوبونيز من أثر في حياتهم الأدبية والعقلية، ولكان من الممكن أن يتنبأ المتنبئون بأنها ستنتج لهم فقه التاريخ وفلسفته كما نراهما في كتاب توسوديد، أو ستحول فن التمثيل التراجيدي إلى هذا اللون الفلسفي الذي نراه عند أوريبيد، وستمكن أرستوفان من إنتاج آياته الكوميدية الخالدة، وستحول سفسطة السفسطائيين اليسيرة إلى هذه الفلسفة العميقة التي كان أرستوفان يهزأ بها وبزعيمها سقراط في قصة السحاب، ولكن اليونان لم يكونوا يحبون مثل هذه النبوءات، وإنما كانوا يحبون نبوءات أخرى يسيرة تمس آمالهم وأعمالهم، وكانوا يلتمسون هذه النبوءات كما كان العرب يلتمسونها عند السوانح والبوارح من الطير، وفي آيات أخرى كانوا يذهبون في تفسيرها وتأويلها المذاهب، فإذا احتفلوا بهذه النبوءات سافروا في التماسها سفرا قاصدا أو غير قاصد، فطلبوها عند «أبلون» في «دلف» أو عند غيره من الآلهة في معابدهم تلك التي كانوا يلقون فيها الوحي على الأصفياء من الرجال والنساء، فأما مستقبل الأدب ومصير الفن فأشياء لم يكونوا يحفلون بها ولا يفكرون فيها، وحسبهم أن يستمتعوا بما ينتج الأدباء لهم من آيات الشعر والنثر، وبما ينتج أصحاب الفن لهم من روائع التصاوير والتماثيل والبناء.
والشيء الذي لا شك فيه أن الحرب الميدية صدمت الشرق الآسيوي ببلاد اليونان، وأن هذه الصدمة العنيفة المتصلة قد أثارت في عقول اليونان وقلوبهم وأذواقهم شررا أذكى نارهم العقلية المقدسة، ودفعها إلى التوهج الذي ملأ الأرض علما ونورا، وأن حرب البيلوبونيز صدمت اليونان بأنفسهم أولا وبأقطار أوروبية أخرى ثانيا، فكشفت لهم عن ذوات أنفسهم وأظهرتهم من خلالها على ذات النفس الإنسانية أو على بعض النواحي من ذات النفس الإنسانية فأحسوا وشعروا وفكروا، كما لم يكونوا يشعرون ويحسون ويفكرون، ثم صوروا وعبروا، كما لم يكونوا يصورون ويعبرون، وتستطيع أن تقول مثل هذا بالقياس إلى حروب الإسكندر، ثم بالقياس إلى ما كان بين خلفائه من الحروب، ثم بالقياس إلى حروب الرومانيين في إيطاليا وفي غير إيطاليا من أقطار الشرق والغرب، كل هذه الحروب أثرت في الآداب القديمة تأثيرا عميقا، وأنتجت للإنسانية آيات أدبية خالدة ما نزال نستمتع بها إلى الآن، وستستمتع الإنسانية بها حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأي رمز لذلك أبلغ من أن الإلياذة والأوديسا إنما هما نتيجتان لحرب لا يكاد التاريخ يعرف من أمرها شيئا، وهي حرب طروادة.
ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلى أدبنا العربي القديم، فلو تكلف العرب المعاصرون لظهور الإسلام مثل ما نتكلف من البحث والتفكير والتعمق لسألوا أنفسهم عما يمكن أن يكون لظهور الإسلام وما استتبعه من حرب داخل البلاد العربية، ومن فتوح خارج هذه البلاد من التأثير في حياة الأدب العربي، ولكان من الممكن أن يتنبأ الأذكياء من شباب قريش وشيوخها بأن هذا كله سيذهب بالشعر العربي مذاهب لم تخطر لهم على بال، وسينشئ لهم فنونا من النثر مختلفة متنوعة من العلوم والآداب، ولكن شيوخ قريش وشبابها لم يكونوا يفكرون في شيء من هذا ولا يقفون عنده، ولا يحفلون بما يتصل به من النبوءات، وإنما كانوا كاليونان والرومان يأخذون الأشياء من قريب فيستمتعون بما تقدم الحياة إليهم من خير، ويشقون بما تقدم إليهم من شر، فإذا أبعدوا في التماس الغيب أسرفوا في الإبعاد فالتمسوا الغيب عند السوانح والبوارح من الطير، وعند الكهنة ومن يتنزل عليهم من الشياطين، وعند الأنبياء وما يلقى إليهم من وحي وما يهيأ لهم من معجزات، ثم هم كانوا كاليونان والرومان لا يلتمسون الغيب بالقياس إلى حياة العقل والقلب، وإنما يلتمسونه بالقياس إلى حياة الأجسام في الدنيا وإلى حياة الأرواح في الآخرة، ومع ذلك فليس من شك في أن توحيد الأمة العربية بظهور الإسلام قد أنشأ لها أدبا واحدا، ووجه هذا الأدب توجيها جديدا، وليس من شك في أن اصطدام العرب بغيرهم من الأمم قد أذكى في نفوسهم، وفي نفوس هذه الأمم جذوة الأدب والفن والعلم، فامتلأت الأرض معرفة ونورا، بفضل هذا الاصطدام، وما نشأ عنه من الاختلاط والامتزاج، ومن معرفة العرب لغيرهم من الأمم ومعرفتهم لأنفسهم، ومن تعارف هذه الأمم فيما بينها وتعاونها راضية أو كارهة على ما كانت مضطرة أن تتعاون عليه من شئون الحياة.
Página desconocida
ومن يدري؟! لعل القدماء كانوا أدنى منا إلى الحق وأقرب منا إلى الصواب وأشد منا إيثارا للقصد والاعتدال؛ فهم كانوا لا يكلفون أنفسهم ما لا تطيق ولا يحملونها ما لا تحتمل، وإنما كانوا يتلقون الحياة ويحيونها، ثم يسجلون ما يستطيعون استكشافه من الحقائق والظواهر، فقدماء العرب قد عرفوا ما كان من تطور الأدب العربي بعد وقوعه، كما عرف قدماء اليونان ما كان من تطور الأدب اليوناني بعد وقوعه، وهم قد سجلوا لنا ذلك تسجيلا مقاربا يسيرا لا تكلف فيه ولا إبعاد، وهم قد عصموا أنفسهم من التورط في نبوءات تصدقها الحوادث حينا وتكذبها أحيانا، وهم قد أراحوا أنفسهم من هذا الشك الذي أتاح لذلك الأديب الفرنسي أن يقول: إنه لا يعلم أن للحرب أثرا في الأدب أو أن للأدب أثرا في الحرب، والأمر كله يرجع، فيما يظهر، إلى أن الرقي الذي أتيح لنا في حياتنا المادية والعقلية قد دفعنا إلى ألوان من الغرور وخيل إلينا أنا نقدر على شيء كثير مما لم يقدر عليه القدماء، وما دمنا قد استطعنا أن ننهب الأرض بالقطار والسيارة، وننهب البحر بالسفن تجري على ظهره وتسبح في بطنه، وننهب الجو بالطائرات، وننهب الزمان والمكان بهذا كله وبالبرق وبالراديو، ما دمنا قد استطعنا أن نقهر الطبيعة ونخترق حجبها ونكشف أستارها ونلغي ما كانت تستطيل به علينا من آماد الزمان والمكان، فليس ينبغي لغرورنا أن يقف عند حد أو أن ينتهي إلى غاية، وليس ينبغي لنا أن نتردد في التنبؤ بما سيكون ما دمنا قد استطعنا أن نعرف ما كان، وقد قيل: إن التاريخ فن يعين على استكشاف المستقبل بفضل ما يعلم من حقائق الماضي، ونحن قد صدقنا ذلك واطمأننا إليه، وقليل جدا من بيننا أولئك الذين يشكون في أن التاريخ يعلمنا حقائق الماضي ثم يشكون بعد ذلك في أنه يستطيع أن يكشف لنا عن حقائق المستقبل، وأكبر الظن أن هؤلاء القليلين الذين ينظرون إلى التاريخ نظرة ساخرة مشفقة، ويلحظونه لحظة باسمة مزدرية، وينتظرون المستقبل كما ينتظرون المجهول - أكبر الظن أن هؤلاء القليلين هم المصيبون، ولكننا لا نحب صوابهم هذا ولا نكلف به، بل لا نطمئن إليه؛ لأنه يضطرنا إلى التواضع ويردنا إلى الاعتدال، ويحول بيننا وبين الغرور أو بيننا وبين الإغراق في الغرور، وما قيمة الإنسان إذا لم يعبث به الغرور فيخيل إليه أنه قادر على كل شيء، وأن من حقه بل من الحق عليه أن يحاول كل شيء!
من أجل هذا كله تساءل المعاصرون عن أشياء كثيرة، من بينها مستقبل الحياة الأدبية وما عسى أن تكون الاتجاهات التي ستدفع إليها بحكم هذه الأحداث الجسام التي خلطت الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، وقاربت بين الأجيال المتباعدة، وألغت هذه الحواجز التي كانت تحجز بين الأمم والشعوب، وغيرت كثيرا من صور الأشياء، ثم غيرت كثيرا من قيم الأشياء، ثم غيرت كثيرا من تأثرنا بهذه الصور وتقديرنا لهذه القيم وحكمنا بعد ذلك على ما هو كائن، وترقبنا بعد ذلك لما سيكون، فأما المقتصدون من الأدباء الأوروبيين فيشكون كما شك ذلك الأديب الذي أشرت إليه آنفا، أو يحتاطون في الحكم ويعتدلون في التقدير ويحسبون حسابا لهذه الأشياء اليسيرة الضئيلة التي لا نعرفها والتي قد يكون لها أبعد الأثر في حياتنا العاملة ثم في حياتنا العاقلة، وليس من شك في أننا قد علمنا أشياء كثيرة، ولكن ليس من شك في أننا لم نؤت من العلم إلا قليلا، وفي أن ما نجهله أكثر جدا مما نعلمه، وليس من شك كذلك في أننا قد حققنا من الرقي شيئا كثيرا في حياتنا العاملة والعاقلة، ولكن ليس من شك في أن ما حققناه من ذلك ضئيل جدا بالقياس إلى ما ينتظر أن نحققه.
وهذا الذي ينتظر أن نحققه قد يفاجئنا بعضه مفاجأة وعلى غير انتظار، وقد يتهيأ لنا بعضه عن أناة وريث وبعد سعي وجد واستعداد، فإذا كانت طبيعتنا تدفعنا إلى الغرور والمغامرة فإن عقلنا ينبغي أن يضبط هذا الغرور ويحد هذه المغامرة، ويأخذنا بشيء من التوسط في القول والعمل جميعا، فليس من المستحيل أن نحاول التنبؤ بما سيكون من مستقبل الحياة الأدبية، ولكن ليس من الصواب أن نندفع في ذلك جامحين في غير تحفظ ولا احتياط.
وربما كان من اصطناع الدقة والحذر أن أسجل منذ الآن أني لن أتنبأ بشيء لأني لا أملك الوسائل التي تبيح لي هذا التنبؤ، وإنما أحاول أن أنظر إلى أدبنا العربي المعاصر نظرة عامة أتتبع فيها بعض حقائق تطوره في العصور الماضية وأتوسم فيها بعض الممكنات لتطوره في الأيام المستقبلة، فأنا أنظر إلى أدبنا العربي بين أمسه القريب والبعيد، وبين غده القريب دون البعيد، وما أزعم لهذه المحاولة إحاطة ولا شمولا، وإنما هي محاولة مقاربة تتجنب الإمعان والتعمق؛ لأن الإمعان والتعمق يحتاجان إلى كتاب لا إلى فصل مهما يكن هذا الفصل طويلا.
وفي تاريخ أدبنا العربي ظاهرة لعله أن يشارك فيها غيره من الآداب الكبرى قديمها وحديثها، ولكنها تستبين فيه على نحو أوضح وأجلى مما تستبين في غيره من الآداب، فقد عمر الأدب اليوناني القديم قرونا طوالا ثم ألقى بينه وبين الناس ستارا، فلما استأنفت الأمة اليونانية الحديثة حياتها المعاصرة أنشأت لنفسها أدبا مهما تكن الصلة بينه وبين الأدب القديم فهو ليس جزءا منه ولا استمرارا له، فالأدب اليوناني القديم إذن حي بنفسه، أريد أنه لا يستمد حياته من أمة حية، تنميه وتقويه وتضيف إليه، وإنما يستمد حياته من هذه الشخصية القوية التي وهبها له اليونان القدماء، فنحن حين نقرأ آثار هوميروس أو بندار أو أفلاطون لا نفكر في الأمة اليونانية المعاصرة ولا نصل هذه الآثار القديمة الخالدة بما تنتجه من الشعر والنثر، وإنما نقرأ هذه الآثار وغيرها ونفكر في الأمة اليونانية القديمة التي أنتجتها، ونوشك أن نعتقد أن الصلة بيننا وبين هذا الأدب القديم والأجيال التي أبدعته ليست أضعف من الصلة بين الأمة اليونانية المعاصرة وبين ذلك الأدب وتلك الأجيال، وربما كان من المحقق أن بعض البيئات الأدبية والفنية في غرب أوروبا وفي فرنسا خاصة أشد اتصالا بالأمة اليونانية القديمة وتراثها الأدبي والفني والفلسفي من الأمة اليونانية المعاصرة نفسها، فلست أعرف مثلا أن الأمة اليونانية الحديثة قد أهدت إلى العالم الحديث شاعرا كراسين أو كاتبا كجيرودو أو شاعرا كاتبا كبول فاليري، وكل هؤلاء وغيرهم من أدباء الغرب الحديث يعيشون مع الأمة اليونانية القديمة ويذوقون أدبها وفنها وفلسفتها، ويحيون هذا الأدب والفن وهذه الفلسفة على نحو لم تصل إليه الأمة اليونانية الحديثة بعد، ومثل هذا يمكن أن يقال بالقياس إلى الأدب اللاتيني، فهذان الأدبان العظيمان يستمدان حياتهما الخالدة من قوتهما الذاتية، إن صح هذا التعبير، وهذه الخصلة هي التي تميزهما بين الآداب التي استطاعت أن تقهر الدهر وتكفل لنفسها الخلود.
أما أدبنا العربي فقد عمر بضعة عشر قرنا إلى الآن، واختلفت عليه في أثناء هذه القرون خطوب كثيرة متباينة وجهته ألوانا من التوجيه وأخضعته لضروب من التطور، ولكنه ما زال حيا قويا يستمد حياته وقوته من شخصيته العظيمة، ويستمد حياته وقوته من هذه الأجيال التي لا تزال حية محتفظة بفضل من قوة، والتي لا تزال ترعاه وتكلؤه وتنفخ فيه من روحها كما تستمد منه قوة وأيدا فهي تمنحه وتأخذ منه، وهي تعيش عليه وتعيش له وتعيش به، شأنها معه كشأنها مع ما يقوم حياتها المادية من الأرض والجبال والأنهار، فالحياة الزمنية للأدب العربي لم تنقطع، ويظهر أنها لن تنقطع، والصلة بينه وبين الأجيال المعاصرة في بلاد الشرق العربي من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلنطي وفي بيئات عربية متفرقة هنا وهناك في أقطار العالم القديم والعالم الجديد - هذه الصلة ما زالت قائمة متينة خصبة، كالصلة التي كانت بين الأدب العربي وبين الأمة العربية أيام المتنبي وأبي العلاء، ونتيجة هذا كله أن في تاريخ أدبنا العربي ظاهرة قوية متينة شديدة الوضوح، تمكننا من أن نلاحظه ملاحظة مباشرة، ونستقصي أطواره استقصاء حسنا، فنحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة منذ أواخر العصر الجاهلي، وأن نساير الأدب في هذه الطرق الطويلة العسيرة المتنوعة الملتوية التي قطعها مسرعا مرة مستأنيا مرة أخرى متثاقلا مرة ثالثة أثناء هذه القرون الطويلة، حتى انتهى إلينا مثقلا بهذا التراث العظيم المختلف المتباين، الذي يشتد بين أجزائه وعناصره التباين والاختلاف.
ونحن نستطيع أن نبدأ هذه الملاحظة من أنفسنا في هذا العصر الذي نعيش فيه، وأن نساير الأدب العربي مصعدين معه في التاريخ كأنما نعود أدراجنا، سالكين معه نفس هذه الطرق، متبينين فيه هذا التراث الذي تختلف أجزاؤه وتتباين عناصره، حتى نبلغ أول الإسلام وآخر الجاهلية، ونحن لا نخشى أن تنقطع بنا الطريق في الزمان والمكان أثناء مسايرتنا لأدبنا العربي سواء أبدأنا مع تاريخه حين يبدأ في الزمن القديم ، أم بدأنا مع تاريخه من النقطة التي ينتهي إليها في عصرنا الحديث.
فالظاهرة التي يمتاز بها أدبنا والتي تمكننا من درسه وتتبع أطواره، هي أنه قديم جدا وحديث جدا قد اتصل قديمه بحديثه اتصالا مستقيما لا انقطاع فيه ولا التواء، ففيه خصائص الآداب القديمة، وفيه خصائص الآداب الحديثة، وفيه ما يمكننا من استخلاص حديثه من قديمه، وما يغنينا عن كثير من الفروض.
أدبنا العربي كائن حي، أشبه شيء بالشجرة العظيمة التي ثبتت جذورها وامتدت في أعماق الأرض، والتي ارتفعت غصونها وانتشرت في أجواز السماء، والتي مضت عليها القرون والقرون وما زال ماء الحياة فيها غزيرا يجري في أصلها الثابت في الأرض وفي فروعها الشاهقة في السماء.
فلنتتبع هذا الأدب تتبعا يسيرا مقاربا، لنرى كيف تطور في أول عهده، ولنتبين كيف يمكن أن يتطور فيما يستقبل من الأيام.
Página desconocida
وأخص ما نلاحظه في حياة أدبنا العربي منذ أقدم عصوره، أنه يأتلف من عنصرين خطيرين لا يحتاج استكشافهما إلى جهد أو عناء: أحدهما داخلي يأتيه من نفسه ومن طبيعة الأمة التي أنتجته، والآخر خارجي يأتيه من الشعوب التي اتصلت بالعرب أو اتصل العرب بها، ويأتيه من الظروف الكثيرة المختلفة التي أحاطت بحياة المسلمين وأثرت فيها على مر العصور، ولنتفق على أن نسمي هذين العنصرين: التقليد، والتجديد.
فأدبنا العربي تقليدي ليس في ذلك شك، له طابعه العربي البدوي القديم لم يخلص منه قط ولن يستطيع أن يخلص منه آخر الدهر على رغم ما بذل الأدباء وما سيبذلون من الجهود الهائلة المضنية، مذهبنا في تصور الأشياء وتقديرها في أنفسنا قد يختلف باختلاف العصور والأقطار والظروف، ولكن مذهبنا في تصوير هذه الأشياء مهما يختلف فسينتهي دائما عند طائفة من الأصول التقليدية لا سبيل إلى التحول عنها؛ لأن التحول عنها قتل لهذا الأدب وقطع للصلة بينه وبين العصر الحديث وانحراف به عن طريق الحياة المتصلة التي تسلكها الآداب الحية، إلى طريق الحياة المنقطعة التي سلكها الأدب اليوناني والأدب اللاتيني، وقل ما شئت في تعليل الاحتفاظ بهذه الأصول القديمة وإخفاق المحاولات التي همت أن تعدل عنها أو أن تغيرها، فأنا لا أبحث الآن عن العلل والأسباب، وإنما أسجل الظواهر الواقعة تسجيلا. لتكن طبيعة اللغة العربية هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، وليكن القرآن الكريم هو الذي اقتضى ثبات هذه الأصول، ولتكن المحافظة التي يمتاز بها الجيل العربي بين الأجيال هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، ولتكن هذه الأسباب كلها مضافة إلى أسباب أخرى هي التي اقتضت ثبات هذه الأصول، كل ذلك ممكن، ولكن الشيء المحقق هو أن الأدب العربي محتفظ بطائفة من الأصول التقليدية لا يستطيع أن ينزل عنها أو يبرأ منها.
فلغته المعربة الفصحى مقوم أساسي من مقوماته، أو هي المقوم الأساسي الأول بين مقوماته، وقد انحرف كثير من الناس في العصور القديمة وفي هذا العصر الحديث عن هذه اللغة المعربة الفصحى، فأنتجوا آثارا فيها لذة وفيها متعة ولكننا لم نعدها أدبا، ولم نرفعها إلى هذه المرتبة التي نضع فيها هذه الآثار الرائعة والتي نستمد منها غذاء القلوب والعقول والأرواح، وربما كان مما يفسر ذلك ويؤيده أن أدبنا العربي لا يهمل الأسماع إهمالا قليلا أو كثيرا، وإنما يعنى بها أشد العناية؛ فهو أدب منطوق مسموع قبل أن يكون أدبا مكتوبا مقروءا، وهو من أجل هذا حريص على أن يلذ اللسان حين ينطق به، ويلذ الأذن حين تسمع له، ثم يلذ بعد ذلك النفوس والأفئدة حين تصغي إليه.
وليس أدل على ذلك من أن العرب في جميع عصورهم لم يعنوا بشيء قط عنايتهم بفصاحة اللفظ وجزالته، ورقيق الأسلوب ورصانته، وقد جعلوا الإعراب واصطفاء اللفظ والملاءمة بين الكلمة والكلمة في الجرس الذي ييسر على اللسان نطقه، ويزين في الأذن وقعه، أساسا لكل هذه الخصال.
ثم من أصولنا التقليدية في الأدب عمود الشعر، هذا الذي لم يستطع القدماء تحديده ولكنهم حرصوا عليه أشد الحرص، وهذا الذي لم يستطع أحد من شعرائنا أن ينحرف عنه في حقيقة الأمر مهما يقل في مسلم ودعبل وأبي تمام والمتنبي وغيرهم من أصحاب التكلف والتصنع والبديع؛ فهؤلاء وأمثالهم قد هموا أن يجددوا وجددوا بالفعل في كثير من الأشياء، ولكنهم احتفظوا دائما بفصاحة اللغة وجزالتها، وبرونق الأسلوب ورصانته، كما احتفظوا بالأوزان القديمة، فلما جددوا لم يبتكروا إلا أوزانا يمكن أن ترد إلى الأوزان القديمة على نحو من الأنحاء، ثم لم يستطيعوا على كثرة ما عابوا القدماء وحاولوا الانحراف عن مذاهبهم أن يبرئوا نفوسهم وقلوبهم وفنهم من هذا الحنين الذي فرضته البادية على شعرائها البادين، وقد كان أبو نواس من أشد الناس عيبا للقدماء من الشعراء ومحاولة للانحراف عن مذهبهم في ذكر الأطلال والرسوم، ولكنه ذكر الأطلال والرسوم أولا، كما ذكرها غيره من الشعراء القدماء، وحن حين حاول التجديد إلى مغاني اللهو والعبث كما كان الأعرابي القديم يحن إلى ديار هند وأسماء، فالحنين قائم عابث بنفس الشاعر وقلبه منبث في فنه كما ينبث الماء في الغصن وإن تغيرت المظاهر والألفاظ، وقد أنكر أبو نواس كما أنكر غيره وصف الطرق والإبل، ولكن أبا نواس قد وصف الطرق والإبل كما وصفها غيره من المحافظين والمجددين، وقد هم الشعراء المجددون أن يتنكبوا ما ألف القدماء من صدق الشعور وإيثار القصد في التعبير واجتناب الإمعان في المبالغة فتكلفوا وبالغوا، ولكن تكلفهم يرد آخر الأمر وعند أيسر التحليل إلى سذاجة القدماء، كما أن مبالغتهم ترد إلى قصد القدماء واعتدالهم، أو تصبح مصدرا للسخر والاستهزاء.
وقد حاول الموشحون في الغرب أن يحطموا الإطار القديم الذي كان يحيط بالقصيدة، فيزاوجوا بين أوزان وأوزان، ويخالفوا بين قواف وقواف، ولكن فنهم لم يستطع أن يعمر طويلا، ففني في الزجل، وأصبح لونا من ألوان الأدب العامي الذي نبتذله مخطئين أو مصيبين.
فهناك إذن أصول تقليدية في أدبنا العربي قد أشرت إلى بعضها في الشعر ولم أستقصها، وقد استطاعت هذه الأصول أن تغلب الحوادث والخطوب وألوان التطور والانقلاب وتسيطر على شعر المعاصرين في الأقطار العربية كلها، وقد يحاول الشعراء هنا أو هناك شيئا من التجديد، فلا ينجحون نجاحا صحيحا إلا إذا استبقوا هذه الأصول التقليدية ولم يبعدوا عنها إلا بمقدار، والنثر مع أنه استحدث بعد ظهور الإسلام وبعد تلاوة القرآن وبعد حدوث الأحداث الجسام، قد اتخذ لنفسه أصولا تقليدية تقارب أصول الشعر، فحرص على اللغة المعربة، وعلى الفصاحة والجزالة، وعلى الرونق والرصافة، واستبقى مسحة بدوية تشيع في أثنائه فتسبغ عليه جمالا ساذجا لا يخلو من روعة وجلال.
ومع أن كثيرا من فحول النثر قد كانوا متأثرين بالثقافات الأجنبية أو منحدرين من أصول أجنبية، فقد حرص النثر على أصوله التقليدية حرصا شديدا واستمد أكثر هذه الأصول من الشعر الذي اتخذه لنفسه إماما أول الأمر ثم نافسه وغالبه بعد ذلك، وقد تكلف الكتاب كما تكلف الشعراء، واستعاروا من الشعراء بديعهم وتصنعهم، ولكنهم خضعوا لمثل ما خضع له الشعراء من الاختيار بين التجديد المقتصد والإسراف الذي ينتهي بهم إلى السخف والازدراء، وأمر النثر في العصر الحديث كأمر الشعر من هذه الناحية؛ فكما أنك لا تسمع قصيدة ولا تقرؤها إلا رجعت بها إلى أصولها التقليدية الأولى وإلى الإطار التقليدي الذي يحيط بها ويمكنها من الثبات والاستقرار ومن الجريان على الألسنة وحسن الموقع في الأسماع والقلوب، فأنت لا تقرأ كتابا ولا فصلا إلا رجعت بما تقرأ إلى الأصول التقليدية القديمة وذكرت هذا الكاتب أو ذاك من كتاب العصر القديم.
ما زال الأصل في الكتابة كالأصل في الشعر: تخير اللفظ الفصيح الرصين الجزل، للمعنى الصحيح المصيب، والملاءمة بين اللفظ واللفظ وبين المعنى والمعنى في كل ما يكون هذا الانسجام الخاص الذي يستقيم له الشعر والنثر في لغتنا العربية الفصحى، مع الحرص كل الحرص على الإعراب، والإيثار كل الإيثار للألفاظ الصحيحة التي تقرها معاجم اللغة المعروفة وحدها إن كان الكاتب محافظا غاليا في المحافظة، أو التي جاءت في قصائد الشعراء ورسائل الكتاب وإن لم ترد في المعجمات إن كان الأديب سمحا معتدلا، وقد يجترئ الكاتب فيستعير من لغة الشعب أو من لغة العلم الحديث أو من بعض اللغات الأجنبية كلمة أو كلمات إن كان من المجددين الغلاة في التجديد، وقد يبلغ بهذا الغلو أقصاه، فينحرف بأسلوبه نحو العامية المبتذلة بعض الانحراف، أو نحو مذهب من مذاهب الأوروبيين في القول، ولكنه على ذلك كله متحفظ محتاط لا يخرج بالعربية عن أصولها، وإنما يريد أن يغنيها وينميها ويعرب ما يضيفه إليها من الألفاظ والأساليب.
فالعناصر التقليدية في أدبنا إذن قوية شديدة القوة، مستقرة ممعنة في الاستقرار مستمرة على الزمن، وهي التي ضمنت بقاء الأدب العربي هذه القرون الطوال، وهي التي ستضمن بقاءه ما شاء الله أن يبقى، ولكن هناك عناصر أخرى توازن هذه العناصر التقليدية وهي التي سميتها آنفا عناصر التجديد، وهذه العناصر التجديدية هي التي منعت الأدب العربي من الجمود، ولاءمت بينه وبين العصور والبيئات، وعصمته من الجدب والعقم والإعدام، ومكنته من أن يصور الأجيال المختلفة التي اتخذته لها لسانا ويتيح لها أن تعبر فيه عن ذات نفسها.
Página desconocida
فأدبنا العربي كغيره من الآداب الحية، بل كغيره من كل الظواهر الاجتماعية، مكون من هذين العنصرين اللذين كان «أوجست كونت» يسمي أحدهما ثباتا واستقرارا، ويسمي ثانيهما تحولا وانتقالا. والذي يمتاز به أدبنا العربي من الآداب الحية الأخرى هو أن التوازن لم ينقطع بين هذين العنصرين، ولم ينشأ عن انقطاعه جمود الأدب وموته بتغلب عنصر الثبات والاستقرار، أو فناء الأدب وتفرقه بتغلب عنصر التحول والتطور، وليس من شك في أن أحد هذين العنصرين قد تفوق على صاحبه بين حين وحين في القوة، فكان الأدب في بعض العصور مسرعا إلى التطور ممعنا فيه، وكان في بعضها الآخر مؤثرا للثبات حريصا عليه، فقد تفوق عنصر التطور بعد ظهور الإسلام بنحو نصف قرن، حين نشأ الجيل الجديد من العرب، واتصل بالأمم الأجنبية منتقلا إليها ومستقرا في أرضها غازيا أو مرابطا أو عاملا في مصالح الدولة أو مستعمرا وانتقلت هي إليه في عقر داره في الحجاز ونجد، سبيا وموالي، تعمل له وتقوم على خدمته وتعلمه من شئون الحضارة والثقافة ما لم يكن يعلم. في هذا الوقت دفع العرب إلى حياة جديدة في كل شيء، ولم يكن الأدب بطيئا في الاستجابة لهذا التجديد، فتطور الشعر في ألفاظه وأوزانه وأساليبه وفي معانيه وموضوعاته، ونشأت فيه فنون لم تكن من قبل، واستحدث النثر خطبا مطولة وقصصا مفصلة، ورسائل موجزة مجملة، ثم كثرت أحداث السياسة، فتطورت النفس العربية بدوافع جاءتها من داخل، واشتد الاتصال بين الأمم الإسلامية فتطورت النفس العربية ونفوس الأمم الأخرى المستعربة بدوافع جاءتها من خارج، ثم قوي الاتصال، فلم يقصر على المجاورة والمعاشرة والمعاملة والتعاون على شئون الحياة المادية، وإنما قرأ العرب ما كان عند غيرهم، وقرأ المستعربون ما كان عند العرب، ونشأ عن قراءة أولئك وهؤلاء هذا التطور الخطير الذي تمتاز به العصور العباسية في القرن الثاني والثالث والرابع.
ولست محتاجا إلى أن أفصل هذا التطور أو أطيل القول فيه فإن دقائقه معروفة تدرس للشباب في الجامعة وللتلاميذ في المدارس الثانوية، وإنما ألاحظ أن من أهم الأسباب التي دفعت إلى هذا التطور الاتصال الدقيق المستمر بين الثقافة العربية الموروثة من جهة وبين ثقافات الأمم المغلوبة المستعربة من جهة أخرى، فقد اتصلت ثقافة الهند والفرس واليونان والأمم السامية وبعض الأمم المتأثرة بالثقافة اللاتينية في إسبانيا، اتصلت كل هذه الثقافات اتصالا يختلف قوة وضعفا ويتفاوت سعة وضيقا ويتمايز سرعة وبطئا، ونتج عن هذا الاتصال هذا الأدب العربي المختلف المعقد الذي تجاوز الشعر والخطابة والرسائل إلى فنون من العلم والفلسفة وألوان من المعرفة تشبه ما كان العالم يعيش عليه في القارات الثلاث بين حروب الإسكندر وقيام الدولة العربية، فالدولة الإسلامية لم ترث سياسة اليونان والفرس وحدها، وإنما ورثت حضارتهم أيضا، وورثت معها ما كان عند هذه الأمم من ثقافات متباينة، نقلتها كلها إلى اللغة العربية، وصبتها كلها في القالب العربي، بحيث يمكن أن يقال: إن الحضارة الإنسانية التي كان يغلب عليها الطابع اليوناني قد غلب عليها الطابع العرفي في القرون الأربعة الأولى للهجرة، ثم حدثت الأحداث وتتابعت الخطوب، وأقبل المغيرون من الغرب يحملون الصليب، وأقبل المغيرون من الشرق يحملون الجهل والوحشية، وتأثر العقل العربي الإسلامي بهذه الأحداث، فلم يمت ولكنه اضطر إلى شيء من الوقوف، وتفوق عنصر الثبات والاستقرار على عنصر التحول والتطور، ومهما يكن من شيء فقد دفع الأدب العربي إلى التطور في القرون الأربعة الأولى بحكم الاتصال اليسير بين الأمم أولا ثم الاتصال الدقيق المنظم بينها ثانيا.
والآن وقد انتهى عصر الوقوف والركود واستؤنف الاتصال بين العالم العربي والعالم الأوروبي في أواخر القرن الثامن عشر، وقوي واشتد في القرن التاسع عشر، ثم دق ونظم في هذا القرن الذي نعيش فيه، ثم ألغيت المسافات الزمنية والمكانية فأصبح الاتصال في كل يوم بل في كل لحظة ظاهرة من الظواهر الطبيعية للحياة المألوفة، الآن وقد كان كل هذا، ماذا حدث للأدب العربي وماذا يمكن أن يحدث؟ أما الذي حدث فمعروف يقرؤه الناس في الكتب، ويدرسه التلاميذ في المدارس، وأظهره ما كان من الرجوع إلى الأدب القديم، وإحيائه بالنشر والإذاعة أولا، ثم بالتقليد والمحاكاة ثانيا، وما كان من تعلم بعض اللغات الأجنبية وقراءة ما ينتج فيها من الآثار، وترجمة بعض هذه الآثار إلى اللغة العربية في غير نظام ولا اطراد، وما كان آخر الأمر من الإعراض عن الحضارة المادية القديمة والإقبال على الحضارة المادية الحديثة، واستعارة النظم السياسية والاقتصادية والإدارية والعسكرية والقضائية من أوروبا، ثم العدول عن العلم الموروث ومناهج تعليمه، إلى العلم الحي الحديث ومناهج تعليمه الحية المستحدثة، وإقرار هذا كله في المدارس والمعاهد، التي أخذت تكثر وتنتشر في البلاد العربية كلها وفي مصر منها بنوع خاص.
كل هذا قد غير كثيرا من خصائص النفس العربية، واضطرها إلى أنحاء من التصور والتصوير لم تكن مألوفة من قبل، وأخذ عنصر التطور يعمل من جديد، ولكنه كان تطورا رائعا حقا. كان تطورا يسعى في طريقين متعاكستين أشد التعاكس وأقواه، وليس أدل من هذا التطور على قوة الأدب العربي وقدرته على المقاومة، واستعداده للتغلب على المصاعب والنفوذ من الخطوب، فقد كان إحياء الأدب القديم وما زال يدفع العقل العربي الحديث إلى وراء ويقوي فيه عنصر الثبات والاستقرار، كما كان الاتصال بالأدب الأوروبي الحديث يدفع الأدب العربي إلى أمام، ويقوي فيه عنصر التطور والانتقال.
والغريب أن العقل العربي الحديث قد ثبت لهذا التعاكس العنيف وانتفع به أشد انتفاع، وكان يخشى في أواسط القرن الماضي وفي أول هذا القرن، أن يتم التقاطع بين هذين الاتجاهين، فيذهب فريق من المتأدبين إلى وراء من غير رجعة، ويذهب فريق منهم إلى أمام في غير أناة، ويضيع الأدب العربي بين هاتين الطريقين المتعاكستين، ولكن الأدب ثبت لهذه المحنة واستفاد منها، كما ثبتت الشجرة العظيمة التي أشرت إليها آنفا للعواصف المتنافرة المتدابرة، وليس من شك في أن هذا التعاكس قد كان له صرعى، فجمد بعض المتأدبين وأسرفوا في الجمود، ولكنهم قضوا ولم يعدوا بجمودهم أحدا، وغلا بعض المجددين من الذين هاجروا إلى أمريكا من سوريا ولبنان، ولكن غلوهم لم يلبث أن رد إلى الاعتدال والقصد.
والشيء المهم أن الأدب العربي في الشرق الأدنى وفي مصر خاصة قد استقامت له طريقة تحقق فيها التوازن الصحيح بين القديم والجديد، على نحو ما تحقق في العراق والشام ومصر أيام التطور الذي حدث في القرون الأربعة الأولى، فاحتفظ بأصوله التقليدية الأساسية ولم يستعص على التطور، وإنما قبل من الثقافات الأجنبية الحديثة مثل ما قبل من الثقافات الأجنبية أيام العباسيين، واستحدث من الفنون ما يلائم العصر الحديث كما استحدث من الفنون ما كان يلائم عصر العباسيين.
وأول مظهر لهذا هو أن العلم الحديث نفسه قد اتخذ اللغة العربية له لسانا، وعرض كثيرا من فروعه نفسها في لغة عربية واضحة كما يعرض في اللغات الأجنبية المختلفة، ثم استقر في البلاد العربية، يدرس في معاهدها ومدارسها باللغة العربية حينا، وباللغات الأجنبية حينا آخر. يذهب العرب لطلبه في أوروبا وأمريكا، ويحمله الأوروبيون والأمريكيون إلى العرب في بلادهم.
وهنا يظهر الفرق الخطير بين الاتصال العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، والاتصال العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة، فقد كان الاتصال القديم ضيقا أشد الضيق، محدودا لا يكاد ينهض به إلا أفراد يمكن إحصاؤهم، وقد استطاعت كتب التاريخ أن تحفظ أسماء الذين نقلوا إلى العرب ثقافات الهند والفرس واليونان ، وأسماء الذين أساغوا هذه الثقافات وتمثلوها وأذاعوها في فنون الأدب العربي المختلفة، أما في العصر الحديث فليس من سبيل إلى إحصاء الذين يتعلمون اللغات الأجنبية ويعلمونها، وينقلون منها بالشفاه حينا وبالترجمة المكتوبة حينا آخر، فانتشار العناية بتعلم اللغات الأجنبية خصلة يمتاز بها العصر الحديث، وما نعرف أن العرب في بغداد أو غيرها من الأمصار الإسلامية أنشأوا مدارس لتعلم اليونانية والفارسية أو أرسلوا بعثات منظمة مستمرة إلى بلاد الهند والروم.
وخصلة أخرى يمتاز بها الاتصال الحديث من الاتصال القديم، وهي أن الاتصال القديم لم يكن مباشرا في أكثر الأحيان، وإنما كان يتم بالواسطة، فالذين كانوا ينقلون من اليونانية إلى العربية مباشرة كانوا أقل من القليل، وإنما كان النقل من اليونانية إلى السريانية، ثم من السريانية إلى العربية، ومن هنا وقع كثير من الخطأ والخلط والاضطراب في النقل، ومن هنا صرف بعض المذاهب الفلسفية اليونانية عن موضعه، وأضيف بعضها إلى غير أصحابه، وظهر شيء من الاضطراب في تاريخ الفلسفة الإسلامية وفي الصلة بينها وبين الفلسفة اليونانية، أما الاتصال في العصر الحديث فمباشر قلما يتم بالواسطة، فالذين يترجمون عن الإنجليزية والفرنسية يحسنون هاتين اللغتين ويحسنون اللغة العربية أيضا فينقلون عن فهم وبصيرة في كثير من الدقة والإتقان، وقد يوجد النقل بالواسطة بالقياس إلى بعض اللغات التي لم ينتشر درسها في الشرق العربي، فقد ينقل الأدب الفرنسي من طريق الفرنسية والإنجليزية، وقد ينقل الأدب الألماني كذلك من طريق هاتين اللغتين.
ولكن القراء ينظرون إلى هذا النقل في كثير من التحفظ والاحتياط ويقبلونه على أنه ضرورة موقوتة ستزول حين يشيع درس اللغات الكبرى على اختلافها، والنقل بالواسطة عندنا أدق وأصح وأدنى إلى الإتقان من النقل بالواسطة في العصر القديم، فالذين ينقلون كتابا ألمانيا من طريق الفرنسية مثلا يضاهون بين ترجمتهم وبين الترجمة الإنجليزية ليتحققوا من أن نقلهم مقارب يمكن أن يساغ، ولم يكن شيء من هذا ممكنا في العصر القديم، ولعلها أن تكون أجل خطرا من الخصال الأخرى، فقد كان القدماء يتصلون بثقافات أجنبية قليلة محدودة، وكان اتصالهم بها بطيئا ضيقا قليل الإتقان. كانوا يتصلون بثقافة الهند وهي ضئيلة، وكانوا يتصلون بثقافة الفرس وهي ضئيلة أيضا، وكانوا يتصلون بالثقافة اليونانية العظيمة الواسعة المختلفة، ولكن اتصالهم نفسه كان ضئيلا، فهم قد عرفوا الطب والعلم على اختلافه، وهم قد عرفوا الأخلاق وما بعد الطبيعة، ولكنهم لم يعرفوا الأدب ولم يعرفوا الفن، ولم يكادوا يعرفون من السياسة شيئا، أما الآن فنحن نتصل من طريق مباشرة وغير مباشرة بثقافات لا تكاد تحصى، وأيسر ما يمكن أن يقال هو أننا نتصل بالثقافة الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والألمانية والروسية، وقد نتصل بالثقافة الإسبانية والإيطالية.
Página desconocida
وقد نقرأ كتبا تنقل إلينا من بلاد أوروبا الشمالية، وأخرى من بلاد أمريكا الجنوبية، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد الشرق الأقصى، وما أكثر ما نقرأ عن بلاد أخرى لم تتحضر بعد! ولكن الأوروبيين قد زاروها واستعمروها وكتبوا عنها ونقلوا إلينا كثيرا من أنبائها، ثم إن ثقافتنا لا تتصل بالثقافات الأجنبية من طريق المكان وحده، ولكنها تتصل بها من طريق الزمان أيضا، فقد استكشف كثير من تاريخ الأمم، وعرض علينا في اللغات المختلفة، فنحن نعرف من تاريخ المصريين القدماء أكثر مما كان المصريون القدماء أنفسهم يعرفون من تاريخهم، وليس من شك في أن علمنا بتاريخ المصريين القدماء الآن، أدق وأعمق وأوسع من علم المصريين في أيام البطالسة بهذا التاريخ، وقل مثل ذلك عن تاريخ اليونان والرومان، وقل مثله عن تاريخ الفرس والهند، وما شئت من أقطار الأرض المتحضرة، فلا غرابة إذن في أن هذه الأبواب التي فتحت لنا على مصاريعها، ونفذت إلينا منها الثقافات الأجنبية المختلفة، تباعد بيننا وبين ما عرف العرب القدماء من حياة الأمم الأخرى، وقد استطاع أبو العلاء أن يقول:
ما مر في هذه الدنيا بنو زمن
إلا وعندي من أنبائهم طرف
ولو قد نشر أبو العلاء الآن لعرف أن الأطراف التي كانت عنده، لم تكن شيئا مذكورا بالقياس إلى الأطراف التي نأخذ نحن بها الآن، ومن المحقق أن الإنسانية ستقيس علمها في آخر هذا القرن، إلى علمنا نحن في هذه الأيام، فترثي لنا وتشفق علينا كما نرثي نحن لأبي العلاء ونشفق عليه، ومهما يكن من شيء فإن الفروق التي أشرت إلى بعضها، بين اتصال الأدب العربي القديم بالثقافات الأجنبية القديمة، واتصال الأدب العربي الحديث بالثقافات الأجنبية الحديثة، خليقة أن تنشئ فروقا خطيرة بين الأدبين في أنفسهما، وإذا كانت هذه الفروق لم تظهر واضحة جلية أثناء القرن الماضي، فإنها قد أخذت تظهر شيئا فشيئا أثناء هذا القرن الذي نعيش فيه، ولست أدري أين قرأت لبعض الأدباء الفرنسيين أن القرن العشرين بالقياس إلى الحياة الأدبية في فرنسا إنما يبتدئ بالحرب العالمية الأولى، وأكاد أقبل هذا التوقيت بالقياس إلى حياتنا الأدبية العربية، ففي أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن ظهرت المقدمات التي تنبئ بما كان أدبنا مشرفا عليه من تطور خطير. ظهرت آثار الشيخ محمد عبده وقاسم أمين والمويلحي وعبد الله نديم والبارودي وحافظ وشوقي ومطران، وكان هؤلاء جميعا وكثير من أمثالهم يصورون آخر عصر وأول عصر آخر، يصورون طورا من أطوار الانتقال؛ فهم كانوا يحافظون على كره، ويجددون على استحياء، ويرون أن الحياة القديمة قد انقضت أيامها، وأن فجر حياة جديدة قد أخذ ينتشر في الأفق شيئا فشيئا، ولم يكد هذا القرن يخطو خطوات قليلة حتى ظهر جيل من الشباب نظر إلى الحياة القديمة نظرة سخط عنيف، ونظر إلى قادة الرأي هؤلاء نظرة حب ورضا وإكبار، ولكن فيها كثيرا من الإشفاق والرثاء، وفيها ما يدفع أحيانا إلى الثورة والغضب، فقد كان هذا الجيل من الشباب الناشئ في أول القرن يقف من قادة الرأي موقف الأبناء من الآباء يحبونهم ويكبرونهم، ولكنهم يثورون بهم ويخرجون عليهم سرا دائما وإعلانا بين حين وحين، والذين يذكرون الأعوام التي سبقت الحرب العالمية الأولى في مصر خاصة، يذكرون من غير شك تلك الخصومات العنيفة التي ثارت بين الشباب والشيوخ في الصحف وفي الكتب والرسائل، ولعل منهم من يذكر عنف العقاد والمازني وطه حسين بشوقي وحافظ، ولعل منهم من يذكر عنف طه حسين بالمنفلوطي، ولعل منهم من يذكر كل تلك الخصومات التي كانت تثار حول الأدب وحول السياسة وحول حرية الرأي، في الصحف السيارة اليومية، وفي المجلات الشهرية والأسبوعية، وفي بعض الكتب التي كانت تذاع هنا وهناك، فقد كان هذا كله إنباء بأن تطورا خطيرا يوشك أن يمس الأدب العربي الحديث في أغراضه ووسائله، وفي تصوره وتصويره، وفي تقديره للأشياء والناس وحكمه على الأشياء والناس، وفي أثناء هذا الوقت كان التعليم المتواضع يزداد انتشارا وتغلغلا في طبقات الشعب، وكان الضمير الوطني يزداد يقظة وتنبها، وكانت المثل العليا في الحياة تتغير في نفوس الشباب تغيرا شديدا، وكان السلطان في مصر يضيق بذلك ويستعد لمقاومته، وكان هذا لا يزيده إلا استيقاظا وتنبها وإسراعا إلى التطور، ثم كانت الواقعة الكبرى التي هزت العالم كله خمس سنين، وانجلت عنه الغمرة، وإذا كثير جدا من شئونه يتغير في الحياة العقلية والاقتصادية والسياسية، وإذا مصر خاصة يصيبها من هذا التطور طرف لا بأس به، وإذا الجذوة المصرية تتوهج فترسل ضوءها وشررها إلى ما حولها من البلاد العربية، وإذا الأدب العربي يحيا في ذلك الوقت حياة عنيفة خصبة مختلفة لم يعرفها منذ زمن بعيد جدا.
ثم تتقدم الأعوام شيئا، وإذا قرارات تتخذ، ونظم توضع، من شأنها أن تغير الحياة الأدبية في الشرق العربي تغييرا خطيرا، فقد كان انتشار التعليم من المؤثرات في تطور الأدب قبل الحرب الأولى، ولكن انتشار التعليم كان محدودا ينظمه السلطان البريطاني في كثير من البخل والتقتير، ولكن أمور التعليم ترد إلى مصر بعد الحرب، فيتنوع ويزداد انتشارا، ويندفع في هذا التنوع والانتشار ويصدر الدستور فيلزم الدولة بإعطاء المصريين جميعا مقدارا من العلم يمكنهم من أن يقرءوا ويفهموا ويضطربوا في الحياة، وتجد الدولة في تنفيذ هذا الدستور منجحة حينا مخفقة حينا آخر، ولكنها تزيد عدد القارئين على كل حال، وقد ظفرت مصر منذ ثورتها في أعقاب الحرب بحظ من حرية التفكير والتعبير لم تعرفه من قبل، واشتدت فيها الخصومات حول المثل العليا في السياسة والأخلاق والاقتصاد والأدب والفن، فكان هذا كله أشبه شيء بالحطب الجزل يلقى في النار المضطرمة فيزيدها تلظيا واضطراما، وقد صدمت مصر بألوان من الكوارث في حياتها السياسية حدت من حرية الرأي والقول بين حين وحين، ولكنها زادت العقل المصري قوة وأيدا؛ لأنها علمته العكوف على نفسه، وفتقت له ألوانا من الحيل للتعبير عما كان يريد أن يعبر عنه، ولست أدري أكان من النافع أم غير النافع لمصر أن تتعثر في حياتها السياسية، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه هو أن هذه الأزمات السياسية التي وقفت الإنتاج الأدبي شيئا ما، قد أنضجت هذا الأدب العربي ومنحته صلابة ومرونة في وقت واحد، علمته كيف يثبت للخطوب، وكيف ينفذ من المشكلات.
ولم تكن مصر منفردة بهذا التطور العنيف ولا بهذه الأزمات التي كانت تكبو بها مرة وتنهض بها مرة أخرى، وإنما كان هذا كله حظا شائعا لبلاد الشرق العربي كله تقريبا، فجرى التطور الأدبي متوازنا شيئا ما، ولكن مصر امتازت بمكانها من السبق في السياسة وفي الاقتصاد، وبما أتيح لها من الثروة التي مكنتها من الإسراع إلى نشر التعليم على اختلاف فروعه، ويكفي أن نلاحظ أن مصر أنشأت جامعتين في أقل من ربع قرن، ونشرت التعليم الثانوي في جميع عواصم الأقاليم، ونشرت التعليم الابتدائي في جميع المدن، ونشرت التعليم الأولي في كثير جدا من القرى. ذلك إلى تنوع هذا التعليم واختلاف فروعه، وإلى ما أنشئ من المؤسسات المختلفة التي تعنى بهذا الفرع أو ذاك من فروع المعرفة، وإلى إرسال الشباب إلى العواصم الأوروبية الكبرى، واستدعاء الأساتذة من هذه العواصم على اختلافها. كل هذا جعل مصر مركزا خطيرا من مراكز الثقافة العالمية في الشرق، وكل هذا فتح للأدباء أبوابا من التفكير وشق لهم طرقا إلى الإنتاج ما كانوا ليعرفوها لو جرت الأمور في مصر على ما كانت تجري عليه أثناء الاحتلال وقبل إعلان الاستقلال وإصدار الدستور.
ثم صدم العالم صدمته الثانية، وكانت الحرب العالمية الأخيرة، وذاقت مصر من مرارتها غير قليل، واصطلت بعض نارها ست سنين، وكان أهم ما مس الأدب من هذا كله فرض الرقابة على الإنتاج العقلي، ولست أدري إلى أي حد ضاق الأدباء بهذه الرقابة، ولكن الذي أعلمه هو أن هذه الرقابة لم تمنعنا من الإنتاج الأدبي الخالص، ولعلها صرفت بعضنا عن الأدب السياسي فاضطرته إلى إنتاج آخر لعله أن يكون أبقى وأجدى من الأدب السياسي، ولأضرب لذلك مثلا الأستاذ العقاد، فقد صرفته ظروف الحرب عن عنفه السياسي وقتا ما، ولست أعرف أضاق بذلك أم لم يضق، ولكني أعلم أنه دفع إلى ألوان جديدة من البحث والتفكير، وأنتج كتبا ما أشك في أن قراءه يؤثرون أيسرها على أدبه السياسي كله، وجملة القول أن الأدب العربي الحديث خضع أثناء ربع قرن لمؤثرات كثيرة مختلفة دفعته إلى تطور خطير من جميع نواحيه، دفعته إلى التطور في شكله وفي موضوعه، ودفعته إلى التطور سعة وعمقا وتنوعا واختلافا. ويكفي أن نستعرض الفنون التي يمارسها الأدباء لنتبين صدق هذا التقدير؛ فقد أدركنا هذا القرن وأدبنا العربي ينقسم إلى شعر ونثر، وكان شعرنا قديما يحاول التجديد، وكان نثرنا كتبا يسيرة وفصولا تنشرها الصحف، بعضها يمس السياسة، وبعضها يمس الحياة اليومية، وبعضها يحاول التعرض لبعض شئون الاجتماع، وقليل منها كان يفرغ للأدب الخالص فراغا تاما، وكان عندنا تمثيل نستعير قصصه من أوروبا ولا نكاد نجيد عرضه على النظارة، ولعلنا كنا نسيء إلى فن التمثيل أكثر مما كنا نحسن إليه، وكنا نحاول النقد فنذهب فيه مذاهب القدماء، وكان الشباب يريدون أن يجددوا هذا النقد فلا يظفرون إلا بالإعراض والإنكار، وقد حاول بعضنا أن يحدث في الأدب فنا جديدا، فحاول المويلحي رحمه الله أن ينشئ قصة فأنشأ مقامة طويلة، وحاول حافظ رحمه الله أن يتحدث إلى سطيح فلم يصنع شيئا.
أما بين الحربين فقد دفع أدباؤنا إلى الأعاجيب، وكان أول هذه الأعاجيب هذه الخصومات السياسية التي يسرت اللغة تيسيرا غريبا، ومنحت العقول حدة رائعة ونفاذا بديعا، واستطاعت أن تشغل الجماهير وتعلمهم العناية بالأمور العامة والاهتمام لها والتفكير المتصل فيها ، وأحدثت - أو قل أحيت - في النثر العربي فن الهجاء الذي أتقنه الجاحظ وقصر فيه من جاء بعده من الكتاب، فقد أصبح هذا الهجاء السياسي من أهم الألوان لأدبنا العربي الحديث، فيه الحدة والعنف وفيه المتعة واللذة، وفيه التنوع والاختلاف بتنوع الأمزجة واختلافها، وفيه الإيجاز والإطناب، وفيه التصريح والإشارة.
على أن هذه الخصومة السياسية لم تمس النثر وحده، وإنما ردت إلى شعرائنا الشيوخ شيئا من شباب، فاضطرمت نفس حافظ وشوقي رحمهما الله واستطاعا أن يتصلا بالجمهور بعد أن كانا قد بعدا عنه شيئا، وهذا الشباب الذي رد إلى شوقي في أعقاب الحرب العالمية الأولى دفعه إلى تقليد الشعراء التمثيليين الأوروبيين فأنشأ شعرا تمثيليا قد نرضى عنه أو لا نرضى عنه، ولكن كثيرا منه فتن الذين قرءوه وسمعوه في دور التمثيل.
وهذه الخصومة السياسية دفعت صحف الأحزاب المختصمة إلى التنافس فافتنت فيما جعلت تنشر من الفصول، وإذا الأدباء يستعرضون الأدب القديم يحيونه حياة جديدة بالنقد والتحليل، وإذا هم يستعرضون الآداب الأوروبية الحديثة يذيعونها ناقدين ومحللين ومترجمين، وإذا هم بعد هذا كله يرقون إلى إنشاء الدراسات التي تطول حتى تصبح كتبا تستقل بنفسها، وتقصر حتى تصبح فصولا تنشر في الصحف والمجلات، ثم يجمع بعضها إلى بعض فإذا هي أسفار قيمة يجد فيها القارئ نفعا ولذة ومتاعا، فهذا نوع جديد من الأدب عرفه الأوروبيون منذ زمن بعيد ولم نعرفه نحن إلا في هذا العصر الحديث، ثم ننظر فإذا تمثيل شعبي ينشأ فجأة يصور حياة الثورة وما استتبعته من تطور الأخلاق، وتغير القيم، وإذا نحن نشغف بهذا التمثيل الشعبي، ولكنا نشهده للهو وقطع الوقت ولا نرقى به إلى مرتبة الأدب الرفيع، فيشعرنا ذلك بأن للتمثيل مكانة أدبية يجب أن تعرف له في مصر، وإذا نحن ننشئ فرقة للتمثيل، وإذا القصص التمثيلية توضع لها حينا وتترجم لها أحيانا، وإذا أدبنا التمثيلي قد نشأ متواضعا ولكنه قد نشأ على كل حال، وكل هذا لا يكفينا، فقد قرأنا القصص الأوروبي طويله وقصيره ومتوسطه، وقرأناه في اللغات المختلفة، وسألنا أنفسنا شاعرين بذلك أو غير شاعرين: ما بالنا لا نقص في لغتنا كما يقص الأوروبيون والأمريكيون في لغاتهم؟ ثم حاولنا مقلدين أول الأمر، مبتكرين بعد ذلك، وإذا نحن نبلغ من الإجادة في هذا الفن الجديد حظا عظيما، وإذا قصصنا يشيع في الشرق العربي ثم ينقل إلى الغرب الأوروبي، وإذا قصصنا يختلف في موضوعه وأغراضه ومذاهب الكتاب فيه على نحو ما يختلف القصص الأوروبي في هذا كله، وإذن فنحن قد دفعنا شاعرين أو غير شاعرين إلى أن نسمو بأدبنا العربي إلى مكانة الآداب الحية الكبرى، وبلغنا من ذلك حظا ليس به بأس وإن لم نبلغ من ذلك ما نريد، ومتى بلغ الناس ما يريدون؟!
Página desconocida
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن أيسر الموازنة بين أدبنا هذا الحديث الذي لا نكاد نرضي عنه أو نقنع به وبين أدبنا ذلك القديم الذي فتنا به فتونا، يدل على أننا قد وثبنا بالأدب العربي وثبة لم يكن القدماء يحلمون بها ولم تكن تخطر لهم على بال، وقد كان العصر العباسي عصرا ممتازا في التاريخ الأدبي من غير شك، ولكن عصرنا نحن أشد منه امتيازا وأكثر منه خصبا وأعظم منه استعدادا للبقاء.
على أن هناك تطورا آخر لأدبنا الحديث أعظم خطرا وأبعد أثرا من كل ما قدمت، وهو الذي سيوجه الأدب في المستقبل القريب إلى غاياته التي لا يستطيع عنها تحولا أو انصرافا فيما أعتقد، ولهذا التطور الخطير وجهان: أحدهما يتصل بأشخاص الأدباء، والآخر يتصل بالموضوعات التي يطرقها الأدباء، فأما الوجه الأول فنستطيع أن نتبينه في سهولة ويسر إذا نظرنا إلى حافظ وشوقي والمنفلوطي من جهة، وإلى العقاد والمازني وهيكل من جهة أخرى، فقد كان الأدباء الثلاثة الأولون لا يعيشون لأدبهم وإنما يعيشون بأدبهم. أريد أنهم كانوا يتخذون الأدب وسيلة إلى الحياة وإلى حياة لا تمتاز بالاستقلال، كان كل واحد منهم في حاجة إلى حماية تكفل له ما يحب من العيش والمكانة، ولا بد له من «مسين» كما يقول الأوروبيون، يحميه ويعطيه ويحوطه بالرعاية والعناية، ويدفع عنه العاديات والخطوب، أما الثلاثة الآخرون فثائرون على هذا النوع من الحياة، مبغضون لهذا النوع من الأدب، يكبرون أنفسهم أن يحميهم هذا العظيم أو ذاك ويكبرون أدبهم أن يرعاه هذا القوي أو ذاك. هم يعيشون أولا ويعيشون أحرارا، ثم ينتجون أولا وينتجون أحرارا، وهم يأبون أن يؤدوا عن إنتاجهم الأدبي حسابا لهذا أو ذاك. هم مستقلون في إنتاجهم الأدبي بأدق معاني هذه الكلمة وأكرمها.
وقد تقول إنهم ينتجون للجمهور، فهم مدينون للجمهور بحياتهم الأدبية، ولكن الجمهور هذا شيء شائع مجهول لا يستطيع أن يعبث بحرية الأديب ولا أن يعرض كرامته لما لا يحب، وكل إنسان في بيئة متحضرة إنما يعيش للجمهور وبالجمهور، كما أن الجمهور نفسه يعيش لكل إنسان وبكل إنسان، فالظاهرة الخطيرة في أدبنا الحديث هي هذه الكرامة التي كسبها الأدباء لأنفسهم ولأدبهم والتي مكنتهم من أن يكونوا أحرارا فيما يأتون وفيما يدعون.
أما الوجه الثاني لهذا التطور فهو أن هذه الحرية نفسها قد فتحت للأدباء أبوابا لم تكن تفتح لهم حين كان الأدب خاضعا للسادة والعظماء، وقد أثرت ظروف التطور الإنساني في توجيه هذه الحرية، فقد كان الأدباء القدماء يؤثرون السادة والعظماء بما ينتجون، فأصبح الأدباء المحدثون يؤثرون أنفسهم ويؤثرون الفن ويؤثرون الشعب بما ينتجون، وكذلك عكف الأدباء على أنفسهم فحللوها وعرضوها، واستخرجوا من هذا التحليل علما كثيرا ومتاعا عظيما، وكذلك فرغ الأدباء لفنهم فجودوه كما يريدون وكما يستطيعون وكما يريد الفن، لا كما يريد هذا السيد أو ذاك.
وكذلك عكف الأدباء على الشعب، فجعلوا يدرسونه ويتعمقون درسه، ويعرضون نتائج هذا الدرس، ويظهرون الشعب على نفسه فيما ينتجون له من الآثار، وهذا كله قد رفع الأدب إلى الصدق والدقة، وجعله إنسانيا لا فرديا، ووضعه حيث وضعت الآداب الحية الكبرى نفسها بحكم التطور الذي دفعتها إليه ظروف الحياة الحديثة.
فإذا أردنا أن نتبين الاتجاهات التي سيدفع إليها الأدب العربي غدا، بعد أن عرفنا اتجاهات الأدب العربي في ماضيه القريب والبعيد، وبعد أن رأيناه يحيا بين أيدينا في حاضره الذي نشهده الآن، فقد يخيل إلي أننا نستطيع أن نستنبط هذه الاتجاهات من بعض الحقائق الواقعة، وأول هذه الحقائق الواقعة هو هذا الاستقلال الذي كسبه الأدباء لأنفسهم ولأدبهم، فهم قد أخذوا بحظ من الحرية وهم لن يكتفوا بما أخذوا، ولكنهم سيمعنون في استقلالهم وحريتهم حتى يرتفعوا عن كل رقابة مهما يكن مصدرها، وحتى يتعرضوا - وقد تعرضوا بالفعل - لبعض الأذى في سبيل هذه الحرية.
ومن هذه الحقائق الواقعة أن التعليم ينتشر انتشارا هائلا، ينشأ عنه كثرة القراء من جهة، واختلاف هؤلاء القراء في حظوظهم من الثقافة من جهة أخرى، وسيكون لهذه الحقيقة تأثير خطير في الأدب، فسيحرص بعضهم على كثرة القراء وانتشار آثاره، وسيضطر إلى ملاحظة هذه الكثرة كما كان الأدباء القدماء يلاحظون سادتهم ومواليهم، وسيضعف أدب هؤلاء حتى يصل إلى الابتذال أحيانا، ولعلنا نشهد بعض ذلك منذ الآن، وسيحرص قوم آخرون من الأدباء على كرامة الفن وجودته أكثر مما يحرصون على انتشاره وشيوعه، فيجودون أدبهم ويحفلون بهذا التجويد، ثم يرسلون أدبهم إلى القراء غير حافلين بالرضا أو السخط، ولا بما ينتجه الرضا أو السخط من الفقر والثراء.
وهؤلاء هم قوام الحياة الأدبية، وهم هداة الناس وقادتهم إلى الحق والخير والجمال.
وهناك حقيقة واقعة رابعة، وهي أننا نعيش في عصر السهولة والسرعة، في عصر الراديو والسينما والصحف اليومية والمجلات اليسيرة والجمهور القارئ الضخم والمواصلات السريعة، وكل هذا سيعرض الأدب والأدباء - وقد أخذ يعرضهم بالفعل - لمحنة قاسية، فسيلتجئ الراديو والصحف والمجلات إلى الأدباء، وسيتعجلهم في الإنتاج، وسيضطرهم إلى السرعة، وسيحول بينهم وبين الأناة التي تمكنهم من التجويد، وسيجدون أنفسهم بين اثنتين: إما أن يستجيبوا للراديو والصحف والمجلات فيضعف فنهم ويبتذل بعض الشيء، وإما أن يمتنعوا عليها فيشقوا على أنفسهم ويخلوا بين الجمهور وبين أصحاب الأدب الرخيص، وأكبر الظن أنهم سيلائمون بين هذا كله، فيؤثرون الفن بالإنتاج الهادئ البطيء الذي يحتفلون به ويفرغون لتجويده ويذيعونه في الناس متى أرادوا هم لا متى أراد الناس، ويقدمون إلى الجمهور من طريق الراديو والصحف والمجلات أدبا يسيرا ، مهما يكن من يسره فلن يكون من الرخص والابتذال بحيث يصبح خطرا على الجمهور.
وهناك واقعة حقيقة خامسة، وهي أن هذه الثقافات الكثيرة التي تصل إلى أدبنا الآن من كل وجه ستوجه كتابنا اتجاهات مختلفة، فمنهم من يساير الثقافة الإنجليزية، ومنهم من يساير الثقافة اللاتينية، ومنهم من يذهب مذهب الروسيين في الأدب، ومنهم من يذهب فيه مذهب الأمريكيين، ويوشك هذا الاختلاف أن يفسد الأمر على أدبنا العربي، لولا أن أدبنا ليس بدعا في ذلك من الآداب الكبرى، فكل أدب خليق بهذا الاسم يأخذ ويعطي ويتلقى الثروة من كل وجه، والمهم أن يحتفظ الأدب بشخصيته ويحرص على مقوماته، ويحسن الموازنة بين عناصر الثبات والاستقرار وعناصر التحول والتطور، وسيوجد بين أدبائنا من يتطرف في هذه الناحية أو في تلك، ولكن ستوجد بين أدبائنا هذه الصفوة التي تعرف كيف تلائم بين مصادر الثروة الأدبية على اختلافها، وكيف تستخلص منها هذا الرحيق الذي تقدمه غذاء للعقول وشفاء للقلوب والنفوس.
Página desconocida
وهناك حقيقة واقعة سادسة، وهي التي أريد أن أختم بها هذا البحث الطويل، وهي أن الحياة الإنسانية على اختلاف بيئاتها تتجه الآن اتجاهات شعبية لا فردية، ومن طبيعة هذه الاتجاهات الشعبية أن تستغرق كل شيء وتلتهم كل شيء، ومن طبيعة الأدب الرفيع والفن الجميل أن يمتاز ويأبى الفناء في أي قوة مهما تكن، فسيمتحن الأدباء فيما يحرصون عليه من الامتياز، وسيتعرضون إما للعزلة المؤذية أو الخلطة التي تدعو إلى الابتذال، ولكنهم سيلائمون في أدبنا العربي كما لاءم زملاؤهم في الآداب الأخرى بين امتياز أدبهم الرفيع وطموح الشعوب إلى أن تستغرق كل شيء، وسيكون أدبهم الرفيع الممتاز مرآة صافية صقيلة رائعة لحياة الشعب، يرى فيها الشعب نفسه فيحب منها ما يحب ويبغض منها ما يبغض، ويدفعه حبه إلى التماس الكمال، ويدفعه بغضه إلى التماس الإصلاح، وينظر الأدب العربي الحديث فإذا هو في مستقبل أيامه كالآداب الحديثة الكبرى، قائد الشعوب إلى مثلها العليا من الخير والحق والجمال.
الحياة الأدبية في جزيرة العرب
تستطيع أن ترسم لبلاد العرب في هذه الأيام صورتين مختلفتين أشد الاختلاف، وكلتاهما مع ذلك صادقة صحيحة، فهي قسم من آسيا يسمى باسم واحد منذ عصور بعيدة جدا ولكنه يتألف من أقطار وأقاليم تختلف في طبيعتها وتتباين أحوالها الجغرافية والاجتماعية والسياسية والدينية أيضا، فمنها السهل ومنها الوعر، ومنها المرتفع ومنها المنخفض، ومنها الخصب الغني ومنها الجدب القاحل، ومنها ما يسكنه الحضر ومنها ما يسكنه البدو، ثم منها ما يحتفظ باستقلال سياسي قوي أو ضعيف، ومنها ما خضع للأجنبي خضوعا تاما، ومنها بعد هذا كله من يذهبون في الدين مذهب أهل السنة ويتشددون في المحافظة على عقائد السلف الصالح من المسلمين، ومن يذهبون مذهب الشيعة معتدلا أو متشددا، ومن يقيم حياته الدينية على التصوف، ومن يعيش عيشة المسلمين العاديين في البلاد الإسلامية الأخرى، ومن جهل الإسلام جهلا تاما وانغمس في نوع من البداوة هو أشبه شيء بما يصوره الشعر العربي القديم من حياة العرب الجاهليين الذين كانوا يعبدون الأوثان والأشجار قبل ظهور الإسلام.
تجد هذا كله في بلاد العرب، فلا تكاد تصدق أن لهذه البلاد وحدة ما، أو أن من اليسير أن تتحدث عنها وعن آدابها كما تتحدث عن أي بلد آخر من بلاد الشرق العربي، فأنت تستطيع أن تتحدث عن مصر وعن سوريا وعن تونس أو الجزائر، فتصف حياتها الاجتماعية والسياسية والأدبية والدينية في غير مشقة ولا صعوبة؛ لأن لكل بلد من هذه البلاد وحدته الجغرافية والسياسية واللغوية، وهذه الوحدة تمكنك من أن تصف كل بلد من هذه البلاد وصفا مقاربا إن لم يكن دقيقا كل الدقة، أما بلاد العرب أو جزيرة العرب كما يسميها الجغرافيون فليس لها من هذه الوحدة حظ، فما تقوله عن الحجاز لا يصدق على اليمن وما تقوله في أمر نجد لا يصح بالقياس إلى تهامة، فليس هناك قطر واحد وإنما هناك أقطار وأقاليم. •••
وهذه الصورة التي أصورها لك الآن من بلاد العرب قريبة كل القرب من الصورة التي تجدها لهذه البلاد في الشعر الجاهلي حين لم تكن هذه الأقاليم كلها تتفق إلا في الاسم ، وحين كانت تختلف في اللغات واللهجات وفي النظم السياسية والاجتماعية والدينية باختلاف الأقاليم والأقطار، وحين لم يكن الجمل - وهو أداة المواصلات الوحيدة - يستطيع أن يلغي ما بين هذه الأقاليم من الفروق، فهذه الأقاليم لا تزال اليوم كما كانت قبل الإسلام، لم تلغ فيها المسافات ولم تقرب بينها السكك الحديدية، ولم يؤثر فيها تأثيرا قويا استعمال التلغراف على قلة استعماله، ولا مرور السفن البخارية على سواحلها في البحر الأحمر أو بحر الهند أو الخليج الفارسي، فهي إذن على حالها القديم تكاد تكون معزولة عن العالم الخارجي، وهي إذن على حالها القديم لا يكاد يوجد اتصال وطيد بين أقاليمها الداخلية، ومن الغريب أن وضعها السياسي بعد الحرب الكبرى يشبه جدا وضعها السياسي في القرنين الخامس والسادس للميلاد قبل أن يظهر الإسلام فيوثق الصلة بينها وبين بلاد الشرق الأدنى والأوسط.
كانت أطراف الجزيرة العربية في القرنين الخامس والسادس للميلاد متصلة بالدول الأجنبية المجاورة لها، فكانت أطرافها من جهة الشام متصلة بدولة البيزنطيين، ونشأ عن هذا الاتصال أن نظمت علاقات سياسية بين أمراء الغسانيين وقياصرة قسطنطينية، أشبه بعلاقات الحماية في هذا العصر الحديث، وأي شيء الآن إمارة شرقي الأردن؟ هي إمارة الغسانيين القدماء، فيها مدن لها حظ ضئيل من الحضارة، وفيها بادية قوية غنية، وعلى رأسها أمير كان غسانيا قبل الإسلام وهو هاشمي الآن، وهذه الإمارة كانت خاضعة لحماية قسطنطينية قبل الإسلام وهي الآن خاضعة لحماية لندرة، وأطراف الجزيرة من ناحية العراق كانت متصلة بالفرس تقوم فيها إمارة عربية يحميها أكاسرة الفرس وتحافظ هي على حدود الدولة الساسانية من غارة البدو، وهي الآن تقوم فيها مملكة عربية ليس على رأسها لخمي كما كانت الحال من قبل بل هاشمي، وليس يحميها الفرس وإنما يحميها الإنجليز، وبلاد اليمن وما يتصل بها من الأقاليم الجنوبية في الجزيرة كانت في القرنين الخامس والسادس موضع النزاع بين الفرس والروم، وكانت تخضع للروم بواسطة الحبشة أو تخضع للفرس مباشرة أو تظفر باستقلال ضئيل يظل موضع النزاع بين أولئك وهؤلاء، وهي الآن كما كانت من قبل، بعضها خاضع لسلطان الإنجليز مباشرة على الساحل، وبعضها مستقل ولكنه موضع النزاع والتنافس بين القوة الإنجليزية والقوة الإيطالية.
تغيرت أسماء الدول الحامية لأطراف الجزيرة أو الطامعة فيها وتغيرت بعض الشيء أشكال الحماية والطمع، ولكن طبيعة الأشياء لم تتغير وأسباب الحماية والطمع لم تتغير؛ فالدول الأجنبية تحمي أطراف جزيرة العرب، إما خوفا من البدو وإما رغبة في بسط النفوذ التجاري وإما للأمرين جميعا، وطريقة العرب أنفسهم في فهم العلاقة بينهم وبين الأجانب لم تتغير، هي في القرن العشرين كما كانت في القرنين الخامس والسادس تقوم على الحاجة إلى المال والخوف من القوة، فأي الأجانب المجاورين للجزيرة كان أشد قوة وأكثر مالا فهو صاحب النفوذ عند هؤلاء الناس.
أما قلب الجزيرة وداخليتها فلم يتغير كذلك إلا قليلا، بادية مستقلة استقلالا تاما تظهر الخضوع والطاعة لأمراء الحضر، رغبة أو رهبة أو خوفا وطمعا، فليس هناك فرق بين إمام صنعاء في اليمن وبين ملك من ملوك حمير في العصر القديم له سلطته المركزية في الحضر، ولكن أصحاب البادية مستقلون لا يخضعون له إلا بمقدار ما يخافونه أو يطمعون في عطائه، ومثل هذا في نجد وتهامة والحجاز. •••
هذه إحدى الصورتين اللتين أشرت إليهما في أول هذا الفصل، أما الصورة الثانية فتمثل بلاد العرب من حيث إنها وحدة متشابهة من بعض الوجوه، فالدين الرسمي لهذه البلاد هو الإسلام، واللغة الرسمية لهذه البلاد هي لغة القرآن، والحضارة الرسمية في هذه البلاد هي الحضارة الإسلامية القديمة، وإذن فمهما يختلف سكان الجزيرة العربية في موطنهم الجغرافي وفي نظامهم السياسي وفي مذهبهم الديني وفي علاقتهم بالأجانب وفي لهجاتهم الخاصة فهم جميعا مسلمون وهم جميعا يكتبون لغة القرآن إذا كتبوا، ويفكرون ويعيشون على نحو ما كان يفكر ويعيش المسلم قبل أن تتوثق الصلة بينه وبين الأوروبيين والأمريكيين.
ومن هذه الناحية يستطيع الباحث عن الآداب في البلاد العربية أن يتحدث عنها في مقال واحد كأنه يتحدث عن شعب واحد، على أن من الحق عليه أن يلاحظ الظروف الخاصة التي تحيط ببعض الأقاليم فتجعل في آدابه صفات ليست في غيرها من آداب الأقاليم الأخرى، ولكن الكلام عن الأدب في جزيرة العرب يحتاج إلى أن تحل مسألة عزلته قبل الشروع فيه؛ ذلك أن بلاد العرب هي مهد الأدب القديم، وفي شماليها ووسطها ظهر الشعر الجاهلي، وفي الحجاز ظهر القرآن ومن الحجاز ونجد وتهامة انتشرت اللغة العربية وما كانت تحمل من أدب ودين إلى بلاد الشرق الأدنى، فغمرت أكثره وظلت موطنا للأدب الخالص طول القرن الأول للهجرة، فكبار الشعراء في العصر الأموي جميعا من البادية أو من حواضر الحجاز ونجد.
Página desconocida
ومع أن العراق قد عظم شأنه جدا في العصر العباسي ونبغ فيه جماعة من الشعراء - منهم من أصله فارسي ومنهم من أصله من هذه الأخلاط السامية التي كانت تنتشر في العراق والجزيرة والشام - فقد ظل في البادية شعراء ممتازون كانوا يفدون على الخلفاء والوزراء في بغداد إلى أواخر القرن الثالث للهجرة، ثم انقطعت الصلة الأدبية، أو كادت تنقطع بين جزيرة العرب وبلاد الشرق العربي، وعادت الجزيرة العربية إلى ما كانت فيه قبل الإسلام من عزلة تامة في الأدب، وشديدة في السياسة وغيرها من مظاهر الحياة.
فما سبب هذه العزلة التي نشأ عنها أن أصبحت هذه البلاد - التي كانت مصدر النور للشرق الإسلامي كله - موطن الجهل والظلمة؟ وأصبحت هذه البلاد - التي كانت مهد اللغة العربية والأدب العربي - أقل البلاد حظا من الامتياز في الأدب واللغة والدين فضلا عن العلوم الأخرى؟
ليس الجواب على هذا السؤال عسيرا، فقد كانت الدولة الأموية عربية خالصة، وكان خلفاء بني أمية ينظرون إلى جزيرة العرب نظرا خاصا؛ لأنها موطن الأرستقراطية الحاكمة من جهة، ولأنها موطن الأمة التي يستمد منها الجند من جهة أخرى، فليس غريبا إذن أن تكون الجزيرة العربية أشد بلاد الإسلام امتيازا في ذلك الوقت. كانت موطن الرءوس المفكرة وموطن الأيدي العاملة في إقامة الدولة، كانت حاكمة وكان غيرها من البلاد محكوما، فلما قامت الدولة العباسية تغير كل شيء لأن هذه الدولة قامت على أكتاف الفرس وتدبيرهم، فقامت خراسان مقام جزيرة العرب وأصبحت هي التي تمد الدولة بالرءوس المفكرة، بالوزراء ورجال القصر وبالأيدي العاملة بالجيش وعمال الدواوين، وقد أقصي العرب شيئا فشيئا عن الجيش والدواوين.
ولم تكن بلاد العرب تشبه في الخصب والغنى بقية البلاد الإسلامية فأهملتها الدولة ويئست هي من الخلافة، ولم تكن المواصلات بينها وبين عاصمة الخلافة منظمة ولا سهلة، فليس عجيبا أن تضعف العلاقة بينها وبين مركز الحكومة الإسلامية في بغداد شيئا فشيئا حتى انقطعت انقطاعا تاما. أضف إلى ذلك أن تغلب الفرس والترك على بغداد لم يكن من شأنه أن يحتفظ بالعلاقة بين جزيرة العرب نفسها ومواطن الحضارة الإسلامية، وأن جزيرة العرب نفسها لم تكن من الغنى والثروة بحيث تستطيع أن تعيش لحسابها وتحتفظ بحظها من الحياة الأدبية الراقية، ومن الحضارة التي جلبت إليها جلبا أيام الأمويين؛ لهذا كله انسحبت الجزيرة - إن صح هذا التعبير - من الحياة الإسلامية العامة، فأما باديتها فعادت إلى جاهليتها قليلا قليلا، وأما حواضرها فاحتفظت بشيء ضئيل تقليدي من الحضارة والأدب والعلم، ولولا أن البلاد المقدسة في الجزيرة العربية، وأن المسلمين يحجون إلى مكة والمدينة في كل عام، وأن لليمن أهمية خاصة في التجارة أثناء القرون الوسطى، لأهملت هذه البلاد إهمالا تاما ولنسيها تاريخ المسلمين.
نشأت عن هذه العزلة آثار سيئة جدا في حياة الآداب واللغة العربية عامة، وفي حياة اللغة والآداب في جزيرة العرب نفسها بنوع خاص؛ فقد كان اتصال العالم الإسلامي بجزيرة العرب في القرون الأولى للتاريخ الإسلامي يبعث في الآداب العربية في العراق والشام ومصر روحا من البداوة وحياة الصحراء يمنحها شيئا من القوة والجزالة في الألفاظ والأساليب والمعاني أحيانا، فلما انقطعت هذه الصلة أمعن هذا الأدب العربي في الحضارة والترف وفقد روحه العربي الخالص شيئا فشيئا حتى استحال آخر الأمر إلى جسم لا تكاد تمشي فيه الحياة؛ فسدت ألفاظه فكثرت فيها العجمة، وفسدت معانيه لإسراف الشعراء والكتاب في التدقيق، وفسدت أساليبه فظهرت فيها الركاكة والغموض.
وكانت جزيرة العرب في تلك القرون الأولى تستفيد من هذا الاتصال، فكان وفود الأعراب إلى حواضر العراق والشام ووفود أهل الحضر إلى مدن الحجاز ونجد، يثير في نفوس الأعراب معاني ما كانت لتثور في نفوسهم لو ظلوا في عزلتهم الأولى، ويكفي أن يلاحظ أن الغزل الحجازي - وهو أجمل ما قيل في الإسلام من غزل - إنما هو نتيجة لتبادل الصلات بين جزيرة العرب وحواضر العراق والشام ومصر، على أن العلم نفسه قد خسر بهذه العزلة خسارة لا سبيل إلى تعويضها بحال من الأحوال، فمن المحقق أن أعراب الحجاز لم ينصرفوا عن الإنتاج الأدبي بمجرد أن انقطعت الصلة بينهم وبين مراكز الحضارة الإسلامية، بل كان فيهم الشعراء والخطباء والقصاص والرواة، ولكن شعرهم وقصصهم وآثارهم الأدبية بوجه عام لم تكن تنقل إلى مدارس البصرة والكوفة وبغداد وتدرس فيها كما كانت الحال في القرون الأولى، ولم تكن تدون في البادية وإنما كانت تحفظها الذاكرة عشرات السنين ثم يذهب بها صوت الرواة والحفاظ وتنتثر في الصحراء كما تنتثر الرمال بتأثير الرياح.
وعلى هذا أخذت اللغة العربية وآدابها في الجزيرة تتغير وينالها التطور من حين إلى حين دون أن يدون هذا التطور أو يسجل، وأصبح من المستحيل الآن أن نعرف الصلة الحقيقية بين اللهجات العربية في الجزيرة الآن وبين اللهجات التي كانت فيها أثناء القرون الثلاثة الأولى.
على أن العلاقات لم تنقطع بين بلاد العرب وبين البلاد الإسلامية الأخرى من كل وجه، فقد كان المسلمون يحجون في كل سنة كما قدمت، وكان مركز اليمن التجاري يهم بلاد البحر الأبيض المتوسط دائما؛ ولذلك لم تكد تفسد العلاقة بين الجزيرة وبغداد حتى قامت مقامها علاقات أخرى بين الجزيرة والقاهرة وحرصت القاهرة منذ أيام الفاطميين على أن يكون نفوذها عظيما جدا في الحجاز واليمن بنوع خاص، ولكن هذه العلاقات كانت سياسية دينية أكثر مما كانت أدبية علمية، والذين يريدون أن يتتبعوا تاريخ الأدب العربي داخل الجزيرة يستطيعون أن يظفروا بشيء من ذلك في مدن الحجاز واليمن، وذلك بفضل هذه العلاقة بين القطرين وبين مصر، وبفضل المكانة الدينية لمكة والمدينة.
أما نجد فإن حياته الأدبية قد ضاعت ضياعا تاما إلى أواخر القرن الثامن عشر تقريبا. •••
وعلى كل حال فإن في الجزيرة العربية أدبين مختلفين: أحدهما شعبي يتخذ لغة الشعب أداة للتعبير لا في جزيرة العرب وحدها بل في البوادي العربية كلها؛ في الشام ومصر وإفريقيا الشمالية، وهذا الأدب - وإن فسدت لغته - حي قوي له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة الأعراب.
Página desconocida
باديتهم، وهو في موضوعاته ومعانيه وأساليبه مشبه كل الشبه للأدب العربي القديم الذي كان ينشأ في العصر الجاهلي وفي القرون الأولى للتاريخ الإسلامي؛ ذلك لأن حياة العرب في البادية لم تتغير بحال من الأحوال، فحياة القبيلة الاجتماعية والسياسية والمادية الآن كما كانت منذ ثلاثة عشر قرنا، فطبيعي إذن أن يكون الشعر المصور لهذه الحياة كالشعر الذي يصور الحياة القديمة وأن يكون موضوعه ما يقع بين القبائل من حروب ومخاصمات تدعو إلى الفخر والمدح والهجاء والرثاء، وما يثور في نفس الأفراد من أنواع الآلام واللذات التي تدعو إلى الغناء بالشكوى حينا والحب حينا آخر والعتاب مرة ثالثة. والقصيدة العربية الشعبية الآن كالقصيدة العربية القديمة تبدأ بالغزل القليل البسيط المؤثر، ثم تنتقل إلى وصف الإبل والصحراء فتطيل في ذلك ثم تصل إلى غرضها من مدح أو فخر أو غيرهما من فنون الشعر، ومثل ذلك يقال في الخطابة، فالبدوي الآن فصيح كالبدوي القديم، حلو الحديث محب للسمر والقصص إذا اطمأن واستراح، خطيب بليغ إذا كان بينه وبين غيره خصومة أو جدال، وهذا الأدب العربي الشعبي يرويه في البادية جماعة من الرواة يتوارثونه عن آبائهم ويورثونه لأبنائهم ويكسبون بروايته حياتهم المادية ومكانتهم الممتازة أحيانا، ولسوء الحظ لا يعنى العلماء في الشرق العربي بهذا الأدب الشعبي عناية ما؛ لأن لغته بعيدة عن لغة القرآن، وأدباء المسلمين لم يستطيعوا بعد أن ينظروا إلى الأدب على أنه غاية تطلب لنفسها وإنما الأدب عندهم وسيلة إلى الدين.
أما الأدب الآخر فهو أدب تقليدي لا يكاد يوجد في البادية وإنما مركزه الحواضر عادة ، وهو أدب قد اتخذ لغة القرآن أداة للتعبير، وإذا كان الأدب الشعبي مصورا للحياة العربية البدوية تصويرا صادقا ممتازا فإن الأدب التقليدي بعيد كل البعد عن هذا التصوير؛ ذلك لأنه متكلف مصنوع لا صلة بينه وبين الطبيعة الحرة، فهو لا يعكس ما يحسه الشعراء والكتاب، وإنما يمثل ما يريد الشعراء والكتاب أن يضعوه فيه. حظ النفاق فيه أكثر من حظ الصراحة، ثم هو تقليدي لا يصدر فيه أصحابه عن أنفسهم وإنما يقلدون فيه أهل الحواضر من المصريين والسوريين والعراقيين، كذلك كان أدباء المدن في جزيرة العرب طول القرون الوسطى وكذلك هم الآن، ونستطيع أن نؤكد أن أهل الحجاز يستمدون أدبهم التقليدي من مصر والشام بنوع خاص، وقد يتأثرون بغير المصريين والسوريين من الذين يفدون عليهم للحج ولكن كتبهم التي يدرسونها في مكة والمدينة من الكتب التي يدرسها المصريون في الأزهر، وشعرهم الذي يقرءونه أو يحفظونه هو الشعر الذي يقرأ ويدرس في مصر والشام، فهم إن أرادوا أن يكتبوا في العلوم الدينية قلدوا المصريين كما أنهم يقلدونهم في الدرس، وهم إن أرادوا أن ينظموا الشعر قلدوا المصريين والسوريين. •••
أما أهل اليمن فليس تأثرهم بمصر أقل من تأثر الحجازيين، وإن كان لهم مذهبهم الديني الخاص، فهم على كل حال يذهبون مذهب المصريين في درس العلوم الدينية واللغوية. هم تلاميذ الأزهر يفدون عليه فيتعلمون ثم يعودون إلى بلادهم فيعلمون، والغريب أنهم لا يزالون يدرسون العلوم الرياضية والطبيعية على نحو ما كانت تدرس في الأزهر قبل أن يمسه التجديد في أوائل هذا القرن، فالفلك والحساب والمساحة والهندسة والطبيعة؛ كل ذلك يدرس في الأزهر وغيره من المعاهد الإسلامية قبل أن تتأثر بالحضارة الأوروبية الحديثة، ولليمن شعر ولكنه تقليدي كشعر الحجاز يذهب فيه أصحابه مذهب المصريين قبل أن يرتقي الشعر المصري، وأنت تكلف نفسك مشقة شديدة إن أردت أن تلتمس في اليمن أو الحجاز الآن شعرا له قيمة فنية حقيقية، إنما هي ألفاظ مرصوفة يكثر فيها البديع وتدور حول معان تافهة، وما رأيك في أربعة أو خمسة من الشعراء يضيعون وقتهم في صنعاء في نظم القصائد الطويلة الركيكة حول هذا المعنى وهو: «أي الأمرين خير: قرب الروح من الروح أم قرب الجسم من الجسم؟»
وقل مثل هذا في مدح الحجازيين واليمانيين ورثائهم وهجائهم وغزلهم؛ كلام لا طائل تحته ولا غناء فيه، صورة صحيحة لما كان يقال في مصر والشام قبل خمسين سنة.
أما شرقي البلاد العربية فتأثره بالعراق أشد من تأثره بمصر والشام، ففي بعض القرى في أطراف الجزيرة مما يلي العراق شعراء، وفيها أيضا علماء في اللغة والدين، وهم تلاميذ العلماء والشعراء الذين يظهرون في بغداد والبصرة، ولم يكن أهل العراق أحسن حالا من السوريين والمصريين أيام السلطان التركي فليس غريبا أن يكون تلاميذهم في أطراف الجزيرة العربية وفي نجد مقلدين متكلفين، وإنه لمما يضحك أن تقرأ طائفة من الشعر رواها الألوسي لجماعة من شعراء نجد يصفون بها عينا ينبع منها الماء الحار هناك ويختلف الناس إليها للاستشفاء. لا تجد في ذلك الكلام المنظوم فنا ولا شعورا بالجمال ولا تصويرا له ولا شيئا يبعث في نفسك اللذة الفنية وإنما هي ألفاظ سقيمة ثقيلة قد زادها النظم السيئ فسادا ورداءة.
هذه كانت حال الأدب في بلاد العرب إلى وقت قريب جدا إلى ما بعد الحرب الكبرى؛ تقليد شديد عقيم للمصريين والسوريين والعراقيين في علوم الدين واللغة وفي الأدب.
ولكن حركة التجديد العلمي والأدبي ظهرت في مصر والشام والعراق منذ القرن الماضي واشتدت جدا في هذا القرن ولا سيما بعد الحرب بفضل هذا الاختلاط العنيف الذي يزداد كل يوم بين الشرق والغرب، فتأثر كل شيء بحركة التجديد هذه في الشرق حتى الأزهر نفسه، ولم يكن بد من أن يصل أثر هذه الحركة إلى بلاد العرب لأن الحرب الكبرى هزتها كما هزت غيرها من البلاد، ولأنها اتصلت بالأوروبيين اتصالا مباشرا شديدا بعد الحرب ولأن العلاقات كثرت جدا بينها وبين الشرق العربي، وكما أنها كانت تقلد هذه البلاد فيما كان عندها من أدب القرون الوسطى فلا بد لها من تقليدها في أدبها الحديث. •••
على أن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثامن عشر فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيها آثارا خطيرة هان شأنها بعض الشيء، ولكنه عاد فاشتد في هذه الأيام وأخذ يؤثر لا في الجزيرة وحدها بل في علاقاتها بالأمم الأوروبية أيضا؛ هذه الحركة هي حركة الوهابيين التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب، شيخ من شيوخ نجد.
نشأ محمد بن عبد الوهاب في بيت علم وفقه وقضاء، تثقف على أبيه ثم رحل إلى العراق فسمع من علماء البصرة وفقهائها وأظهر فيها آراءه الجديدة القديمة معا، فسخط عليه الناس وأخرج من البصرة، وكان يريد أن يذهب إلى الشام فحال الفقر بينه وبين ذلك؛ فعاد إلى نجد وأقام مع أبيه حينا يناظر ويدعو إلى آرائه حتى ظهر أمره وانتشر مذهبه.
وانقسم الناس فيه قسمين: فكان له الأنصار وكان له الخصوم، وتعرضت حياته آخر الأمر للخطر، فأخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر ليجيروه ويحموا دعوته حتى انتهى به الأمر إلى قرية الدرعية، وهناك عرض نفسه على أميرها محمد بن سعود فأجاره وبايعه على المعونة والنصرة، ومن ذلك اليوم أصبح المذهب الجديد مذهبا رسميا يعتمد على قوة سياسية تؤيده وتحميه، بل تنشره في أقطار نجد بالدعوة اللينة حينا وبالسيف والحرب في أكثر الأحيان، وعن هذا التحالف بين الدين والسياسة نشأت في الجزيرة العربية دولة سياسية عظم أمرها واشتد خطرها حتى أشفق منها الترك أشد الإشفاق، فقاوموها ما وسعتهم المقاومة، فلما لم يفلحوا استعانوا بالمصريين وكان أمرهم إذ ذاك إلى محمد علي الكبير، فنجح المصريون في إضعاف هذه الحركة وإزالة هذه الدولة الجديدة ورد أمرائها إلى ما كانوا عليه قبل ذلك من التواضع، فلا بد من وقفة قصيرة عند هذا المذهب الجديد لتعرف ما هو، وما مبلغ تأثيره في الحياة العقلية العربية في هذا العصر الحديث.
Página desconocida
قلت: إن هذا المذهب جديد قديم معا ، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين ولكنه قديم في حقيقة الأمر لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى الإسلام الخالص النقي المطهر من كل شوائب الشرك والوثنية، هو الدعوة إلى الإسلام كما جاء به النبي خالصا لله وحده ملغيا لكل واسطة بين الله وبين الناس، هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له مما أصابه من نتائج الجهل ومن نتائج الاختلاط بغير العرب، فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، كانوا يعظمون القبور ويتخذون بعض الموتى شفعاء عند الله ويعظمون الأشجار والأحجار ويرون أن لها من القوة ما ينفع وما يضر، وكانوا قد عادوا في سيرتهم إلى حياة العرب الجاهليين فعاشوا من الغزو والحرب ونسوا الزكاة والصلاة وأصبح الدين اسما لا مسمى له، فأراد محمد بن عبد الوهاب أن يجعل من هؤلاء الأعراب الجفاة المشركين قوما مسلمين حقا على نحو ما فعل النبي بأهل الحجاز منذ أكثر من أحد عشر قرنا.
ومن الغريب أن ظهور هذا المذهب الجديد في نجد قد أحاطت به ظروف تذكر بظهور الإسلام في الحجاز، فقد دعا صاحبه إليه باللين أول الأمر فتبعه بعض الناس، ثم أظهر دعوته فأصابه الاضطراب وتعرض للخطر، ثم أخذ يعرض نفسه على الأمراء ورؤساء العشائر كما عرض النبي نفسه على القبائل، ثم هاجر إلى الدرعية وبايعه أهلها على النصر، كما هاجر النبي إلى المدينة، ولكن ابن عبد الوهاب لم يرد أن يشتغل بأمور الدنيا فترك السياسة لابن سعود واشتغل هو بالعلم والدين واتخذ السياسة وأصحابها أداة لدعوته، فلما تم له هذا أخذ يدعو الناس إلى مذهبه، فمن أجاب منهم قبل منه، ومن امتنع عليه أغرى به السيف وشغب عليه الحرب، وقد انقاد أهل نجد لهذا المذهب وأخلصوا له الطاعة وضحوا بحياتهم في سبيله على نحو ما انقاد العرب للنبي وهاجروا معه.
ولولا أن الترك والمصريين اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها لكان من المرجو جدا أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول، ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب، وقد كان هذا الأثر عظيما خطيرا من نواح مختلفة، فهو قد أيقظ النفس العربية ووضع أمامها مثلا أعلى أحبته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم واللسان، وهو قد لفت المسلمين جميعا وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص إلى جزيرة العرب.
فبينما كان الترك والمصريون يحاربون الوهابيين كان أنصار القديم من علماء العراق، سواء منهم أهل السنة والشيعة يردون على هذا المذهب ويكفرون أصحابه، وكان الوهابيون يناضلون عن مذهبهم، وكان أولئك وهؤلاء يقرءون كتب السلف في التفسير والحديث والتوحيد والفقه يلتمسون الأدلة على آرائهم، وكان أولئك وهؤلاء ينشرون الرسائل والكتب التي يجمعونها، كما أخذوا ينشرون الكتب القديمة التي يرجع إليها في التماس الأدلة والبراهين، وكذلك عادت الحياة القوية إلى مذهب أحمد بن حنبل الذي تبعه النجديون، ونشرت كتب ورسائل كثيرة لابن تيمية وابن القيم، واستفاد العالم العربي كله من هذه الحركة العقلية الجديدة، وليس من شك عندي في أن هذه الحركة نفسها قد أيقظت أهل اليمن أيضا، فنهضوا يدفعون عن مذهبهم الزيدي؛ ينشرون كتبهم القديمة ويؤلفون كتبا جديدة في الفقه والتوحيد والحديث، وما زالت مطابع القاهرة إلى الآن تطبع الكتب المختلفة لحساب الوهابيين من أهل نجد والزيديين من أهل اليمن. •••
وفي أثناء هذه الحركة العنيفة ظهر حول الأمراء المجاهدين من أهل نجد جماعة من الشعراء أخذوا يفتخرون بانتصارهم في المواقع ويعتذرون عما يصيبهم من الهزيمة، وليس من الممكن أن يقال إنهم جددوا في الشعر وأحدثوا فيه ما لم يكن، ولكنهم على كل حال عادوا به إلى الأسلوب القديم وأسمعونا في القرن الثاني عشر والثالث عشر في لغة عربية فصيحة هذه النغمة العربية الحلوة التي لم تكن تسمع من قبل. هذه النغمة التي لا يقلد صاحبها فيها أهل الحضر ولا يتكلف فيها البديع وإنما يبعثها حرة ويحملها كل ما تجيش به نفسه من عزة وطموح إلى المثل الأعلى ورغبة قوية في إحياء المجد القديم.
نجح المصريون في إخماد هذه الثورة الوهابية، أو قد نجحوا في إفساد هذه النهضة ولكنهم لم يقتلوها؛ أضعفوا سلطانها السياسي ولكن سلطانهم هم السياسي قد أضعفته أوروبا بمعاهدة سنة 1840، وعجز الترك عن أن يحكموا قلب الجزيرة العربية؛ فاستراح الوهابيون وأسوا جراحهم واستأنفوا قوتهم ونشاطهم ومضت نهضتهم الدينية في سبيلها، ثم تبعتها في هذه الأيام نهضة سياسية بسطت سلطانهم على نجد كله وعلى الحجاز كله وأعادت لهم المثل الأعلى وهو توحيد الكلمة العربية، ولكن بلوغ هذه الغاية الآن ليس من السهولة واليسر بحيث كان أوائل القرن التاسع عشر، فقد استيقظ الشعور القومي في البلاد العربية كلها وأحاطت بجزيرة العرب من جميع أطرافها قوة ليس فيها ما كان في القوة التركية من الضعف والفساد والاضطراب والفقر وهي قوة الإنجليز، وليس الذي يعنينا هو المستقبل السياسي لهذه البلاد وإنما الذي يعنينا هو المستقبل الأدبي، ومن المحقق أن هذا المستقبل الأدبي سيكون باهرا في يوم من الأيام، قريب أو بعيد.
جمع ملك الوهابيين الآن جزءا عظيما جدا من الجزيرة العربية ولم يبق سبيل إلى أن يظل الوهابيون وغيرهم من ملوك العرب وأمرائهم بمعزل عن الحياة العالمية العامة كما كانوا من قبل، بل هم مضطرون إلى أن يتصلوا بالممالك الإسلامية والأوروبية اتصالا سياسيا واقتصاديا منظما، وقد بدأوا ينظمون هذا الاتصال بالفعل؛ فللوهابيين وزير مفوض في لوندرة، وملك الوهابيين على اتصال مستمر بممثلي الإنجليز في عدن، وقد بدأ الإيطاليون يدورون حولهم، وهناك صلات أخرى ربما كانت أشد وأسرع تأثيرا من هذه الصلات السياسية والاقتصادية وهي الصلة العقلية التي تحدثها الصحف والمجلات، والكتب تطبع الآن بكثرة في مصر وفلسطين والشام والعراق وأمريكا، وكلها أو كثير منها يصل إلى كثيرين من أهل الجزيرة العربية، وهم يقرءون فيفهمون أحيانا ويعجزهم الفهم أحيانا أخرى، ولكنهم يعجبون على كل حال، والإعجاب أول التقليد، والتقليد أول الإنتاج الفني.
وقد بدأت بشائر الحياة الجديدة ظاهرة جلية ، ففي مكة صحيفة تنطق بلسان الحكومة وتنشر أدبا وسياسة على نحو ما كانت تفعل الجريدة الرسمية أول الأمر، كانت القبلة أيام ملك الهاشميين وهي الآن تسمى أم القرى، وكانت في مكة مجلة الإصلاح، وفي مكة مطابع، وفي مكة أيضا وغيرها من مدن الحجاز مدارس مدنية على نحو المدارس المصرية الابتدائية تدرس فيها أوليات العلم درسا حديثا وتعلم فيها بعض اللغات الأوروبية، كل هذا إلى جانب التعليم الديني القديم، وأغرب من هذا أن دعوة إلى التجديد الفكري والأدبي قد ظهرت في الحجاز منذ أعوام بتأثير ما يكتبه المصريون والسوريون، وهذه الدعوة عنيفة جدا فهي ساخطة أشد السخط على كل قديم في الحجاز؛ على التعليم الديني والأدبي وعلى نظام الحكم وعلى الحياة الاجتماعية، وقوام هذه الدعوة أن الحجاز يجب أن يحيا حياة الأوطان الحرة المستقلة وأن يحتفظ من قديمه بالدين واللغة ويأخذ عن الأوروبيين بعد ذلك ما استطاع، وأن يستفيد من إقبال المسلمين عليه للحج فلا يفنى هو في المسلمين، وأن يعنى أهله أشد العناية بالتعليم المدني وباللغتين الإنجليزية والفرنسية لأن إحداهما لغة الاقتصاد والتجارة والأخرى لغة العلم والأدب.
وقد بدأ الحجاز بالفعل يرسل شبابه إلى مصر ليدرسوا فيها العلم على نحو ما يدرسه المصريون، وأصحاب الدعوة إلى التجديد لا يكتفون بهذا بل يريدون أن يبعثوا أبناء الحجاز إلى باريس ولندرة، وقد بدأ الحجازيون المجددون ينشئون الشعر والنثر على مذهبهم الجديد ولكنهم لم يوفقوا بعد إلى أن يكونوا للحجاز شخصية أدبية، إنما هم تلاميذ السوريين، والسوريين المهاجرين إلى أمريكا بنوع خاص، فمثلهم العليا في الأدب يلتمسونها عند الريحاني وجبران خليل جبران ومن إليهما. •••
ومع إسراف النجديين في المحافظة، بحكم مذهبهم الوهابي، فلن يستطيعوا مقاومة الحركة التجديدية التي تأتيهم من العراق ومصر، وبين يدي الآن طائفة من القصائد غير قليلة أنشأها جماعة من الشعراء النجديين في مدح الملك عبد العزيز بن سعود، والذي يقرأ هذه القصائد يجد فيها تأثيرا ظاهرا جدا للروح العراقي الذي يتجلى في شعر جميل الزهاوي ومعروف الرصافي وعبد المحسن الكاظمي، والروح المصري الذي يتجلى في شعر حافظ وشوقي، ولكن للشعر النجدي الجديد شخصية تميزه من شعر العراق ومصر، فهو على تأثره بالشعراء المحدثين محافظ في لغته محافظة غريبة، يتخير القوافي الصعبة ويطيل فيها ويكثر منها ويسرف في الألفاظ الغريبة البدوية كأنه يلتمسها من المعاجم، وكأنه يأخذها من لغة البادية النجدية التي هي في مادتها على كل حال لغة الشعر العربي القديم، وقلما يستطيع الشعراء النجديون أن يتتبعوا شعراء العراق في تأثرهم بفلسفة المعري والخيام، أو بالنزعات الأوروبية الحديثة، أو يتتبعوا المصريين في تجديدهم العنيف لألفاظ الشعر وأساليبه ومعانيه، وإنما هم معتدلون، وهم إلى إحياء الشعر القديم أقرب منهم إلى إيجاد شعر جديد، وهم بدويون على كل حال، وهم ينشدون الملك في شعرهم كما كان يفعل القدماء، ويجيزهم الملك على هذا الشعر بالإبل أحيانا وبالثياب أحيانا أخرى وقلما يجيزهم بالذهب والفضة، وأهل نجد يختلفون إلى العراق كثيرا، والعراقيون يصعدون إلى نجد، ولا بد من أن يعود الحال بين القطرين إلى ما كان عليه أيام بني أمية من التعاون الأدبي القوي.
Página desconocida
وفي تهامة وعسير حياة عقلية ولكنها ضئيلة جدا، وهي ممعنة في التصوف متأثرة في ذلك بإفريقيا الشمالية، فقد نقل إليها الإدريسيون طريقة مغربية انتشرت فيها وظفرت بالسلطان السياسي، ولكنها لم تحدث نهضة أدبية ولم تغير من حال الأدب شيئا.
أما اليمن فهي أشد البلاد العربية محافظة على قديم القرون الوسطى، يعنى أهلها بعلوم الدين على طريقة الزيدية من الشيعة وينشرون الكتب الكثيرة في هذه العلوم يطبعونها في مصر، ولهم شعر كثير ولكنه ما زال قديما متأثرا بالروح المصري الشامي الذي كان منبعثا في الشعر قبل النهضة الحديثة، والشعر عندهم مختلط بعلوم الدين، فقلما تجد منهم عالما دينيا إلا وله مشاركة في الشعر، وأكثر أئمتهم شعراء، وإمامهم يحيى الآن يجيد الشعر على النحو القديم، ومن غريب أمر اليمن أنها ظلت طوال القرون الوسطى أكثر البلاد العربية حظا من العلم والأدب في حواضرها، وكان يرجى أن تكون أسرع البلاد العربية إلى الأخذ بأسباب الحياة الجديدة، ولكنها الآن ربما كانت أشد البلاد الإسلامية كلها تمثيلا للحضارة القديمة والأدب القديم، وأهل اليمن يفدون على مصر ولكنهم يفدون للتجارة أو لدرس العلم في الأزهر، وليس منهم من يفكر في الاتصال بالمدارس الحديثة، وليس في صنعاء مدرسة وليس فيها مطبعة، ومصدر ذلك - فيما يظهر - إشفاق أهل اليمن من الأجانب وإغلاقهم أبواب بلادهم في وجوه الأجانب من المسلمين والأوروبيين جميعا، ولكن الحضارة الحديثة المادية قد استقرت على سواحل اليمن ولا بد من أن تقتحم الأبواب المغلقة ولن تستطيع اليمن منذ الآن أن تقاوم هذه الحضارة. •••
وجملة القول أن جزيرة العرب الآن تشتمل على نوعين مختلفين من الحياة العقلية: إحداهما محافظة قديمة لا تزال قوية بحكم الجهل وانتشار الأمية، والأخرى مجددة لا تزال ناشئة بحكم الاتصال بأوروبا والبلاد الإسلامية الراقية، وسيشتد الصراع بين هذين النوعين من الحياة، ولكن النصر محقق للحياة الجديدة لأن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الأوروبية، ولن تستطيع أن تغلق أبوابها بعد اليوم في وجه هذه الحضارة، وقد يقال إن جزيرة العرب قد فتحت للحضارة الإسلامية في القرون الأولى ثم أغلقت من دونها فما الذي يمنع أن تفتح للحضارة الحديثة الآن ثم تغلق من دونها بعد حين؟ والجواب على ذلك يسير سهل: فقد كانت الحضارة الإسلامية القديمة تدخل بلاد العرب على ظهور الإبل وفي الكتب المخطوطة، أما الآن فهي تقتحم هذه البلاد بالسيارات والبخار والتلغراف والتلفون والكتب المطبوعة والصحف والمجلات، وأنى للبادية أن تقاوم هذه القوى المختلفة؟ المستقبل إذن للحياة الجديدة لجزيرة العرب، وسيكون هذا المستقبل قريبا في بعض البلاد وبعيدا في بعضها الآخر، ولكنه سيكون على كل حال.
بول ڤاليري
يسميه الفرنسيون شاعر العقل، ونستطيع أن نسميه عقل الشعر؛ فهذا الوصفان يصورانه أصدق تصوير، وكلا الوصفين يطابق صاحبه مطابقة دقيقة صادقة، والواقع أن حياة بول ڤاليري قد كانت سباقا بينه وبين الأدب، يفر هو من الأدب ما وجد إلى الفرار سبيلا، ويجد الأدب في طلبه ما وجد إلى الجد في طلبه سبيلا، وقد يضطر هذان المتسابقان إلى أن يلتقيا، فإذا كان بينهما اللقاء بدأ بينهما حب عنيف ووصال شديد القسوة قوامه الصراع المتصل، ثم ينكشف هذا الجهاد عن أثر من الآثار لا يستطيع الإنسان أن يقول أي المصطرعين قد غلب صاحبه عليه، أهو الأدب الذي قهر بول ڤاليري فأكرهه على أن يخرج للفرنسيين أروع ما عرفوا من الشعر وأبرع ما قرءوا من النثر، أم هو بول ڤاليري الذي قهر الأدب واضطره إلى أن يذعن لسلطان العقل ويخضع لأصوله الدقيقة ومناهجه الصارمة، ويخرج للفرنسيين حكمة مشرقة وفلسفة مضيئة قوامها الخير في أبدع صوره، والحق في أكرم مظاهره، والجمال كأروع ما يكون الجمال.
وقد يظن القارئ أني أذهب بهذا الحديث مذهب التمثيل والمجاز المقارب أو المباعد والافتنان في التعبير، ولكن الواقع في حياة بول ڤاليري ومن جهده العقلي والأدبي يطابق هذه الصورة التي عرضتها عليك أدق المطابقة وأصدقها، فقد ولد بول ڤاليري سنة 1871 في مدينة ست ونشأ فيها وبدأ فيها درسه، حتى إذا بلغ الرابعة عشرة انتقل إلى مونبلييه ليتم فيها درسه الثانوي، وكان أثناء هذا الدرس مزدريا لنظام الدراسة، معرضا عن درس المعلمين، ناقدا لأساتذته، ساخرا مما يقولون، مؤثرا الاعتماد على نفسه في تحصيل ما يحتاج إليه أو ما يميل إليه من العلم، وكان طموحا إلى العمل في الأسطول ضابطا بحريا، ولكنه لم يظفر من العلوم الرياضية بما كان في حاجة إليه ليدخل المدرسة البحرية؛ ولذلك أعرض عن البحر وعن الأسطول وعن الرياضة واكتفى بدراسة الحقوق، ثم كانت الخدمة العسكرية حين أتم التاسعة عشرة من عمره في مدينة مونبلييه أيضا، وفي هذا الوقت عرف شابين فرنسيين كان لهما حظ من البحر عظيم؛ أحدهما بيير لويس، والآخر أندريه جيد. ولما فرغ من الخدمة العسكرية - وكان قد قرض شيئا من الشعر - لم تعجبه الحياة الأدبية؛ فقرر الانصراف عنها والفراغ للحياة العقلية الخالصة، وأنفق في هذه الحياة العقلية الخالصة أعواما، وأكبر الظن أنه أخذ يقرأ آثار الفلاسفة القدماء والمحدثين، ويفكر فيما يقرأ ناقدا محللا مستنبطا، وأكبر الظن أن السباق بينه وبين الأدب قد بدأ في ذلك الوقت؛ فهو كان قرض شيئا من الشعر ونشره في بعض المجلات وظفر بشيء من الإعجاب، ولكنه أعرض عن الشعر وفرغ للفلسفة، وإذا حياته العقلية التي فر إليها من الأدب تثير في نفسه خواطر لا يجد بدا من تسجيلها، ولو استطاع لما سجلها ولا حفل بها، ولكن هذه الخواطر تلح عليه وتلح، وتضطره إلى أن يقف عندها ويطيل الوقوف، ثم إلى أن يسجلها فيحسن التسجيل، وهو يكتب آيته الرائعة «مسيو تست»، ومسيو تست هذا ليس إلا بول ڤاليري في هذا الطور من حياته، حين شغف بالعقل وآثر أن ينحاز إليه ويقف نفسه على التفكير فيه، وحين بهره ما رأى من حياة العقل فيما بينه وبين نفسه أولا وفيما بينه وبين الحقائق الخارجية ثانيا، وقد اضطره هذا المشهد الرائع الذي استكشفه حين عكف على نفسه إلى حياة داخلية قوية أشد القوة، إن صح هذا التعبير، فهو قد استكشف في ضميره عالما أشد جمالا وأعظم روعة وأكثر دقة وتنوعا من العالم الخارجي الذي يعيش فيه، فمنح عنايته كلها أو أكثرها لهذا العالم الداخلي، وعاش مع نفسه أكثر وقته، ولم يصبح العالم الخارجي بالقياس إليه إلا وسيلة للعالم الداخلي يمنحها من العناية أيسرها وأهونها شأنا، فهو يحيا بين الناس وكأنه لا يراهم، ويتحدث إليهم وكأنه لا يسمعهم لأنه مشغول بهذا العالم الرائع البديع الذي يملأ نفسه من جميع أقطارها، فحياته في العالم الخارجي آلية غافلة ذاهلة، ولكنه يمنح هذا العالم الخارجي في بعض الأوقات النادرة لفتة من لفتاته، وإذا هو يلتهمه التهاما وينقض عليه كما ينقض الوحش على فريسته، ثم لا يلبث أن ينصرف عنه إلى عالمه الخاص وكأنه لم يره ولم يلمم به.
والمهم هو أن بول ڤاليري الذي فر من الأدب إلى الفلسفة لم يستطع أن يفلت من الأدب، وإنما أدركه الأدب، وكان بينهما هذا الجهاد الذي انتهى بإنشاء هذا الكتاب الذي سيظل شابا دائما وخصبا دائما وحافلا بما يملأ النفس إعجابا وبما يدفع العقل إلى التفكير المتصل الذي لا يضيع في غير نفع ولا يذهب في غير غناء.
وفي هذا الكتاب الصغير القصير الحجم الكبير الطويل بقيمة ما فيه من فن وفلسفة، ظهرت هذه الشخصية القوية التي عرفها المثقفون والمتأدبون لبول ڤاليري أثناء حياته كلها، فإذا كان شخص بول ڤاليري يمتاز بشيء في حياته، وفيما أنتج من شعر ونثر، فإنما يمتاز بهذا الصراع المتصل العنيف المتغلغل في كل شيء، المتناول لكل شيء، بين عقله العظيم الرزين ذي المزاج المعتدل والبصيرة النافذة والقدرة على التجريد والنظر إلى الأشياء من عل، وبين حسه الدقيق المرهف وشعوره الرقيق الحاد وذوقه المصفى المهذب، ثم يمتاز بأن هذا الصراع ينتهي دائما إلى نوع من السلام الممتاز الرائع بين العقل والحس والشعور والذوق، فأنت حين تشهد نتائج هذا الصراع إنما تشهد انسجاما غريبا بديعا بين هذه العناصر كلها، قد أخذ من كل واحد منها بمقدار، ولاءم بين هذه المقادير ملاءمة دقيقة إلى أبعد حدود الدقة، بحيث لا تستطيع أن تجد فيها عوجا ولا أمتا ولا انحرافا، ومصدر هذا كله أن هذه الملكات التي يأتلف منها شخص بول ڤاليري قد كانت قوية إلى أبعد غايات القوة، معتدلة مع ذلك إلى أقصى حدود الاعتدال، وكانت إرادة بول ڤاليري متسلطة على هذه الكلمات تسلطا قوامه الحزم والعدل؛ فهي تلائم بينها في صرامة وتقيم الأمر بينها بالقسطاس وتمنع بعضها أن يبغي على بعض، وما أعرف أني قرأت لكاتب أو شاعر في لغة من اللغات التي استطعت أن أقرأ فيها، فوجدت هذا الاعتدال والاستواء والتناسق كما أجدها فيما أقرأ لهذا الكاتب الشاعر العظيم، لا أستثني من ذلك إلا حوار سقراط، وما أظن أن شيئا قد أثر في التكوين العقلي لڤاليري كما أثر فيه حوار سقراط.
وفي أواخر القرن الماضي في سنة 1898 كان بول ڤاليري الذي قارب الثلاثين يعيش في باريس، وقد اشتغل موظفا في وزارة الحرب معرضا عن الأدب والأدب يطلبه، متصلا مع ذلك بالشاعر الفرنسي العظيم «ستيفان مالرميه» محبا له مفتونا بفنه الغامض الذي يروع باستوائه والتوائه، إن أمكن أن يجتمع الاستواء والالتواء، والذي يفتن بدقته وارتفاعه إلا عن العقول والملكات التي امتازت حتى كادت تصبح هي والامتياز شيئا واحدا. وفي سنة 1900 فقد بول ڤاليري أستاذه مالرميه وترك وزارة الحرب والتحق بشركة هافاس البرقية واتخذ له زوجا، وأمعن في الانصراف عن الأدب، وخيل إلى نفسه وإلى الناس أن قد قطعت الصلة بينه وبين خصمه هذا العنيد إلى آخر الدهر، ويقول الذين يعرفونه، والذين تتبعوا حياته في الأعوام الأولى من هذا القرن، إنه مضى في حياته العقلية الفلسفية، وإنه تعمق الرياضة التي استعصت عليه في أيام الشباب الأولى، ولكنه قد نشر في بعض المجلات وأرسل إلى بعض الأصدقاء مقطوعات من الشعر أحبوها ورضوا عنها، وقد أقبل أندريه جيد ذات يوم على صديقه بول ڤاليري سنة 1911 حين بلغ الأربعين من عمره يطلب إليه الإذن في أن يجمع ما تفرق من شعره لينشره في المجموعة التي كانت تنشرها المجلة الفرنسية الجديدة، وقد امتنع بول ڤاليري على صديقه امتناعا شديدا، ولكن أندريه جيد ألح إلحاحا شديدا أيضا، وانتهى الأمر إلى أن قبل ڤاليري إعادة النظر في شعره ذاك.
وقد استأنف النظر في هذا الشعر، فلم ينفق في ذلك أياما ولا أسابيع ولا أشهرا، وإنما أنفق فيه خمسة أعوام أو أكثر من ذلك قليلا، ففي سنة 1917 فوجئ الناس بظهور الديوان الأول لهذا الشاعر الممتنع على الشعر ولهذا الأديب المتأبي على الأدب، وكان بول ڤاليري قد قارب الخمسين من عمره، وليس من شك في أن ديوانه الأول ثم ما تبعه من الشعر والنثر بعد ذلك قد فجأ المتأدبين فجأة قوية رائعة، وإذا بول ڤاليري يحتل مكانه بين الأدباء والشعراء والممتازين، كأنما كان هذا المكان الممتاز قد هيئ له من قبل فهو ينتظره منذ وقت طويل، ومنذ ذلك الوقت شغلت البيئات والمجلات الأدبية والصحف السيارة بأدب بول ڤاليري أكثر مما شغلت بأي إنتاج أدبي آخر، ثم أخذ نجمه يتألق في الأفق حتى ملأه نورا، وإذا هو يتجاوز حدود فرنسا إلى أقطار الأرض كلها، وإذا هو أديب عالمي في أقل من عشر سنين منذ نشر ديوانه الأول، وإذا هو عضو في المجمع اللغوي الفرنسي في سنة 1927 يشغل كرسي أناتول فرانس ويلقي خطبته الرائعة التي لم يفرغ الناس من الحديث عنها بعد والتي لم يدافع أحد عن أناتول فرانس كما دافع عنه فيها، وقد أنشأت عصبة الأمم مجلس التعاون الفكري، وأنشأ هذا المجلس لجنة الفنون والآداب، وأصبح بول ڤاليري رئيسا لهذه اللجنة بل أصبح عقلها المفكر وقلبها النابض، ثم أنشئ معهد البحر الأبيض المتوسط في نيس وأصبح بول ڤاليري رئيسا له، ثم أنشئ في الكوليج دي ڤرانس كرسي للشعر وأصبح بول ڤاليري صاحب هذا الكرسي، وهو قد عين أستاذا بعد أن نيف على الستين.
Página desconocida
وكذلك أصبح بول ڤاليري حامل لواء الأدب والشعر في فرنسا وعلما من أعلام الثقافة العليا في أقطار الأرض كلها، واتصل بكل شيء وشارك في كل شيء، حتى كان يقول إنه أصبح رئيسا لهيئات ومؤسسات لا يكاد يحصيها، وإنه كثيرا ما يدعو نفسه بكتاب منه إليه ليشهد هذا الاجتماع أو ذاك لهذه الهيئة أو تلك.
فإذا امتازت الحياة الأدبية لبول ڤاليري بشيء من ظاهر الأمر فإنما تمتاز بامتناع صاحبها على الأدب أشد الامتناع وإيثاره للعزلة حتى جاوز الأربعين، ثم استجابته بعد ذلك للأدب كارها، واندفاعه في هذه الاستجابة حتى عوض ما فات واسترد ما كان خليقا أن يكسبه من المجد والشهرة في عزلته الطويلة، وكسب في وقت قليل ما ينفق فيه غيره الأعوام الطوال، والأعوام الطوال ليكسب بعضه، فقد ظهر بول ڤاليري فجاءة في السابعة أو الثامنة والأربعين من عمره، ولم يبلغ الستين حتى كان قد ملأ الدنيا وشغل الناس - كما كان يقال في المتنبي منذ ألف عام، فلما توفي وقد نيف على السبعين كانت الفاجعة بموته خطبا شاملا للعالم المثقف كله لا محنة مقصورة على فرنسا وطنه.
وما زالت هناك مسألة غامضة سيكشفها التاريخ الأدبي في وقت قريب أو بعيد، وهي مسألة عظيمة الخطر ، فهل كان بول ڤاليري أثناء عزلته الطويلة يتهيأ عن عمد لهذا المجد الأدبي الذي فاجأ به الناس، أم هل كان صادقا كل الصدق مخلصا كل الإخلاص في إعراضه عن الأدب وامتناعه عليه حتى فاجأه المجد كما فاجأ الناس؟ ومهما يكن من شيء فإن الحقيقة الواقعة التي نستطيع أن نسجلها مطمئنين هي أن بول ڤاليري قد آثر الأناة والاحتياط والحذر، وأبغض الشهرة والمجد والمتهالكين عليها، وقدر الفن على أنه غاية لا وسيلة، بل على أنه الغاية العليا التي يطمح إليها الإنسان حين يبلغ أقصى ما يستطيع أن يبلغ من الامتياز من الثقافة والمعرفة، فهو لم يبغض شيئا كما أبغض السهولة، ولم يزدر شيئا كما ازدرى الإسراع إلى الإنتاج، والإسراع في الإنتاج والاستجابة لهذه الدواعي الكثيرة التي تدعو إلى الإنتاج وتدفع إليه دفعا في كثير من الأحيان، وليس بالشيء القليل أن يمتنع الفرد على عصره، ويلتزم عزلته، ويزدري هذه المغريات الهائلة التي كان الناس يستجيبون لها من حوله، بل يسعون إليها سعيا ويلحون في التماسها إلحاحا، ويبتغون إليها من الوسائل ما يعقل وما لا يعقل، وهنا تظهر الخصلة التي يمتاز بها بول ڤاليري في حياته الخلقية، وهي خصلة الكرامة التي تمنح صاحبها مزاجا من التواضع والكبرياء، وتمنحه التواضع بالقياس إلى المثل العليا وما يحتاج إليه من تكلف الجهد العنيف واحتمال العناء الشاق والإلحاح في السعي المتصل وتمنحه الكبرياء التي ترفعه عن الصغائر وتنزهه عن الدنيات وترغبه عن الأشياء التي يقرب تناولها، وتنحرف به عن الغايات التي يسهل الوصول إليها، ثم تؤلف له في هاتين الخصلتين هذا المزاج المعتدل الرفيع الذي يجعله من هذه الأرستقراطية العقلية، وإذا هو يسعى إلى مثله العليا - على بعدها - ملحا في السعي، غير راض بما يبلغ منها مهما يكن ما يبلغه، متخذا في سعيه إليها أبعد الطرق وأشدها عسرا وأكثرها عقابا، واجدا لذته في إساغة هذا العسر وقهر هذه العقاب والتغلب على هذه المصاعب، مبتكرا هذه العقاب والمصاعب إن أحس أن الطريق قد سهلت له واستقامت أمامه وأصبحت خليقة أن تبلغ به غايته في جهد معتدل وسعي يسير.
وهذه الخصلة لم تؤثر في حياته الأدبية وحدها، وإنما أثرت في حياته المادية أيضا؛ فهو لم يلتمس قط ثروة ولم يسع قط ليبلغ هذا المأرب أو ذاك من مآرب الحياة، ولما أدركته الشهرة لم يستغلها ولم يستثمرها ولم يتخذ أدبه وسيلة إلى فتنة القراء ورضا الجمهور وتحقيق الثراء العريض، وإنما ظل مزدريا للشهرة معرضا عن المجد، يشتهر عن رغمه ويرقى على كره منه ولا يبلغ من ذلك ثراء ولا رخاء، وقد كان عضوا في المجمع اللغوي منذ عشر سنين حين أنشئ له كرسيه في الكوليج دي فرانس، فهو لم يسع إلى الكوليج دي فرانس وإنما هي التي سعت إليه، ولم يطلب المجمع اللغوي وإنما هو الذي طلبه، ولقد شهدته في بعض المجامع الأدبية وقد نهض بعض الحاضرين يذكر الأدباء الذين بلغوا من المجد ما بلغوا ويسرت لهم الحياة فاطمأنوا إلى شيء من الدعة، ولاءموا بين ذلك وبين حرصهم على إرضاء الفن والنهوض بحقه، وكأن بول ڤاليري أحس في حديث هذا المتحدث تلميحا إليه أو تعريضا به، فقال هذه الجملة التي لن أنساها، في ذلك الصوت الذي لن أنساه: «نعم؛ بعد أن كادوا يموتون جوعا.»
وقد عرفت بول ڤاليري من بعيد حين فجأ الناس بأدبه الرفيع في أعقاب الحرب الماضية، فأعجبت به كما كان يعجب به الناس إعجابا يقوم على التقليد أكثر مما يقوم على الدراية الصحيحة، ثم أقبلت على آثاره أقرؤها المرة والمرة والمرات وإذا أنا أحبه عن فهم له، ولكن أي فهم! فهم ليس بالقريب ولا بالمقارب ولا باليسير، وإنما هو نتيجة الجهد المكرر والقراءة المرددة والتفكير المتصل، ثم هو بعد ذلك ليس راضيا عن نفسه ولا مطمئنا إلى ما وصل إليه، والذين يقرءون آثار بول ڤاليري سواء أكانت شعرا أم نثرا يتفقون على أن اللذة التي يحصلونها من هذه القراءة لا تأتي من فهمه واستيعابه، وإنما تأتي من محاولة فهمه سواء أنجحت المحاولة أم أخفقت، ثم تأتي مع ذلك من هذه اللغة الصافية العذبة السائغة التي تجمع بين الرقة والرصانة وبين النعومة والجزالة، والتي تخيل إليك أنها واضحة كل الوضوح، وهي كذلك واضحة كل الوضوح ولكنها على ذلك مليئة بالأسرار. لا تقرؤها مرة إلا حصلت من قراءتها علما ولذة لعقلك وذوقك وشعورك جميعا، وقد أتيحت لبول ڤاليري أشياء لم تتح لكثير غيره من الكتاب والشعراء، فقد كان كشاعرنا القديم المتنبي يستطيع أن ينشد:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وقد تحدثت في غير هذا الموضع عن اختلاف العلماء والأدباء من الفرنسيين في فهم شعره وتأويله وتفسيره، وعن قصيدة المقبرة السحرية التي خصص أستاذ من أساتذة السوربون بعض دروسه لتفسيرها للطلاب، وقد شهد بول ڤاليري بعض هذه الدروس، وجمع الأستاذ بعد ذلك دروسه في كتاب قدمه له بول ڤاليري بمقدمة فيها ظرف وثناء كثير، ولكن الذين يقرءون هذه المقدمة يخرجون من قراءتها غير واثقين بأن الشاعر قد رضي عن شارحه الأستاذ كل الرضا.
وليس نثر بول ڤاليري أقل حاجة إلى التدبر والروية ومراجعة القراءة من شعره، وليس هو أقل إمتاعا للنفس وإرضاء للعقل والقلب من شعره أيضا، ومع ذلك فقد كان بول ڤاليري نفسه يرى أن النثر أقصر حياة من الشعر؛ لأن النثر أيسر على الأفهام من الشعر، وإذا فهمت نصا فقد قتلته، ولست أدري أصحيح هذا أم غير صحيح، ولكني واثق بأن الجيل المعاصر لبول ڤاليري لم يقبل نثره كما أنه لم يقبل شعره، ولكني أشارك النقاد المعاصرين من أهل فرنسا في أن الأجيال المقبلة لن تستطيع أن تتقبل شعره أو نثره، ولكني مطمئن كما اطمأن النقاد المعاصرون في فرنسا إلى أن بول ڤاليري لم يمت وإنما ذهب شخصه المادي، فأما شخصه المعنوي فخالد فيما ترك من شعر ونثر.
وقد تحدث بول ڤاليري نفسه عن «ديكارت» فأنبأ الذين كانوا يسمعون له في السوربون أن عظماء الرجال من أهل الثقافة خاصة إنما تنمو شخصياتهم وتقوى بعد أن يموتوا وبعد أن يمضي على موتهم وقت طويل أو قصير، وكأنما كان يتحدث عن نفسه؛ فشعره ونثره وأدبه كله سيقدم إلى الأجيال هذا الغذاء الرفيع وسيحيا في هذه الأجيال حياة متصلة، وستكون هذه الحياة مؤتلفة ومختلفة معا، مؤتلفة في هذه الكتب والدواوين التي تركها للإنسانية تراثا، ومختلفة في نفوس الذين سيقرءونها ويسيغونها ويتمثلونها ويكونون لأنفسهم صورة ما لصاحبها تلائم ما يستطيعون من التصور والتصوير جميعا.
Página desconocida
ولم يكن بول ڤاليري كغيره من الأدباء ينظم الشعر ويكتب النثر في هذه الموضوعات التي يتكلفها الكتاب والشعراء قصصا وتمثيلا ودراسات، ولكنه كان صاحب تعمق لأشياء مختلفة، لا تكاد تتفق إلا في أنها كلها تتصل بالفن المترف الجميل من جهة، وبالعقل الناقد المستقيم من جهة أخرى.
فهو يكتب في العمارة، ويكتب في الرقص، ويكتب في النفس، ويكتب في العقل، ويكتب في التصوير والنحت والرسم والموسيقى والغناء، ثم هو يكتب في نقد الأدباء والفلاسفة والمثالين والمصورين، وما أعرف أن أحدا قرب إلى القراء ديكارت أو ليونارد دي ڤنسي أو ستندال أو مونتسكيو أو لافونتين كما يقربهم بول ڤاليري، وما أعرف أن أحدا حلل الفنون الرفيعة كما يحللها بول ڤاليري، وما أعرف أن أديبا أو فيلسوفا حلل عمل العقل الإنساني وهو يفكر ويلاحظ ويتأمل ويستمتع ويعكف على نفسه كما حلله بول ڤاليري.
وقد قلت في أول هذا الحديث إن بول ڤاليري قد تأثر أشد التأثر بحوار سقراط كما نقله أفلاطون، وما أشك في أن بول ڤاليري كان من أشد الناس إتقانا للغتين القديمتين، وعلما بأسرارهما وتذوقا لخصائصهما، وقد كان يقول في شيء من السخرية: إن الذين يزعمون أنهم يحسنون اللاتينية أو اليونانية في هذه الأيام يخدعون أنفسهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يستعينوا على قطع الوقت في القطار بقراءة توسيديد أو تاسيت، ولن يحسن الإنسان لغة إلا إذا قرأها في غير مشقة وفهمها في غير جهد، وذاقها في غير عناء، ولكن بول ڤاليري لم يتأثر بقديم اليونان والرومان كما يتأثر به غيره من المثقفين الممتازين فحسب، وإنما تمثل الأدب اليوناني الرفيع والفلسفة اليونانية العليا تمثلا غريبا رائعا حقا حتى استطاع أن يحدث ألوانا من الحوار ينطق فيها سقراط وبعض تلاميذه بملاحظات في الفن وفي الجمال، منها ما يتصل بالعمارة، ومنها ما يتصل بالنفس، ومنها ما يتصل بالرقص، ما كانت لتخطر لسقراط وأصحابه على بال، وأحسب أنها لو نقلت إلى اليونانية الأتيكية التي كان يصطنعها سقراط وتلاميذه، لما كانت أقل روعة وجمالا من يونانية أفلاطون، ولما كانت أقل روعة وجمالا في تلك اليونانية منها في هذه اللغة الفرنسية الرصينة المتينة الرقيقة العذبة التي اصطنعها بول ڤاليري في القرن العشرين، ثم هي تزيد على ذلك أن فيها معاني وخواطر وآراء لم يكن سقراط وتلاميذه ليسيغوها؛ لأن بينهم وبينها خمسة وعشرين قرنا تطور فيها العقل الإنساني وزاد محصوله من العلم والمعرفة، وأتاح ذلك كله لبول ڤاليري ليرى ما لم تتحه الحضارة اليونانية لسقراط وأفلاطون.
ومهما تقرأ من شعر بول ڤاليري ونثره، ومهما يكن الموضوع الذي يمارسه الأديب شعرا أو نثرا، فسترى دائما أدب اليونان الرفيع وثقافتهم العليا شائعين فيما تقرأ يغذوانه بخير ما فيهما؛ لأن بول ڤاليري قد خالط اليونان القدماء مخالطة نادرة شديدة التنوع، خالطهم في أدبهم وفي فلسفتهم وفي فنهم وفي سياستهم، وخالطهم في دينهم بنوع خاص، ثم خالطهم بعد ذلك في حياتهم العاملة التي كانوا يحيونها في ساعات النهار والليل.
ثم هو قد أضاف إلى هذه الثقافة القديمة خير ما أنتجت ثقافة العصر الحديث فتمثل عصر النهضة في إيطاليا وفرنسا على اختلاف مظاهر النهضة فيه، ثم تمثل القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا كلها، لم يترك ظاهرة من ظواهر الحياة العقلية إلا أتقنها علما وفهما وتأويلا وتحليلا، وعني بالعلم عناية خاصة، فتعمق العلوم التجريبية، وتعمق الرياضة حتى استطاع أن يتحدث عن هذه العلوم كأحسن ما يتحدث عنها أصحابها، وأن يجادل الأطباء والعلماء ويصحح لهم آراءهم حين كانوا يشاركون في وضع المصطلحات العلمية للمعجم الفرنسي الذي يصدره المجمع اللغوي.
ثم هو قد تعمق مذاهب الفلسفة منذ فلسف اليونان قبل سقراط إلى أن فرغ برجسون من إقامة مذهبه الفلسفي الأخير، وهو من أجل ذلك يحاور في الفلسفة كأحسن ما يحاور فيها الفلاسفة، ولعله يتمثلها خيرا مما تمثلها الفلاسفة؛ لأنه جمع إلى عقله الناقد الممتاز قلبا ذكيا وإحساسا مرهفا وشعورا رقيقا حادا وذوقا دقيقا لا يفوته شيء.
وقد انتهى إلى رأي في الفلسفة والشعر، أو قل: إنه ابتدأ برأي في الفلسفة والشعر لم يتحول عنه منذ الشباب حين كتب عن ليونارد دي فنسي في أواخر القرن الماضي إلى الشيخوخة حين تحدث عن ديكارت في السوربون سنة 1937.
وهذا الرأي يمكن اختصاره في هذه الجملة اليسيرة التي لا تؤديه إلا تأدية مقاربة، وهو أن الفلسفة والشعر إنما يصدران في حقيقة الأمر عن ملكة واحدة في أصلها، وهي هذه الملكة التي ترفع الإنسان عن الحقائق التفصيلية الواقعة إلى عالم آخر أرقى منها، يفسرها ويعرضها في شيء غير قليل من الروعة يسمو بها إلى هذا الكمال الذي يطمح إليه الإنسان الممتاز، فالفيلسوف شاعر يعرض شعره نثرا في أكثر الأحيان، والشاعر فيلسوف يعرض فلسفته شعرا دائما.
وقد كان بول ڤاليري نفسه هو الصورة الكاملة للفيلسوف الشاعر أو الشاعر الفيلسوف، ومن أجل ذلك لم يخطئ معاصروه حين سموه شاعر العقل، ولم أبعد أنا حين سميته عقل الشعر في أول هذا الحديث.
قلت إني عرفت بول ڤاليري من بعيد حين فجأ مجده الناس في أعقاب الحرب الماضية، وظلت معرفتي له تتقدم شيئا فشيئا حتى أصبح أحب المعاصرين من أدباء فرنسا إلي وآثرهم عندي، وحتى أصبح الوقت الذي أنفقه مع كتبه ودواوينه حين يسمح لي العمل بالفراغ لنفسي وإمتاعها باللذة الفنية العليا أعز الأوقات إلي وأكرمها علي، وحتى اتخذت لنفسي منه صورة غريبة رائعة فيها كثير جدا من التواضع وكثير جدا من الكبرياء، وفيها كثير جدا من السماحة وكثير جدا من الامتياز، وقد هممت أن أعرفه لقراء العربية فتحدثت عنه في الرسالة غير مرة، وتحدثت عنه إلى جمهور المثقفين في غير محاضرة، وترجمت في الرسالة شيئا من كتابه عن النفس والرقص، ولكني لم أجد لهذا كله في نفوس المثقفين الشرقيين إلا صدى ضئيلا فآثرت نفسي به، ثم أتيح لي أن ألقاه سنة 1937 فإذا الصورة التي رسمتها لنفسي منه صادقة كل الصدق لولا أنه في تلك السنة لم يكن من الصحة واعتدال المزاج بحيث كان يجب، وقد كان في فصل الصيف من تلك السنة يعالج أسنانه فيما يظهر فكان حديثه عسيرا أشد العسر، وكان الاستماع له شاقا والفهم عنه أشد مشقة، وأذكر أني ذهبت أستمع له حين تحدث عن ديكارت في السوربون، وبذلت جهدا غير قليل لأظفر بمكان في المدرج الذي كان يتحدث فيه، فظفرت بمكان واقف واستمعت لحديثه من أوله إلى آخره فلم أكد أفهم منه شيئا، وسألت بعض الذين استمعوا له معي من الأساتذة فإذا هم مثلي لم يكادوا يفهمون عنه شيئا، ولكنا جميعا كنا معجبين بهذا الصوت الهادئ القوي الحار الذي كان يملأ المدرج حنانا وحبا وإيمانا، ثم قرأنا الحديث بعد ذلك فإذا هو آية من آيات البيان.
Página desconocida
على أني لقيت بول ڤاليري بعد ذلك لقاء منتظما في مجلس التعاون الفكري وفيما كان هذا المجلس يعقد من مؤتمرات، وفيما كانت هذه المؤتمرات تستتبع من اجتماعات خاصة، فإذا أرق الناس حاشية وأحلاهم شمائل وأعذبهم حديثا، وأشدهم سخرية، ولكنها السخرية التي تروق وتروع ولا تؤذي ولا تسوء، ولم يكن يكره الدعابة الحلوة التي لا تخلو من مكر ودهاء، وأذكر أنه كان يرأس مؤتمرا من المؤتمرات يوم افتتاحه، فلما أذن للخطباء جميعا في الكلام وفرغ الخطباء من كلامهم وجاء الوقت الذي كان يجب أن يتكلم هو فيه وصغت إليه الآذان وأصغت إليه القلوب واشرأبت إليه الأعناق، قال في صوت هادئ باسم: الكلمة الآن للرئيس إدوار هريو.
ولم يكن إدوار هريو بين المتكلمين في هذا الحفل، ولكن بول ڤاليري أراد أن يسر المستمعين وأن يداعب هريو ويورطه في حديث مرتجل من هذه الأحاديث التي يتقنها هريو أشد الإتقان.
وكان آخر لقائي لبول ڤاليري في مدينة جنيف حين اجتمع مجلس التعاون الفكري في يوليو سنة 1939 قبيل إعلان الحرب ، وكان جو جنيف في تلك السنة قاتما كئيبا، وكان أعضاء المجلس جميعا مشفقين من الحرب وأهوالها، وكان بول ڤاليري أشدهم إشفاقا وأعظمهم اكتئابا وأكثرهم تشاؤما، فلم يحب الحضارة أحد كما أحبها بول ڤاليري، ولم يكبر الحياة أحد كما أكبرها بول ڤاليري ولم يستيئس أحد من حماقة الإنسان وضعفه وجنونه كما استيأس بول ڤاليري، ومن أجل ذلك كان في تلك الاجتماعات لا يتحدث عن شيء ينتظر في المستقبل إلا تحفظ واحتاط كما نتحفظ نحن ونحتاط، فنقول: إن شاء الله. ولكنه هو كان يتحفظ ويحتاط فيقول: إن أتيح للحضارة أن تبقى، أو إن كتب للحرية أن تسلم، أو إن عصم الإنسان من الجنون، أو ما يشبه هذه العبارات.
وقد كتب على بول ڤاليري أن يرى تحقيق كل ما تنبأ به؛ فقد تنبأ بالحرب وأهوالها، وتنبأ بما ستلقاه أوروبا من ذل، وتنبأ بما ستتعرض له المثل العليا من ضعة وانحطاط، وقد رأى هذا كله وذاق مرارته صابرا جلدا شجاعا، واحتفظ بكرامته أثناء الهزيمة، وابتهج بالنصر مع المبتهجين، وقال لأحد أصدقائه وهو يسمع الأناشيد الوطنية للأمم المنتصرة: كل شيء ممكن، ويظهر أن ما أنفق من جهد وما أخذ نفسه به من صبر وجلد وما حمل نفسه عليه من درس وإنتاج وما تعرض له من بؤس وحرمان أثناء أعوام الهول، كل ذلك قد حطم صحته تحطيما، فذاق حلاوة النصر واستمتع بلذة الحرية، ولكنه لم يستطع أن يثبت للنعمة بمقدار ما ثبت للنقمة، فانهار بعد طول المقاومة، وفارق هذه الحياة أشد ما يكون الأحياء حاجة إليه. من أجل ذلك لم تحزن عليه فرنسا وحدها، وإنما حزنت عليه الإنسانية المتحضرة كلها، وقد كنت كلما فكرت في زيارة فرنسا بعد النصر أستحضر ساعة حلوة كنت أعلل نفسي بأني سأقضيها مستمعا لبول ڤاليري، فقد ضيعت الخطوب هذه الأمنية، وما أكثر ما تضيع الخطوب من الأماني!
فحسبي أن أعلل النفس بأني إن زرت فرنسا فسأسعى إلى قبر بول ڤاليري في تلك المقبرة البحرية التي رآها صبيا، وغناها رجلا، واطمأن فيها الآن إلى آخر الدهر.
شاعر الحب والبغض والحرية
كان ذكي القلب حمي الأنف، عضب اللسان، وكان قويا لا يعرف الضعف أبيا لا يقبل الضيم، عصيا لا يطيق الإذعان، وكان حازما لا يحب التردد، مقدما لا يحتمل الإحجام، ولم يكن مع ذلك صريح النسب في قبيلة من القبائل العربية القوية أو الضعيفة، ولم تكن قوته وصلابته وحدته تأتيه من جاه طريف أو تليد، ولا من ثروة عريضة أو ضيقة، فقد كان - فيما يظهر - مغمورا مضيعا بين حمير وقريش، ألحق نفسه بحمير بعد أن أصبح له شأن وبعد أن رأى أنه في حاجة إلى نسب يعتز به وركن يأوي إليه، وألحق نفسه بقريش على أنه حليف من حلفائها وولي من أوليائها، فاجتمع له بذلك نسب يماني في حمير وحلف مضري في قريش، على حين لم يستطع أحد من الرواة والنسابين أن يصله بقبيلة من قبائل اليمن ولا أن يرتفع به إلى أعلى من جده الأدنى، فكل ما يعرف الرواة عنه أنه يزيد بن ربيعة بن مفرغ، ولعل الرواة لا يتفقون على اسم مفرغ هذا؛ فقد روي أن اسمه محمد، وأن مفرغا كان لقبا غلب عليه، وأصل هذا اللقب فيما يقال أنه راهن على أن يفرغ في جوفه عسا من لبن ففعل، فسمي مفرغا، وقد يكون هذا حقا وقد يكون الحق شيئا آخر لا نعرفه، ولكن المهم أن مفرغا هذا لم يكن رجلا ذا خطر، وإنما كان شعابا في المدينة أو قريبا من المدينة، وكان ابنه ربيعة فيما يقال صاحب شعر وغزل، وكان له ابن آخر يسمى عامرا، وكان صاحب زهد ودين، فأما صاحبنا يزيد فلم يعرفه تاريخ الشعر ولا تاريخ السياسة إلا حين تقدم به الشباب وحين أصبح شاعرا ظريفا رائع الشعر حسن المحضر، يتنافس فتيان قريش في قربه ومنادمته واصطحابه فيما يعرض لهم من الأسفار.
وأكبر الظن أنه انتفع بحلفه في قريش، فعاشر فتيان بني أمية في العراق وآثرهم بمودته، وآثروه بمعروفهم لحسن موقعه منهم، ولحسن بلائه في التعصب لهم والثناء عليهم، وأول ما نعرف من أمره معرفة دقيقة هو أن شابين من شبان بني أمية تنافسا فيه، فأما أحد هذين الشابين فسعيد بن عثمان بن عفان، وأما الآخر فعباد بن زياد بن أبي سفيان، وكان أول هذين الشابين قد ولي خراسان، وكان الآخر قد ولي سجستان، وقد عرض سعيد بن عثمان على صاحبنا يزيد أن يصحبه إلى ولايته، وأغراه بمال كثير وبأنه سيكون عند ما يرضيه، ولكن يزيد لم يجب سعيدا إلى ما أراد، وآثر أن يصحب عبادا إلى سجستان، وقد أسف سعيد لانصراف هذا الفتى الظريف عن صحبته إلى صحبة عباد، ولكنه مع ذلك حذره ونصح له، وقال له: إن نبت بك الدار عند عباد ولم تبلغ من صحبته ما تريد فإن مكانك عندي ممهد.
وليس من الغريب أن يزهد يزيد في صحبة سعيد بن عثمان ويؤثر عليها صحبة عباد بن زياد، فقد كان سعيد بن عثمان معرضا لشيء غير قليل من سخط السلطان الأموي عليه وزهده فيه، ومصدر ذلك أن أبناء عثمان - رضي الله عنه - قبلوا ولاية معاوية لخلافة المسلمين؛ لأنه قام دونهم بعد مقتل أبيهم، فثأر لهم وحمل بني أمية على رقاب الناس، ولكن شيئا من الحسد وقع في قلوبهم حين بايع معاوية لابنه بولاية العهد، ويقال إن سعيدا نفسه صارح معاوية بإنكاره لذلك في شيء غير قليل من العنف، وإن معاوية رفق به كما كان يرفق بأعدائه وأصدقائه جميعا، وإن توليته خراسان كانت مظهرا من مظاهر هذا الرفق ولونا من ألوان هذه المصانعة، فلم يكن سعيد إذن أثيرا عند معاوية ولا عند ابنه يزيد، وإنما كان يحتمل في شيء من الجهد ويستصلح في كثير من الرفق، أما عباد فقد كان أبوه زياد موضع الثقة والحب من معاوية، وكان ركنا من أركان الدولة الأموية الجديدة، ضبط لها أمر العراق وما يليه ضبطا حسنا وساسه سياسة حازمة صارمة أخافت الناس في شرق الدولة وغربها، فلما مات زياد ولى معاوية ابنه عبيد الله أمر العراق اعترافا بما لزياد عنده من يد؛ فكان عباد إذن ابن أمير العراق القديم وأخا أمير العراق الجديد، وفتى من فتيان هذه الأسرة العصامية التي مكنت لبني أمية في الأرض، فليس غريبا إذن أن يؤثر الشاعر الشاب صحبة الأمير الزيادي ذي المكانة والحظوة، على صحبة الأمير العثماني الذي لا تحتمله الدولة إلا على كره ومضض، على أن عبيد الله بن زياد أمير العراق كان يعرف أخاه عبادا حق المعرفة، وكان يعرف الشاعر الفتى حق المعرفة أيضا، وكان يشفق من محبة هذا الشاعر الفتى لأخيه، ويقدر أن عواقب هذه الصحبة لن تكون إلا شرا. كان يعرف أن أخاه حاد الطبع سريع الغضب شديد العناية بما يكلف من أمر، يفرغ للهوه ومتاعه حين يتاح له الفراغ، ولكنه إذا نهض بأمر ذي بال أقبل عليه وشغل به عن كل شيء، وكان يعرف أن الشاعر الفتى ظريف غزل، حلو الدعابة، عذب الفكاهة جميل المحضر، ولكنه شاعر لا يرضى من صاحبه بالقليل، ولا يقبل منه الانصراف إلى يسير الأمر أو خطيره، وكان يعرف أن الشاعر الفتى عجل نزق سريع الشعور، قوي الإحساس، طويل اللسان، يسرع إليه الضجر ويستأثر به الملل، ويسبق لسانه إرادته فيتعجل اللوم والهجاء قبل إبانهما، ومن أجل ذلك هم أن يصرف الشاعر عن صحبة أخيه فلم يفلح، فنصح له وألح في النصح، وحذره وألح في التحذير والنذير ومضى الشاعر الفتى مع أميره الشاب إلى سجستان، ولم يبلغ الرفيقان سجستان إلا بعد أن فسد الأمر بينهما أثناء الطريق؛ فقد كان عباد عظيم اللحية جدا، فإنه لفي طريقه ذات صباح أو ذات مساء، وإذا الريح تعبث بلحيته الضخمة فتنفشها، ويرى الشاعر ذلك فيروقه المنظر ويضحكه ويسبق لسانه إرادته فيقول:
ألا ليت اللحى كانت حشيشا
Página desconocida
فنعلفها خيول المسلمينا
وقد سمع الرفاق هذا البيت فتضاحكوا، وسعى بعضهم بالبيت إلى عباد فوقعت الموجدة في قلبه، وهم أن يبطش بالشاعر، ولكنه آثر الأناة وأسر الحقد في نفسه، فلما بلغ سجستان شغل بحربه وخراجه وأبطأ على شاعره، وانتظر الشاعر ثم انتظر، فلما طال عليه انصراف الأمير عنه أطلق لسانه فيه يلومه في أحاديثه ويظهر الندم على أنه قد آثر صحبة عباد على صحبة سعيد، وتبلغ الأحاديث عبادا فيضيف غيظا إلى غيظ وموجدة إلى موجدة، ولكنه على ذلك لا يبطش بالشاعر فجأة ولا يظهر له بغضا، وإنما يدبر أمره تدبيرا ويحكم الكيد لهذا الشاعر النزق الذي أمكن من نفسه، ومتى استطاع الشعراء والأدباء عامة ألا يمكنوا من أنفسهم؟! فلم يكن صاحبنا يزيد نزقا عجلا فحسب ، ولكنه كان صاحب لهو ولذة وإسراف في اللهو واللذة، وكان صاحب كرم وجود وإمعان في الكرم والجود، وكان يداعب آمالا عراضا وأماني كبارا، وينتظر من أميره عطاء جزيلا، فما الذي يمنعه أن ينفق ويتسع في النفقة، وأن يستدين حتى يغرق في الدين إلى أذنيه أليس عطاء الأمير سيملأ يديه بالمال، وسيمكنه من إرضاء الدائنين بل من إرضاء الطامعين فيه؟! وكان عباد ينتظره عند هذا المنعطف من سيرته الملتوية المتعرجة، فما هي إلا أن يدس إلى دائنيه من يغريهم بمخاصمة هذا المدين الذي لا يقدر على شيء، فإذا ارتفعت إليه الخصومة أمر أعوانه أن يكسبوا بيت يزيد ويبيعوا أثاثه ومتاعه وسلاحه وفرسه، وقد فعلوا، وبدأ الشر بين الشاعر والأمير، ونظر الأمير فإذا كل ما بيع من متاع الشاعر أقل من أن يؤدي عنه دينه، فيأمر بحبسه فيما بقي عليه للغرماء.
وكذلك انتهت المحنة إلى غايتها، أو قل: انتهت المحنة إلى أولها، وكان يزيد يملك غلاما يحبه أشد الحب وجارية يؤثرها أعظم الإيثار، وهم عباد أن يمضي في الكيد له والتنكيل به، فأرسل إليه من يعرض عليه أن يبيعه الجارية والغلام. قال يزيد: وهل يبيع الرجل نفسه التي بين جنبيه؟ قال عباد: فبيعوا عليه جاريته وغلامه لمن شاء أن يشتريهما من الناس، وعرض برد وأراكة للبيع، فاشتراهما رجل من الناس وأقبل يقبضهما، فلما رآه برد قال له: بئس ما اشتريت لنفسك من السوء والفضيحة! قال الرجل: وكيف ذاك؟ قال برد: فإنك تعلم أن مولاي إنما يهجو عبادا وآل زياد وهم الأمراء وأصحاب السيادة والحظوة عند أمير المؤمنين لأنهم أبطئوا عليه بالعطاء، فكيف إذا علم أنك تشتري أحب الناس إليه وأنك تسوءه بهذا الكيد؟! إنها والله الفضيحة لك ولقومك إلى آخر الدهر. قال الرجل: فإني أشهد على نفسي أنكما له، وإن شئتما كنتما عندي حتى يخلص من سجنه فأردكما إليه. قال برد: فاكتب إلى مولاي بذلك، فكتب الرجل ورد عليه يزيد شاكرا له مثنيا عليه، راغبا إليه في أن يحفظ الغلام والجارية عنده حتى يجعل الله له بعد عسر يسرا، وفي هذه القصة يقول يزيد:
شريت بردا ولو ملكت صفقته
لما تطلبت في بيع له رشدا
لولا الدعي ولولا ما تعرض لي
من الحوادث ما فارقته أبدا
يا برد ما مسنا دهر أضر بنا
من قبل هذا ولا بعنا له ولدا
أما الأراك فكانت من محارمنا
Página desconocida
عيشا لذيذا وكانت جنة رغدا
كانت لنا جنة كنا نعيش بها
نغنى بها إن خشينا الأزل والنكدا
يا ليتني قبل ما ناب الزمان به
أهلي لقيت على عدوانه الأسدا
قد خاننا زمن لم نخش عثرته
من يأمن اليوم أم من ذا يعيش غدا
لامتني النفس في برد فقلت لها
لا تهلكي إثر برد هكذا كمدا
كم من نعيم أصبنا من لذاذته
Página desconocida