وحظ الآلهة من القدرة إنما هو إنفاذ هذا القضاء، تسخر الإنسان له تسخيرا، تنصح له قليلا وتضلله كثيرا وتعبث به دائما؛ فهي توحي إلى لايوس ملك ثيبة أن سيكون له ابن يرديه، وهي تلقي في روعه أنه إن استطاع أن يتخلص من هذا الابن حين يولد؛ فقد يفلت من هذا القضاء المحتوم. وما تزال تغريه بذلك وتزينه في قلبه حتى يدفع بالصبي حين يولد إلى أحد الرعاة ليقتله ، وقد عاد الراعي إليه فأنبأه بأنه أنفذ إرادته، فيطمئن الملك وينعم بحياة قوامها الغرور؛ لأن الراعي لم ينفذ أمره ولم يصدقه الخبر، ألقت الآلهة في روعه حب الصبي والعطف عليه فلم يقتله، وإنما تركه في حيث استطاع راع آخر أن ينقذه ويكفل له الحياة.
وكذلك عبثت الآلهة بالملك فغرته وأملت له، وعبثت بالراعي فزينت في قلبه الحب والرحمة، وأتاحت للصبي أن ينشأ وينمو ويبلغ أشده ويصبح قادرا آخر الأمر على أن يقتل أباه ويستأثر بعرشه، ويتزوج من أمه وينفذ حكم القضاء؛ فحكم القضاء إذن ضرورة محتومة لا يفلت من سلطانها أحد، وليس الآلهة أنفسهم إلا أدوات لإنفاذ هذا الحكم مهما يظهر من سلطانهم على الناس ومداورتهم لهم، ولكنهم على كل حال يستمتعون بظاهر من الحرية يتيح لهم هذه المداورة.
وقد استطاع العقل اليوناني في هذا الطور من أطواره أن يمنح الإنسان شيئا من الحرية الظاهرة، لا أقول في تغيير حكم القضاء، ولا أقول في التخلص من سلطان الآلهة، وإنما أقول في الثبات لهذا القضاء، والحزم أمام سلطان الآلهة؛ فأويدبوس لا يغير من الضرورة المحتومة شيئا لأنه لا يستطيع تغييرها، وهو ينخدع بوحي الآلهة، فيفر من منفاه معتقدا أنه سيظفر بالحرية كل الحرية نتيجة لهذه المغامرة، وهو يحل اللغز الذي يلقيه عليه ذلك الكائن الغريب أمام مدينة ثيبة، ويظفر بالعرش، ويتخذ الملكة لنفسه زوجا، ويرى أنه قد ظفر بالسعادة كل السعادة، ولكنه لا يلبث أن يتبين أن الآلهة إنما سلكت به هذه الطرق كلها لتنفذ على يده حكم القضاء فتضطره إلى قتل أبيه، ثم لتنفذ فيه هو حكم القضاء فتضطره إلى أن يتزوج أمه ويعقب منها الولد.
فحريته إذن أمام القضاء وأمام الآلهة ليست شيئا، ولكن له مع ذلك نصيبا من الحرية فهو يثبت للكارثة، قد فقأ عينيه، ونفى نفسه من الأرض، ولكنه لا يتهم نفسه بشيء ولا يلومها على شيء، فهو لم يأثم، وإنما كتب القضاء عليه الإثم وضللته الآلهة حتى تورط فيه، ولو خير لاختار، ولو عرف أن هذا الشخص الذي لقيه في الطريق هو أبوه لما قتله، ولو عرف أن هذه الملكة التي أهدت إليه نفسها وعرش زوجها هي أمه لما تزوجها.
وإذن فهو مجبر لا مختار، وإذن فهو لا يحتمل تبعة ولا يستحق لوما، وهو في حقيقة الأمر لا يعاقب نفسه حين يفقأ عينيه ويهاجر من وطنه، وإنما ينفذ حكم القضاء، ويخضع لسلطان الضرورة، لم يكن يملك إلا هذا، ولكنه على ذلك ينكره ويثور عليه، ويرى نفسه بريئا أمام الآلهة وأمام القضاء.
وكذلك نرى الإنسان يعرف نفسه أولا ويعرف ضعفه ثانية، ويعرف أن هذا الضعف لا يأتيه من عند نفسه، وإنما يأتيه من عند هذا السلطان الأعلى الذي يتحكم فيه ويصرف أمره كما يريد، لا يستشيره ولا يستأمره، وإنما يسخره لما يريد تسخيرا.
والمهم بعد ذلك هو أن الإنسان يحقق هذا كله، ويصارح القضاء بأنه غير ملوم .
ومهما يكن من شيء فقد ألقيت المسألة الخطيرة، مسألة الصلة بين الإنسان وبين الآلهة، بل مسألة الصلة بين الإنسان وبين القضاء، والذي يحدث بالقياس إلى أويدبوس هو بعينه الذي يحدث بالقياس إلى غيره من أبطال المأساة، فهم جميعا يمتحنون لا في قدرتهم على الخير، ولا في ترجيحهم بين الحسنة والسيئة، وإنما يمتحنون في احتمالهم للمكروه، وإذعانهم لحكم القضاء، وثباتهم لما ينزل بهم من الملمات؛ فمنهم من يذعن في غير اعتراض، ومنهم من يذعن في شيء من المقاومة، ومنهم من يود لو يثور، فإذا أعجزته الثورة احتفظ بحريته كاملة بينه وبين نفسه، وحمل الآلهة والقضاء تبعة ما يتورط فيه من شر، وما يجري على يديه من أحداث.
فالمأساة إذن في حقيقة الأمر ليست إلا لونا من ألوان التشاؤم حين ينظر الإنسان إلى الصلة بينه وبين هذه القوة المتسلطة التي تحكم لا معقب لحكمها.
ومع ذلك فهذا اللون من ألوان التشاؤم ليس سوادا كله، بل فيه شيء قليل أو كثير من الإشراق؛ لأن فيه شيئا قليلا أو كثيرا من الأمل الذي يأتي من معرفة الإنسان نفسه، من شجاعته عند اليأس، وقدرته على المقاومة، وصبره على المكروه صبرا يأتيه من إرادته لا من شيء آخر، ومن هنا كانت المأساة اليونانية تصويرا لبؤس الإنسان من جهة، ولبطولته من جهة أخرى.
Página desconocida