فقد كانت تقول: إن أبغض شيء في حياة الإنسان هو حياة الإنسان. ولذلك أحست شيئا شديدا من الضيق، والتمست إلى العزاء والشفاء وسائل مختلفة، ومن بين هذه الوسائل زيارتها لقصر أخيها، وفي هذه الزيارة لقيت هذه الفتاة فكلفت بها أشد الكلف، وأعجبت بها أعظم الإعجاب، ثم لم تلبث أن رأت في هذه الفتاة رفيقا لها في حياتها البائسة في باريس، فجعلت تتقرب إليها وتتلطف لها حتى ارتفعت بينهما الكلفة، وأخذت الفتاة تبثها آلامها وأحزانها وتجد عندها التسلية والمواساة.
وقد عادت مدام دي ديفان إلى باريس، وصممت الفتاة على ترك القصر، ففارقته بعد خطوب، وأوت إلى دير من الأديار في مدينة ليون، لم تلتحق به، وإنما اتخذته لنفسها مثوى كما يأوى الناس إلى الفنادق الآن، وقد أقامت في هذا الدير وقتا غير قصير، ريثما تقنع أخاها بحسن رأيها في الحياة المستقلة، وقد كان هذا الإقناع عسيرا، جدت فيه الفتاة، وجدت فيه مدام دي ديفان، وتوسط فيه أحد الأساقفة، وانتهت الفتاة بعد لأي إلى ما كانت تريد، وظفرت مدام دي ديفان بعد مشقة بما كانت تتمنى، ووصلت الفتاة ذات يوم إلى باريس واستقرت عند عمتها أو صديقتها في الطابق الأعلى من الدار.
وقد فتن المختلفون إلى صالون مدام دي ديفان بهذه الفتاة الوافدة من الأقاليم، لا لجمالها فلم تكن ممتازة الجمال، ولكن لظرفها وخفة روحها ورجاحة عقلها، وسعة معرفتها وقدرتها على المشاركة في كل الأحاديث التي كانت تدور في هذه الاجتماعات.
وما أحب أن أفصل حياة الفتاة في هذه الدار؛ فذلك شيء لا يتسع له هذا الحديث، ولكني ألاحظ أن إقامتها في هذه الدار لم تطل حتى صبت إليها بعض القلوب، فوجدت في نفسها بعض الصدى، ولكن في كثير من التحفظ والاحتشام. صبا إليها قلب هذا القاضي الذي كان خليلا لعمتها، وصبا إليها قلب نبيل فرنسي أديب آخر، وصبا إليها بنوع خاص قلب نبيل أيرلندي كان يختلف إلى الدار، وهمت الفتاة أن تصبو إليه، ولاحظت مدام دي ديفان ذلك فاصطنعت بعض العنف، وطردت هذا الأيرلندي من دارها، ولم تلبث الفتاة أن ثابت إلى الرشد والحزم، أو ثاب إليها الرشد والحزم.
على أنها لقيت في صالون مدام دي ديفان فرنسيا آخر، لم تلبث أن صبت إليه كما صبا إليها، وإذا حياتها تتغير تغيرا جوهريا، والغريب من أمر هذا الفرنسي أنه كان يشبهها من بعض الوجوه، ولعل هذا الشبه أن يكون له أثر في هذا الود.
هذا الفرنسي هو دالمبير، والقراء يعرفون من غير شك المركز الممتاز الذي كان دالمبير يشغله في الحياة العقلية الفرنسية في ذلك الوقت، فقد كان دالمبير فيلسوفا وأديبا ورياضيا، وكان متفوقا في هذا كله تفوق النبوغ، وكانت الأندية الباريسية تختصم فيما بينها أشد الاختصام أيها يظفر به ويحظى بزيارته.
وكان دالمبير، كما كانت فتاتنا، قد ولد لأبوين نبيلين سنة 1717، ولكنه ولد مولدا غير شرعي، كما ولدت الفتاة مولدا غير شرعي، وقد حظيت الفتاة بعطف أمها، فأما دالمبير فقد فقد هذا العطف فقدا تاما، وجده رئيس من رؤساء الشرطة عند كنيسة من الكنائس، فالتقطه وعمده والتمس له المراضع خارج باريس.
فقدت الفتاة عطف أبيها، وحظيت بعطف أمها، وفقد دالمبير عطف أمه مدام دي تنسين، ولكنه ظفر بعطف أبيه مسيو دي توش، فقد عاد هذا الرجل إلى باريس من بعض المهمات التي كان كلف القيام بها، فعرف مولد الطفل واطراحه والتقاط الشرطة له، وجد حتى اهتدى إليه والتمس له المراضع في باريس نفسها، ولم يستطع أن يستلحقه لأنه كان متزوجا، فقام على تربيته وأوصى له بما يكفل له حياة متواضعة.
وقد نشأ الصبي نشأة حسنة في حجر مرضعه الفقيرة، فدرس حتى تخرج في الأدب والفلسفة والطب والرياضيات، وبرع في هذا كله حتى أصبح علما من أعلام الثقافة الفرنسية، بل طابعا لهذه الثقافة في القرن الثامن عشر.
وكان الود متصلا بينه وبين مدام دي ديفان، حتى استأثرت به استئثارا، فلم يكن يختلف إلا إلى صالونها، أو لم يكن يواظب إلا على صالونها، وكانت تؤثره أشد الإيثار وتختصه بمودتها وبرها، ولكنه لقي عندها هذه الفتاة، فصبا إليه وصبت إليه، واتصل بينهما ود لم تلبث صاحبة الدار أن ارتابت فيه، ثم ضاقت به، ثم لامت، ثم عنفت في اللوم، فاضطر دالمبير إلى أن يسافر من باريس ويذهب إلى برلين، مستجيبا لدعوة فردريك يلتمس في هذا السفر إرضاء مدام دي ديفان، وسلوا عن مدموازيل دي لسبيناس. على أنه عاد إلى باريس، فإذا قلبه ما زال كما كان حين ارتحل عنها، وإذا قلب الفتاة ما زال كما كان حين فارقها.
Página desconocida