وإذا قلت إن الحب أمر خطير؛ فإنما أصدر في ذلك عن ابن حزم من جهة وعن ستندال من جهة أخرى، ولست في حاجة إلى أن أصدر في ذلك عن شعر الشعراء ولا عن أدب الأدباء ولا عن الحياة نفسها؛ لأني لا أكتب فصلا في الحب من حيث هو، وإنما أكتب فصلا في الحب كما صوره هذان الأديبان.
والظاهر أن الحب قد كان خطيرا حقا في إسبانيا المسلمة أيام ابن حزم، وليس أدل على ذلك من أن هذا المحدث الفقيه المتكلم الفيلسوف المنفي من أرض وطنه قد فرغ لكتابة رسالة فيه، وهو لم يفرغ لكتابة هذه الرسالة إلا لأن صديقا من أصدقائه الفقهاء المحدثين المتأدبين قد طلب إليه أن يكتب هذه الرسالة، فلولا أن الأمر له شيء من خطر لما طلب هذا الفقيه المحدث الأديب إلى ابن حزم أن يفرغ له ويكتب فيه، ولما أجاب ابن حزم إلى ما طلب إليه وهو على جناح سفر قد أزعج عن وطنه واستقر في شاطبة لينتقل منها إلى منفى آخر.
ثم نحن نقرأ كتاب ابن حزم فنرى أن الحب قد شغل ابن حزم في حياته كلها كما شغله الفقه والتفسير والحديث والكلام، ونقرأ كتاب ابن حزم فنرى أن الحب لم يشغله وحده، ولم يشغله مع صاحبه الذي طلب إليه تأليف الكتاب وحدهما، وإنما الظاهر أنه كان يشغل الناس جميعا في إسبانيا المسلمة لعهد ابن حزم، ولعله كان يشغل المثقفين والممتازين أكثر مما كان يشغل غيرهم من الناس.
أما في فرنسا فالحب شيء خطير في كل وقت لا يحتاج ذلك إلى دليل، ولكنك سترى أن ستندال لم يكن يقدر الحب كما ألفه مواطنوه الفرنسيون.
أكاد أعتقد أن في نفوسنا من إسبانيا المسلمة صورة غير مطابقة للحقيقة الواقعة أثناء القرن الخامس للهجرة على أقل تقدير، فنحن نقرأ فقها وفلسفة وحديثا وكلاما وتفسيرا ولغة، ونحن نقرأ أخبار الفتن والحرب فيخيل إلينا أن إسبانيا المسلمة قد كانت في القرن الخامس موطن الجد المظلم والثورات المنكرة والاختلاف المؤذي للنفوس، لا نكاد نستثني من ذلك إلا هذه البيئات الخاصة التي كانت تمتاز بالعكوف على اللذات والانصراف إلى الشعر والموسيقى والغناء، ولكن ابن حزم يعطينا في كتابه «طوق الحمامة» صورة أخرى لإسبانيا المسلمة في ذلك العهد، صورة وطن كان الناس فيه جميعا يذوقون الحب، ويبلون لذاته وآلامه، يتعرضون له كما يتعرضون لغيره من محن الحياة، بل يتعرضون له كما يتعرضون للموت، لا فرق في ذلك بين أصحاب الجد منهم وأصحاب الهزل، ولا بين الذين يفرغون للعلم والدين، والذين يفرغون للأدب والفن، والذين يفرغون للسياسة والحرب.
وأكبر الظن أن أمور الناس كلهم تجري على هذا النحو في جميع أقطار الأرض، ولكن حظوظ الناس من الحرية في تصوير هذا والتعبير عنه تختلف باختلاف الأوطان والبيئات والظروف، والظاهر أن إسبانيا المسلمة كانت على حظ عظيم لا في الحب وحده بل في التحدث عن الحب أيضا، ومن الحق أن ابن حزم تحرج شيئا أو كاد يتحرج شيئا من الكتابة في هذا الموضوع، ولكنه لم يلبث أن يعفي نفسه من هذا الحرج بآثار رواها في أول الكتاب وبحض على الطاعة ونهي عن المعصية، وترغيب في الفقه سجلها في آخر الكتاب، فقد روى ابن حزم بسنده المتصل إلى أبي الدرداء رحمه الله أنه كان يقول: «أجموا النفوس بشيء من الباطل؛ ليكون عونا لها على الحق.» وروى آثارا أخرى عن جماعة من السلف الصالح رحمهم الله.
وكان هذا أشبه باستئذان للدخول في هذا الموضوع الخطير الذي يظهر أن ابن حزم فكر فيه وعاش معه منذ نشأ إلى أن مات، وأخص ما يتفق فيه ابن حزم وستندال أنهما لم يريدا أن يكتبا في الحب كتابة المتزيد المتكلف، وإنما أرادا أن يكتبا فيه كتابة العالم الذي يؤثر البحث والاستقصاء، ويعتمد على الملاحظة والمشاهدة، ويستنبط من هذا كله أصولا وقواعد هي أشبه بالعلم وأقرب إليه من شبهها بالأدب وقربها إليه، فليس الذي يعنيهما أن يرويا الأخبار ولا أن يستنبئا الخيال ولا أن يفلسفا في غير موضع للفلسفة، وإنما الذي يعنيهما أن ينظرا إلى الواقع ويعمدا إليه ويأخذا منه في غير تكلف ولا تصنع أيضا، كلاهما يريد العلم ويعتمد على الظواهر الواقعة، ولكن أحدهما يعيش في القرن الحادي عشر، والآخر يعيش في القرن التاسع عشر، وبين حياة العقل الإنساني في هذين العصرين أمد بعيد؛ فابن حزم يعيش في عهد الكلام وما بعد الطبيعة، وستندال يعيش في عهد العلم والتجربة، فليس غريبا أن يكون ابن حزم فيلسوفا حين يفسر الظواهر الواقعة، وأن يكون ستندال عمليا حين يفسر هذه الظواهر نفسها.
ومن هنا عمد ابن حزم إلى تعريف الحب كما كان الناس في عصره يعمدون إلى تعريف كل شيء، وعمد إلى تعريفه على النحو الفلسفي الذي ألفه أصحاب المنطق؛ فهو يثبت قبل كل شيء أن الحب حقيقة واقعة لا منصرف عنها ولا تخلص منها، وأنه من أجل ذلك شيء مباح لا ينكره الدين ولا العرف ما دام لا يتجاوز حدود الدين والعرف، وهو يذكر الحب الذي ألم بطائفة من خلفاء بني أمية في الأندلس ومن خلفاء الفاطميين في مصر، والحب الذي ألم ببعض الفقهاء من أبناء الصحابة والتابعين وما أفتى به ابن عباس رحمه الله في بعض الأمور التي تتصل بالحب، ثم يذكر بعد ذلك «مائية الحب» كما يقول، وهي كلمة يأخذها من «ما»، وهي توازي كلمة «الماهية » عند الشرقيين من أصحاب المنطق والفلسفة، كأن الشرقيين يأخذون كلمتهم من «ما هو»، وكأن ابن حزم وأصحابه الأندلسيين يأخذون كلمتهم من «ما» وحدها، فيجعلون الألف همزة حين ينسبون. ومائية الحب كما يقول ابن حزم، أو ماهيته كما يقول الشرقيون؛ هي عند ابن حزم: «الاتصال بين أجزاء النفس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع.» كان ابن حزم يذهب إلى ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من قدماء اليونان من أن هناك عنصرا رفيعا تأتلف منه نفس واحدة قد قسمت أجزاؤها على المخلوقات ذوات النفوس، فقد يحدث اتصال بين بعض هذه الأجزاء المقسمة بين الناس فيكون الحب، وقد يحدث انفصال فيكون البغض، وبمقدار ما يكون الاتصال قويا أو ضعيفا يقوى الحب أو يضعف، وبمقدار ما يكون الانفصال قويا أو ضعيفا يشتد البغض أو يلين.
وهذا الاتصال إنما هو ملاءمة في الشكل وتشابه في الطبع وحنين جزء من النفس إلى جزء آخر من النفس، والأعراض الطارئة هي التي تباعد بين هذه الأجزاء أو تتيح لها أن تقترب وتأتلف، وابن حزم لا يحب أن يذهب مذهب إمامه محمد بن داود الظاهري ومذهب غيره من الفلاسفة الذين يرون أن النفوس كرات مستقلة تستقر في المخلوقات إلى حين، وإنما هو يرى أن النفوس أجزاء من نفس واحدة قد قسمت على المخلوقات إلى حين، ثم هي تعود إلى أصلها، وإن كان ابن حزم لم يصرح بهذه العودة في هذا الكتاب، والشيء المهم هو أن الحب عند ابن حزم لا يأتي من الأجسام وإنما يأتي من النفوس، وليست الأجسام في حقيقة الأمر إلا وسائط ووسائل تتيح للنفوس أن تتقارب أو أن تتباعد، وآية ذلك أن من الناس من يحب شخصا تنقصه هذه الخصلة أو تلك من خصال الجمال الجسمي وهو يعلم أن بين الناس من يستوفون خصال الجمال كلها أو أكثرها، ومن يزيدون على محبوبه في هذه الخصال، فلو كان الجمال الجسمي مصدر الحب لما أمكن أن يحب الإنسان شخصا قبيحا أو منقوص الحسن، ونحن نعلم أن العاشقين لمن لا يبلغ الحسن فيهم أقصاه ولمن يقدر عليهم القبح ليسوا قليلين، ولا تفسير لذلك عند ابن حزم إلا أن الحب ظاهرة تتصل بالنفوس ولا تتصل بالأجسام إلا اتصالا عارضا، فنحن هنا أمام بحث فلسفي يتصل بما بعد الطبيعة أكثر مما يتصل بالطبيعة نفسها، أو قل: إنه يتخذ الطبيعة سلما يرقى فيه إلى ما بعد الطبيعة، وليس شيء من هذا كله غريبا؛ فابن حزم يعيش في القرن الحادي عشر، والعلم عنده ما ورث عن الفلاسفة والمتكلمين.
فأما ستندال فهو لا يعمد إلى التعريف ولا يفكر في الاستنباط المنطقي، وإنما يعمد إلى الاستقراء والاستقصاء، فهو لا يعرف الحب جملة وإنما يستقصي أنواع الحب عند أفراد الناس وعند أصنافهم، وهو يضع أصلا في أول كتابه لا يكاد يحققه حتى يشك في دقته ويفتح باب الاستقراء والاستقصاء من جديد.
Página desconocida