ثم هو يزعم أنه محام نزيه، حريص على كرامة المهنة، ولكن نزاهته هذه ظاهرة لا تثبت أمام البحث والتمحيص؛ فقد كان قانون المحاماة يحظر على المحامين أن يأخذوا من موكليهم أجورا لما ينهضون به من أعباء الدفاع عنهم أمام القضاء.
وكان سيسرون نفسه يخاصم بعض زملائه، ويزعم أنهم يتقاضون هذه الأجور التي يحظرها القانون، ولكنه هو نفسه كان يتقاضى أجره من موكليه بطرق ملتوية لا تلائم النزاهة ولا الشرف؛ فكتبه تشهد عليه بأنه كان يتفق مع موكليه مشافهة على أن يهدوا إليه الهدايا بعد أن يكسب لهم قضاياهم .
وكانت هذه الهدايا تحمل إليه، ولم تكن يسيرة ولا هينة، وإنما كانت ضخمة عظيمة الخطر، فهو مثلا قد ترافع عن أهل صقلية حين اتهموا حاكمهم بالإسراف عليهم في البغي والظلم، فلما ربح لهم قضيتهم أهدوا إليه سفنا كثيرة قد شحنت قمحا، وكانت روما في حاجة إلى القمح، وكان سيسرون يرشح نفسه للانتخاب في منصب من مناصب الدولة، فما هي إلا أن يوزع القمح على أهل روما وينجح في الانتخاب.
وترافع مرة عن أحد موكليه فأهدى إليه بعد أن ربح القضية خزانة كتب كاملة كان يملكها في بلاد اليونان، واحتاج نقلها مما وراء البحر إلى جهد عظيم وعناء كثير، ثم هو كان يزعم أنه رجل شريف في سيرته السياسية، وفي كل ما يتصل بالانتخاب خاصة، ولكن كتبه تشهد عليه بأن سياسته لم تكن إلا مداورة ومصانعة، وأنه كان يصطنع من إفساد الانتخاب، برشوة الناخبين وأخذ أصواتهم بالترغيب مرة وبالترهيب مرة أخرى، ما كان يصطنعه غيره من المرشحين لمناصب الدولة.
وكان بعد هذا كله، ينصح في كتبه وخطبه بالقصد والاعتدال وإيثار الشظف والخشونة، ولكن رسائله الخاصة تشهد عليه بأنه كان مترفا مسرفا في الترف، يغلو في حب المظاهر، ولا يطمئن إلا إذا نال من مظاهر الثروة والرفعة ما يلائم غروره الذي لا حد له.
وكان على هذا كله شجاعا في القول جبانا في السيرة، يخاف حتى من ظله، ويتملق رغبة في التملق وخوفا على حياته وإيثارا لعافيته، ثم يسخر من هذا كله في رسائله الخاصة؛ لأنه لم يكن يريد إلا أن يحيا ويستمتع بالحياة.
وكان يخاصم الحكام المرتشين ويعرضهم للقضاء عليهم بالغرامات، ولكن كتبه تعترف عليه بأنه حين تولى الحكم في بعض الأقاليم أظهر سيرة حسنة ورفقا بالرعية، ولكنه أضمر مكرا وقسوة، واستغل منصبه استغلالا منكرا.
كل هذه الخصال والآثام تشهد بها الرسائل الخاصة التي أرسلها إلى صديقه أتيكوس، وقد ارتفعت بينهما الكلفة وزال بينهما الحرج، فأفضى كل منهما إلى صاحبه بذات نفسه في غير تحفظ ولا احتياط.
وواضح جدا أن نشر هذه الرسائل بأمر أوكتاف إن قصد به إلى شيء فإنما يقصد به الكيد لسيسرون بعد موته، وإلى الإذاعة التي تظهر من ثنائه على قيصر وأوكتاف وأنطوان ما كان يخفي؛ ليعلم الجمهوريون أنه لم يكن زعيما مخلصا صادقا، وإنما كان طالب منفعة وصاحب رياء.
أما الجزء الثاني من رسائل سيسرون فقد اشترك في نشره ماركوس بن سيسرون وتيرون مولاه، وأشرف على عملهما أتيكوس نفسه، وهو يشتمل على رسائله إلى أعضاء أسرته، وإلى بعض أصدقائه، وإلى بروتوس منهم خاصة، وفي هذه الكتب ذم أي ذم لأنطوان وتحريض عليه، وثناء على قيصر وأوكتاف، وإظهار لتلون سيسرون في السياسة من جهة، ولضعفه وغفلته من جهة أخرى.
Página desconocida