فالنفس البشرية إذا استلهمت القدرة من العقل الإلهي تغلبت على عجز المادة والجسد وصعدت إلى معدنها الأول، فخلصت إلى عالم البقاء الذي لا يشوبه فساد، ولكنها إذا رزحت بثقل المادة واستسلمت لعجزها ونسيت قدرتها على مكافحتها هبطت من جسد إلى جسد أحقر منه وأدنى، فكانت في جسم حيوان بعد أن كانت في جسم إنسان، وانحدرت من حيوان كريم إلى حشرة لئيمة، حتى تفيق من غشيتها وتستأنف في عالم العقل المجرد سيرتها الأولى.
فالهيولى مقاومة للعقل المجرد وليست موجودة بمشيئته من العدم، ولعل أفلاطون لم يحاول أن يردها إلى العدم، أو يقول بوجودها من العدم؛ لأنها كانت حقيقة واقعة في رأي سابقيه من فلاسفة اليونان، ولأنها ساعدته على تعليل النقص والشر والألم، فوقف بها بين الكمال المطلق الذي ينبغي للإله الأعظم، وبين عوارض القصور التي تقترن بغيره من الموجودات. •••
وقام بعد أفلاطون تلميذه العظيم «أرسطو» فتوسع فيما بعد الطبيعة توسعا لم يسبق إليه بين فلاسفة الأوائل، ووضع للجدل معياره الذي سمي بعد ذلك بعلم المنطق، وفصل بين الحدود فبالغ أحيانا في الفصل بينها، ولكنه أقام القواعد الأولى على أساس صحيح.
والله عند أرسطو هو العلة الأولى أو المحرك الأول.
فلا بد لهذه المتحركات من محرك، ولا بد للمحرك من محرك آخر متقدم عليه، وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته، أو محرك لا يتحرك؛ لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية.
وهذا المحرك الذي لا يتحرك لا بد أن يكون سرمدا لا أول له ولا آخر، وأن يكون كاملا منزها عن النقص والتركيب والتعدد، وأن يكون مستغنيا بوجوده عن كل موجود.
وهذا المحرك الأول سابق للعالم في وجوده سبق العلة لا سبق الزمان، كما تسبق المقدمات نتائجها في العقل ولكنها لا تسبقها في الترتيب الزمني؛ لأن الزمان حركة العالم، فهو لا يسبقه، أو كما قال: «لا يخلق العالم في زمان.»
وعلى هذا يقول أرسطو بقدم العالم على سبيل الترجيح الذي يقارب اليقين، إلا أنه يقرر في كتاب «الجدل» أن قدم العالم مسألة لا تثبت بالبرهان.
وإجمال براهينه في هذه القضية أن إحداث العالم يستلزم تغييرا في إرادة الله والله منزه عن الغير، فهو إذا أحدث العالم فإنما يحدثه ليبقى جل جلاله كما كان، أو يحدثه لما هو أفضل، أو يحدثه لما هو مفضول، وكل هذه الفروض بعيدة عما يتصوره أرسطو في حق الله، فإذا حدث العالم وبقي الله كما كان فذاك عبث والله منزه عن العبث، وإذا أحدثه ليصبح أفضل مما كان فلا محل للزيادة على كماله، وإذا أحدثه ليصبح مفضولا فذلك نقص يتنزه عنه الكمال.
وإذا كانت إرادة الله قديمة لا تتغير - فوجود العالم ينبغي أن يكون قديما كإرادة الله؛ لأن إرادة الله هي علة وجود العالم، وليست هذه العلة مفتقرة إلى سبب خارج عنها، فلا موجب إذن لتأخر المعلول عن علته، أو لتأخر الموجودات عن سببها الذي لا سبب لها غيره.
Página desconocida