وضعت يدي على جبهته واطمأننت على انخفاض درجة الحرارة على الرغم من استمرار الحمى والهذيان والغيبوبة، وتذكرت الاسم الذي التقطته أذني قبل ذلك وإن لم أهتم به أو أسأل عنه. لعله حكى لي عن تعلقه به في المدرسة، وربما حدثني - وهو يطلق ضحكته الظافرة المجلجلة التي كان يعلم كم تضايقني لأنها لا تناسب وقاره ومكانته العلمية - عن المنظار الكبير الذي كان يجذبه لزيارته في بيته وملازمته ساعات يتأمل فيها النجوم في قبة السماء كلما دعاه وسمح له بذلك. لم أكترث بمعرفة شيء آخر عن معلمه وعلاقته به؛ فقد أحس قلب الزوجة والأم أن هذا المعلم العجوز - إن كان لا يزال حيا - هو الوحيد الذي سيرد الحياة لزوجي وينتشله من محنته ومحنتنا المباغتة. سألت وسألت حتى عرفت من الأستاذ محمد - شقيق زوجي الأصغر الذي نزلنا عنده والمدرس في المعهد التجاري - أنه لا يزال حيا، وإن كان لكبر سنه وثقل سمعه في حكم الميت الحي أو الحي الميت، وخرجت من باب البيت وأغلقته خلفي دون أن يشعر أحد بي ولا بتصميمي على العثور عليه مهما كان الثمن. •••
مشيت مسرعة حتى وصلت إلى أول الشارع الرئيسي على أطراف المزارع ووقفت على الصف الذي يوجد فيه مبنى المحكمة والمعهد الديني القريب منها، وأشرت إلى حنطور عابر فتوقف السائق الشاب وسألني في أدب عن وجهتي. قلت له: إنني أبحث عن عنوان الأستاذ محمد علام مدرس العلوم والرياضة العجوز. قطب حاجبيه وفرك تجاعيد جبهته بأصابعه بحثا عن علامة مميزة حتى ذكرت له المرصد فخرجت منه صيحة أشبه بصيحة ديك منتصر على جحافل الليل المنهزم: آه! مرصد حلوان! لماذا لم تقولي هذا من الصبح؟ حالا يا هانم. دقائق ونكون أمام بيته. إنه على المعاش من سنين ولكن لا يشبع! قلت ضاحكة: تقصد لا يسمع؟! قال: وهذا أيضا، لكنه رجل طيب ولا يتأخر عن فعل الخير. قلت في نفسي وأنا أدعو الله أن يستجيب لي: ولهذا قصدته في أمر ضروري.
مرت العربة بشوارع وحواري متربة تراصت فيها البيوت الطينية كما تراص الذباب والأطفال والنساء في ثيابهن السود على أبوابها، وأكوام السباخ والقش والقمامة على جانبيها، حتى وقف فجأة أمام بيت ذي شرفة واسعة وسور من الطوب الأحمر لم يتم طلاؤه وكأنه فيللا ناصعة البياض وسط العشش والأكواخ والجدران الرمادية الكالحة. شكرت السائق ونقدته أجرته وطلبت منه أن ينتظر، دعا لي بالستر وطلب مني أن أبلغ سلام مغاوري للمرصد فوعدته خيرا، وفتحت الباب الحديدي الذي لم يبد مقاومة وأسرعت بارتقاء درجات السلم والطرق على الباب الخشبي العريض. أطلت من ورائه امرأة سبقها صوتها الرفيع الحاد، لم تكد تفتح الشراعة حتى استفسرت عن طلبي، ولم تكد توارب ضلفة الباب حتى بادرتها في لهفة وأنا أحاول أن أستجمع أنفاسي اللاهثة: أرجوك، أريد الأستاذ علام، أقصد المرصد، أقصد مرصد حلوان، أرجوك أسرعي.
ولم يطل ارتباك «سيدة» التي تجمدت أمامي من الذهول؛ إذ سرعان ما فتح باب جانبي في القاعة الواسعة المتواضعة الأثاث وخرج المرصد نفسه بجلبابه الأبيض الطويل والطاقية الحريرية المحبوكة على رأسه وهو يسند جسده الطويل السمين على عصا ويطرقع بالقبقاب في قدميه ويقول بصوت ممدود: من يا سيدة؟ •••
قبل أن يحجل بساقه التي يبسها الروماتيزم ويستقر في داخل الحنطور كالصيد العجوز الذي سقط في حفرة وطوقته الشبكة كنت قد استطعت أن أذكره بتلميذه القديم وأبين له مقدار حاجته إلى مساعدته. انهمرت كلماتي الملهوفة كزخات المطر المتساقط في حفرة غائرة منسية ، وكان علي أن أسرج ألف شمعة في ظلام الزمن والذاكرة التي كادت أن تنطفئ. راحت كلماتي وتنهداتي ودموعي تتدافع بغير ترتيب وهي تتصادم كالعصافير المذعورة على أبواب أذنيه ورأسه العجوز الخرب. لم أنتظر منه ردا ولا استفسارا ولم أبال إن كان قد سمع أو لم يسمع وفهم أو لم يفهم؛ فقد اتضح لي بما لا يقبل الشك أن سمعه ثقيل كما قال لي شقيق زوجي وكما أكد سائق الحنطور، ولكن لهفتي على سرد وقائع المحنة بكل تفاصيلها كانت أقوى من كل رغبة في الانتظار أو الإشفاق عليه. •••
تلميذك العزيز يا سيدي اشتاق للعودة إلى البلد. بعد أن صعد إلى النجوم ولمع أسمه في سماء الشهرة وكرمته الجهات العلمية في كندا والولايات المتحدة بالأوسمة والنياشين والجوائز صمم أن يلمس تراب البلد. حذرته من الوحل والذباب والناموس فلم يكترث. قلت له: ماذا تنتظر هناك ومن تنتظر؟ قال: هناك تراب أمي وأبي وزهرة، وكذلك أخي الأكبر الذي لم أره من سنين. لم أفطن لاسم زهرة ولم أعلق عليه. ظننته نوعا من الخلط الذي كان يهذي به أحيانا كالطفل أو المراهق الشقي الذي أعرفه وأحبه ولا أتوقف كثيرا عند كل كلمة يقولها، وذكر اسمك أيضا يا سيدي، ألست أنت المرصد؛ مرصد حلوان؟ ألم ترعه وتشجعه وتفتح أبواب السماء أمام عينه وعقله القلق؟ نعم، أنت الأستاذ علام مدرس العلوم والرياضة الذي احتضنه وأخذ بيده ربما أكثر من أبيه العجوز المشغول بالعبادة والتجارة. قال لي مرة: إنك كنت تسميه الولد «لا»، ولكنني لم أسأله عن سر هذه التسمية، وعندما كان يتذكرك وهو يتنهد معبرا عن حيرته وشوقه إلى لقائك كنت أكتفي بأن أقول له: لا يا دكتور لا! عندك الآن ما هو أهم ... لكنك بقيت دائما في باله، في حبة قلبه وعينه. هل هو الوفاء أم الحنين المرضي أم الارتباط بالجذور كما يقال؟ أهناك داع أن أحكي لك عن إنجازاته العلمية وكشوفه الفلكية؟ سمعت عن هذا؟! قرأت عنه أيضا في الصحف والمجلات؟! كان مشغولا بإحدى مهامه العلمية عندما صرح برغبته الأثيرة التي ظلت تتحرك في صدره كالشوكة في الجرح القديم. غضبت وقلت له إننا تركنا كندا التي تعلمت فيها وتفوقت ورزقت باثنين من أولادك، ولم نكد نصل إليها وتنال التكريم من الجمعية الفلكية حتى عادت ريمة إلى عادتها القديمة. ماذا بك؟ هل تحولت إلى ندابة لا يحلو لها العديد إلا في العرس؟ أكلما استقر بنا المقام في بلد وقلنا سنمد فيه الجذور تحن إلى جذورك في وحل بلدك؟ المهم رجعنا إلى مصر برغم الإلحاح والعروض والإغراءات السخية التي انهالت عليه، وفي مصر انهالت عليه عروض أخرى من الكلية والجمعية الفلكية والمرصد الجديد، وغرق في العمل وسبح في بحار التكريم، وعندما رجعنا إلى شقتنا في المعادي بعد تسلم الجائزة من الوزير ومعها وسام العلوم الذهبي تحركت الشوكة كما قلت في الجرح القديم، ورجعنا يا سيدي للوحل والتراب والذباب والناموس وللنكبة التي كانت تنتظرنا. •••
ماذا أقول لك يا عم علام؟ كيف أفهم ما حدث له وكيف أفسره؟ لست طبيبة نفسية حتى أحلله وأعرف مشاكله وعقده المكبوتة كما يقولون. إنني زوجته وأم أولاده، مجرد ربة أسرة عاجزة أمام رياح الماضي والحاضر والمستقبل، وأنت الذي عرفته في صباه وكنت أحن عليه من أبيه ربما تكون أقدر على معرفة الداء ولمس جذوره. آه! لعنة الله على الجذور الدفينة التي لا تترك فروع الشجرة في حالها!
هل تعلم ماذا فعلنا في أول يوم وصلنا فيه إلى البلد؟ أخذنا حنطورا قبل الغروب وذهبنا إلى المدرسة المهجورة، أجل أجل، نفس المدرسة التي علمته فيها ورعيته وضربته أيضا علقة ساخنة على قدميه! هل تذكر الآن؟! لم يقل لي سبب ضربه، اكتفى بالضحكة التي أعرفها من الولد الشقي وقال: من يومها وهم يسمونني الولد «لا»، ألست كذلك حتى اليوم يا لطيفة؟! وجلجلت ضحكته وهو يطوف بحوش المدرسة الخالية ويريني المكان الذي شدت فيه قدمه في الفلقة أمام التلاميذ والناظر والمدرسين، بينما أخذ يعلو صياحه كجرو صغير ينزعون أسنانه أو هدهد ينتفون ريشه: لا! لا! لا!
أجل يا سيدي المرصد، شيء مضحك بلا أدنى شك، والمضحك أيضا أنك لم تنس «اللا» أبدا بدليل أنك سمعتها تماما وضحكت حتى دمعت عيناك الصغيرتان الضيقتان، وتركنا المدرسة بعد أن مررنا على الفصول البائسة التي كان يجلس فيها، والسبورات المتآكلة التي كان يكتب عليها، والسور الحجري المتهدم الذي كان يقفز أحيانا من عليه، وحيينا البواب الصعيدي العجوز الذي لم يتذكره أبدا وركبنا الحنطور في طريقنا إلى بيت شقيقه الذي ينتظرنا على العشاء هو وأولاده. كانت سحب المساء قد تجمعت في صفحة الأفق وراحت تلف البلدة في عباءتها السوداء، واخترقت العربة والحصان الهزيل صفوف المارة والفلاحين العائدين من حقولهم بصعوبة. لا أخفي عليك أنني لم أستطع أن أكتم ضيقي وتأففي من المشوار كله، لكن أي ألم لا تكتمه الزوجة المحبة لأجل خاطر زوجها وأب عيالها، خصوصا إذا كان موهوبا ومشهورا مثل زوجي ومشاكسا وشقيا لم ينضج مثله؟ عبرنا الجسر الخشبي الذي يتوسط البلد وتتراكم على جانبيه أعداد غفيرة من باعة الفاكهة والخضراوات الذين كانوا يلمون قففهم ومقاطفهم ويستعدون للرجوع إلى بيوتهم، وسرحت قليلا فلم أتابع شيئا ولا أحدا ممن حولي ولم أنتبه للشوارع والحواري التي اجتازتها العربة الحنطور حتى أفقت على صوت محمود يقول لي: اذهبي أنت الآن، سأرجع بعد قليل ... لا لن أتأخر، مغاوري وحصانه يعرفان الطريق خيرا مني ومنك. •••
وقفز من العربة وغاب عن بصري. رأيته وهو ينعطف يمينا ثم يسارا بالقرب من كنيسة عتيقة بدت في الظلام كنافورة أثرية ضخمة، وتابعت قامته النحيلة المستقيمة العود وهو يسير مسرعا بجانب السور الأبيض الذي زرعت فوقه قوائم وقضبان حديدية مدببة الأطراف حتى اختفى من دائرة الرؤية. ربما تساءلت ماذا يجعله يسرع هكذا وكأنه على موعد سابق ومن يا ترى الذي ينتظره؟ لكنني انصرفت عن التفكير في شيء لن أفوز منه بشيء، وبدأت أعاين الطريق المتجه إلى الطرف الجنوبي للبلدة وأتسلى بالتفرج على البيوت الجميلة والفيلل المطلية الجدران والأسوار بألوان فاقعة، واستمعت وأنا صامتة إلى تعليقات مغاوري الذي تقمص دور المرشد السياحي وأخذ يحدثني عن أصحابها الذين رجعوا من السعودية والخليج ومعهم زكائب الذهب وفتحوا التوكيلات والسوبر ماركات وكانوا قبلها لا يجدون اللقمة والهدمة.
Página desconocida