9
هاتف الصديق فور وصوله بعد أن تأكد من الرقم المنسي واستأذنه في زيارة عاجلة. رحب به الرجل النبيل واعتذر بسبب مشوار إلى البلد لا يحتمل التأجيل. - خير إن شاء الله، هل أراك بعد رجوعي مساء غد؟ - سأكون في الطائرة التي تقلني في رحلة العودة، خطفت خروجية لمدة ثمان وأربعين ساعة وليتني أراك. - وأنا أيضا، خسارة، إن شاء الله. - لا أدري كيف أعتذر عن التقصير، لعنة الله على الظروف والتطلعات، المهم أنني جمعت مبلغا لا بأس به ويسعدني أن أساهم. - لا أفهم شيئا. - يعز علي أن تكون وحدك، أقصد صديقك وابنه شفاه الله. - خل فلوسك في جيبك. - ماذا تقصد؟ - الابن رحمه الله من عذابه بعد سفرك بيومين، والأب لحق به بعد أيام. - لا إله إلا الله، بهذه السرعة؟ - الدنيا لله، كنت في البلد ولم أتمكن حتى من المشي في الجنازة، توالت الأحداث أسرع من الخيال، ربما لم تسمح الظروف حتى بإقامة الجنازة. - كل هذا النحس يا ربي؟ هل تأكدت بنفسك من المستشفى؟ - طبعا طبعا، ذهبت بمجرد حضوري من البلد ومعي مبلغ كبير، قالوا: البقية في حياتك، الأب أيضا أحضرته عربة إسعاف ومات في نفس الليلة. قلت لهم: من الذي جهزه وليس له أحد؟ ضحكوا وقالوا: هذه شغلتنا. ليس هو أو ابنه أول ولا آخر من تحملهم عربة المستشفى إلى مقابر الصدقات، أتعرف ماذا تمنيت على الله في هذه اللحظة؟ - وهل بقي شيء تتمناه ؟ - أن يكونوا دفنوه بجوار ابنه، كانت هذه هي أمنيته الوحيدة.
10
غادر مسكنه بسرعة دون أن ينظر في عيون طفليه التي أطلت منها الدهشة والتعجب الشديد من حاله. لم يجب كذلك على أسئلة زوجته التي انهمرت فوق رأسه كقطرات المطر وراحت تتسرب إلى مقبرة الذاكرة وتنبش فيها. واستقل عربة أجرة حملته إلى نفس المكان الذي وقف فيه قبل أسابيع على كورنيش النيل. كان وجوم المساء الشتوي يجلل المكان وما فيه ويغطيه بغشاوة داكنة من السأم والاكتئاب والغيبوبة، وخيل إليه أن الغياب قد ابتلع كل ما هو حاضر أمام عينيه. حتى العابرين على الجسر والعشاق القليلين على السور الحجري المنخفض وبائعي الترمس والذرة المشوية والمصابيح المتوهجة وأكوام القمامة المتراكمة بروائحها الكريهة لم تشعره إلا بالتوغل مع كل خطوة في نفق الغياب. أخذ يذرع الكورنيش جيئة وذهابا ويمد بصره إلى البواخر السياحية العابرة ومراكب الصيادين الفقراء في الهلاهيل التي تكشف عن عري أجسادهم النحيلة ولا تسترها. تمنى أن يجد مقهى يجلس فيه ويسكت مطارق الصداع الوحشي بفنجان من الشاي أو القهوة، وآذن الليل بالانتصاف ففكر في الرجوع حتى لا يتعرض للشبهات أو للأسئلة الخرساء التي تهدد بالانقضاض عليه، وخيل إليه لحظة ابتعاده عن الشاطئ أنه يسمع صوت الاستغاثة التي تشق صفحة الماء، تتلوها صرخات استغاثات مكتومة تخرج من جوف الأرض وتنفذ من فتحات النوافذ في العمائر المطلة على الشاطئ وتتصاعد من الأشجار الهامدة في الظلام، وألقى نظرة أخيرة على جسد النيل الراكد كبطن حوت أبدي يحتضر فهالته حشود الأيدي التي تشق المياه الآسنة وهي تزحف وتتلوى وتتكاثر كأيدي الغرقى أو الجنود المهزومين. توقف في مكانه وعاودته الرعشة التي ترج جسده كالزلزال وتساءل في همس تشويه رنة السخرية: بمن تستغيثون وقد مات الضمير؟
1
لا ...
لأن الحادثة التي وقعت في البلدة الريفية القريبة من البحر قبل أكثر من ثلاثين سنة كانت غريبة وفظيعة، ولأن الحادثة التي جرت وقائعها في نفس البلدة قبل شهور قليلة لا تقل عنها غرابة وفظاعة، فقد آثر الراوي أن يخفي شخصه وعقله ولسانه وراء الأطراف الثلاثة الذين كان لهم الدور الأكبر فيها؛ لذلك يترك لهم الحديث مكتفيا بتدوين ما قالوه ...
1
قالت لطيفة هانم زوجة العالم الفلكي الدكتور محمود نجم - المشهور في الدوائر العلمية في مصر والخارج - وأم أبنائه الثلاثة:
لم يكد محمود يعبر مرحلة الخطر بعد أيام وليال لم يغمض لي فيها جفن حتى صممت على البحث عنه وإحضاره بأي وسيلة. كان زوجي قد تلفظ باسمه مرتين أثناء غيبوبته وهذيانه بعد إسعافه وإجراء غسيل المعدة له: تعال يا أستاذ علام، يا مرصد حلوان ثبت منظارك القديم علي، تعال، تعال، تعال!
Página desconocida