وضحك عزت بيه وهو يربت على كتفه: أستغفر الله، أستغفر الله، أفضالك سابقة يا حازم بيه.
وفتح حازم فمه ولكنه وجد أن المقام لا يسمح بأي مقال، وخاصة عندما نبهه عزت بك إلى الساعة وأن وقت التحرك قد أزف.
تأهبوا جميعا للقيام بعد أن فرغوا من شرب الشاي والكلام، وفكر الحاج نفسه بعد أداء الصلاة أنه يمكن أن يلحق وقته ويتوكل على الله، ولكن صوتا كزمجرة حيوان غاضب أو حشرجة طاحونة خربة وصل إلى أسماعهم قادما من الطرقة. تحول الطنين الخشن إلى صيحات مكتومة متلاحقة، طلقات غضب مدوية تبحث عبثا عن لفظ تدخل فيه وتنطق به. لم يطل عجبهم كثيرا؛ إذ وجدوا العجوز تشق طريقها بصعوبة كشجرة ليلية ضخمة متلفعة بملاءة السواد والحداد.
أما ابنتها التي كانت تسير بجوارها كالديدبان الحارس وتشدها من كتفها وذراعيها فكانت تحاول أن تكتم صرخاتها المولولة: ارجعي يا وليه، اعقلي يا مجنونة، الحقوني يا أولاد ، نفسك معنا يا خال.
6
وجه جمل غاضب يدمدم وينفخ من أوداجه ومنخريه هواء كالسعير، والأبصار شاخصة إليها وهي لا تنظر إلى أحد ولا ترى أحدا. خطوة خطوة كطفل ضخم عجوز لا زال يتعلم المشي، وذراعاها ممدودتان إلى اليمين والشمال كأنها تحاذر من الوقوع في هوة سحيقة. ماذا تريد؟ إلى أين تتجه؟ وما الذي أثارها وجعلها تغادر مرقدها الكهفي؟
وقف الجميع ذاهلين. الفزع والحيرة والاندهاش واليأس والعجز ترسم ظلالها على ملامح وجوههم ونظراتهم الزائغة. أسرع الحاج عبد الهادي إليها بعد أن أتم صلاته وختم تلاوته وطوى السجادة الحريرية الناعمة. حاول أن يسندها على كتفيه فنترت يده بعنف لم يتوقعه. تبسم وقال للحاضرين: تفضلوا يا حضرات، توكلوا أنتم على الله. مريضة وربنا يشفي كل مريض. ثم وهو يدعو حمادة الذي نهض محاولا التدخل بأي شيء: الوعي الباطن يا دكتور، ألا تسمونه كذلك؟ يفور ويمور ويخرج ما في البير، تفضلوا ولا تخافوا، هيا هيا، وصلنا للشباك، انظري الشمس طالعة والهوا الله عليه، يالله يا عالية، خطوة خطوة يا أختي، عدينا الصراط والحمد لله، تعالي نرجع في أمان الله، تمام يا حبيبتي. كله بأمره.
ظلوا ينظرون إلى الكابوس المتحرك أمامهم وهم لا يعون. صيحاتها المتلاحقة ونداؤها: تعال يا ولدي، تعال، تعال. لم يفهموه ولم يتذكروا أنهم سمعوه من قبل. ضمة يديها عندما اقتربت منهم. ماذا تعني وماذا تقول بغير كلام؟ كانت قد ضمت يديها وكورتهما كأنها تلملم كل ما قالوه وثرثروا فيه لتجمعه في قبضة يدها وتلقيه من النافذة المفتوحة كأنما ترميه على أكوام القمامة المتراصة في الخرابة العفنة المقززة أمام البيت الصغير. حتى كلام الخال لا يفهمون معناه. كيف تنادي على ولدها وولداها أمام عينيها ولم تنظر إلى واحد منهما نظرة واحدة توحي بأنها عرفته. هل كانت تستمع دون أن يشعروا لما يقولون؟ هل يتصور أن تفهم شيئا بعد كل ما جرى؟ وهل غفل الديدبان عن حراسته ولم تفطن لوقوفها على رأس الطرقة أمام الباب؟
قال الحاج عبد الهادي وهو يكرر محاولته معها فتنفض يده وذراعه بقوة، بينما يدفعها في حرص إلى باب حجرتها المكنونة في الظلام والنسيان: شدة وتزول يا حضرات، ربنا يشفيها ويشفي كل مريض، تفضلوا، تفضلوا.
لم يتفضل الحضور لأنهم نظروا إلى ساعاتهم في وقت واحد وأدركوا أن الوقت سرقهم. أخذ حازم ضيفه من يده وراح يسر إليه كلاما لا يسمعه غيرهما والضيف يهز رأسه ويشد على يده ليعفيه من الاعتذار، ونهض حمادة إلى التليفون وأدار القرص واستغرق في حديث دام عدة دقائق قبل أن يرفع صوته ويقول: كلمت الدكتور عوض، هو زميلي ودفعتي فلا تقلقوا، تفاهمنا على العلاج وربما يحضر إليها اليوم أو غدا بعد المغرب حسب ظروفه، الحالة معروفة والعلاج مستمر والشفاء من الله، أستأذنكم فلا بد أن أرجع الآن.
Página desconocida