هدأ الجو قليلا ولم يعد يسمع سوى رنين المعالق في الأكواب وصوت الشفاه التي تتجرع الشراب الدافئ المعطر بالنعناع، وانصرف الشيخ لطعامه الذي أقبل عليه بشهية فضحت نهمه الشديد وانكفاءه عليه كالمحروم على الرغم من تكراره لاسم الجلالة مع كل لقمة يزدردها من الفول والبيض المقلي بالزبدة، وانشغل عن الجميع الذين انشغلوا عنه أيضا بالحديث المعاد في السياسة وفساد الأحوال والإصلاح الذي بدا في الأفق كأنه الطرق على أبواب المحال، رمى الضيف نسخة الأهرام من يده وهو يزفر في غضب: شفتم المذبحة في قانا، والعالم نائم على أذنيه.
قال حمادة: ونحن نغط في أحلام السلام السعيد.
زفر الضيف مرة أخرى محاولا أن يوقف حمم السخط الكظيم: والله لم أنم لحظة واحدة، منظر الجثث والأطراف المتناثرة والرءوس المقطوعة والوجوه المحترقة، رعب، رعب حقيقي. زأر الخال من بعيد وهو يكرع الشاي بصوت مسموع: لا حول ولا قوة إلا بالله، أشراط الساعة يا ولدي،
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون .
وارتفع صوت حمادة وهو ينحني لتناول الجريدة ويمر بعينيه على الصور المخيفة: لم تكفهم صبرا وشاتيلا، وقبلها دير ياسين وكفر قاسم وعشرات وعشرات.
احتج الضيف معاتبا: هكذا نحن يا عرب، نبكي دائما على الأطلال، أليس كذلك يا حاج؟ لولا ضعفنا ما تجرءوا أبدا.
جمجم الحاج ثم قطع كلامه فجأة: وأعدوا لهم ...
قال حمادة موجها كلامه للضيف كأنه ينبهه من غفلته: قل لولا ضعف مصر ما تجرءوا، نحن الآن أضعف من أي وقت مضى.
قال الضيف متلفتا للوجوه التي حوله كمن يدافع عن قضية لا يثق تماما في قوتها: إنهم يفعلون كل شيء لتخريب مصر، وعندما يضرب القلب فالأطراف كما تعلم يا دكتور.
ولم يستطع حمادة أن يخفي امتعاضه فقال متأففا: الكلام سهل يا عزت بيه، جزء من غرورنا القديم وإعجابنا الزائف بأنفسنا.
Página desconocida